رغم أن الرحالة ابن جُبير الكناني الأندلسي، صاحب كتاب "ابن جبير" يُعدّ الرأس العربية الإسلامية المؤسسة لفكرة الترحال وتدوين أدب الرحلة، فإن ابن بطوطة فاقه شهرة، ويُذكر دائمًا بأنه أمير الرحالة العرب، بحسب جمعية كامبردج، وكتابه "تحفة النُّظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" يعتبره الكثيرون دائرة معارف مصغرة للعصر الذي عاش به، حسبما أورد الشيخ محمد عبد المنعم العريان، في تحقيقه لكتاب ابن بطوطة، الصادر عن دار إحياء العلوم في بيروت.
الغريب أن شهرة كتاب "تحفة النظار" طَغت على التعريف بصاحب الرحلة، ولم يتم ترجمة سيرته بشكلٍ مفصل، باستثناء سطور يسيرة أوردها ابن حجر العسقلاني في كتابه "الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة"، وابن خلدون في مقدمة "العِبر وديوان المبتدأ والخبر"، ولسان الدين بن الخطيب نقلًا عن أبي البركات البربري، حين اختصه بجملة: "هذا رجل له مشاركة يسيرة في الطلب"، وذلك في كتابه "الإحاطة في أخبار غرناطة".
في الثاني من شهر رجب لعام 725هـ، كان ابن بطوطة، صاحب الاثنين وعشرين عامًا، يتأهب لأداء مناسك الحجّ لأول مرة في حياته، لكن هذه الرحلة تحولت إلى ترحال وتطواف في الكثير من البلدان بالقارات الثلاث، دام لأكثر من تسعة وعشرين عامًا ونصف العام، قطع خلالها 121000 كيلو متر
رحلة بدأتْ بالصدفةِ وانتهتْ بالتخليد!
نستخلص من السطور اليسيرة التي أوردت ترجمة الرحالة الأشهر، بأنه: محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن يوسف اللواتي، يُنسب إلى قبيلة لواتة، إحدى قبائل الأمازيغ، وينتمي إلى أسرةٍ تَقلّد أكثر أفرادها منصب القضاء. وُلد بمدينة طنجة المغربية في 17 رجب لعام 703هـ. (25 فبراير 1304م.)، في عهد السلطان أبو يوسف بن أحمد بن عبد الحق، أحد سلاطين الدولة المرينية، المنحدرة من السلالة الأمازيغية، وحكمت مراكش من 1195م. حتى 1468 م.
في الثاني من شهر رجب لعام 725هـ، كان ابن بطوطة، صاحب الاثنين وعشرين عامًا، يتأهب لأداء مناسك الحجّ لأول مرة في حياته، لكن هذه الرحلة التي بدأت بوازع ديني تحوّلت إلى ترحال وتطواف في الكثير من البلدان بالقارّات الثلاث (إفريقيا، وآسيا، وأوروبا)، دام لأكثر من تسعة وعشرين عامًا ونصف العام، قطع خلالها 121000 كيلو متر.
يقول ابن بطوطة في كتابه الذي لم يخطّه بيده، وأملاه على محمد بن الجزي الكلبي، بتوجيه من السلطان أبو عنان فارس المريني: "كان خروجي من طنجة، مسقط رأسي، في يوم الخميس الثاني من شهر رجب الفرد، عام خمسة وعشرين وسبعمائة، معتمدًا حجَّ بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول ص.ع، منفردًا عن رفيق آنس بصحبته، وراكب أكون في جملته، لباعث في النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم. فحزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقتُ وطني مفارقة الطيور للوكور".
معتمدًا حجَّ بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول ص.ع، منفردًا عن رفيق آنس بصحبته، وراكب أكون في جملته، لباعث في النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم. فحزمتُ أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقتُ وطني مفارقة الطيور للوكور
كان زاد ابن بطوطة في رحلته ما يُغدق به الأمراء والسلاطين عليه، بعدما ينظم هو قصائده المادحة فيهم، لدرجة أنه تَقلّد مناصب رفيعة في عدد من الدول جراء تقرّبه من ملوكها، ويقول عبد المنعم العريان، في تحقيقه: "وهو كغيره من قدامى كُتّاب الرحلات والمؤرخين، لا يولي الشعوب وتطورها، وعاداتها، وتقاليدها، اهتمامًا إلا من خلال حديثه عن الملوك والسلاطين، كما يلاحظ عليه المديح المبالغ فيه للملوك والسلاطين ــ خاصة سلاطين الدولة المرينية ــ مما يكاد يصل إلى حد الملق".
ولعل ذيوع صيت "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفر"، جاء من ترجمته إلى أكثر من لغة، مثل الإنجليزية، والفرنسية، والبرتغالية، وبعض الفصول للألمانية، ناهيك بوصفِ كتاب وأطلس جامعة كامبردج لابن بطوطة بأنه "أمير الرحالة العرب".
المرأة في مسيرة ابن بطوطة زوجة مرحلية!
ومن المآخذ أدبيًا على الكتاب أن صاحب الرحلة لم يُضِف الكثير عن حياته الخاصة، لا قبل الرحلة، ولا خلالها، ولا بعدها، فلم يعطِ الكتاب البُعد الذاتي، أي أن تصنيف "تحفة النظار" بأنه من نوع أدب الرحلة ليس مُنصفًا تمامًا.
خلال كتابه يشير ابن بطوطة بشيءٍ من الإيجاز إلى زيجاته وجواريه، مثل أنه عندما وصل صفاقس، عقد على بنت أحد أمناء تونس، وهي التي أشار إليها قائلًا: "غادرت طرابلس ومعي أهلي ــ يقصد زوجته ــ"، ثم زيجة أخرى بالإسكندرية من بنت أحد طلبة فاس المرافقين له في رحلته
سافر ابن بطوطة وهو في مستهلّ شبابه، وعاد على مشارف الخمسين من عمره، ولم يُذكر أنه كان متزوجًا قبل الرحلة. وخلال كتابه يشير بشيءٍ من الإيجاز إلى زيجاته وجواريه، مثل أنه عندما وصل صفاقس، عقد على بنت أحد أمناء تونس، وهي التي أشار إليها قائلًا: "غادرت طرابلس ومعي أهلي ــ يقصد زوجته ــ"، ثم زيجة أخرى بالإسكندرية من بنت أحد طلبة فاس المرافقين له في رحلته.
أما من ناحية الجواري، فذكر أنه عندما غادر بخاري كانت له جارية على وشك الولادة، فولدت وهُما في طريقهما إلى الهند، وتُوفّيت بعد وصوله بشهرين فقط.
وفي الهند أيضًا كان قد حدثت تلك الواقعة التي يرويها بنفسه: "أهداني وزير سلطان دهلي عشر جوار من سبي الكفار، فأعطيت الذي جاء بهن واحدة منهن، فما رضي بذلك، وأخذ أصحابي ثلاثًا صغارًا منهن، وباقيهن لا أعرف ما اتفق عليه".
لم تدُم زيجات ابن بطوطة أكثر من الوقت الذي يقضيه في البلد التي يستقرّ به لمدة وجيزة، وبمجرّد الترحال كان يتمّ الطلاق؛ ففي جزائر ذيبة المهل (المالديف حاليًا)، تولّى القضاء، واستقرّ بها مدةً ممّا شجّعه على الزّواج من أربع نساء منها. ولمّا حان رحيله، طلّق اثنتين، والثالثة كانت تحمل جنينًا، فجعل لها أجلًا تسعة أشهر إن عاد ظلّت معه، وإلا، فأمرها بيدها، وانقضى الأجل ولم يعد، ولم يرد ذكر مصير ذلك الجنين بعد ذلك في كتابه. أما الرابعة فأبت إلا أن ترحل معه، متحدية عادات بلدِها التي تمنع اصطحاب الوافد لزوجته، لدرجة أن الوزير أرسل إليه نصّها: "اعطِ صداقات النساء، وديون الناس، وانصرفْ إذا شئت". ويُروى أن الزوجة التي هاجرت معه اشتاقت لأهلها بعدما داهمها المرض، فطلّقها، وعادت إلى وطنها!
ابن تيمية في رحلة ابن بطوطة... خلافٌ سنّي شهير
يستهلّ ابن بطوطة في "تحفة النظّار" مشاهداته لكلّ بلد يزوره بذكرِ سلطانِه، والاستفاضة في محاسنه، ثمّ علمائه وقضاته ومناقبهم. ويختتم بحكاية. واحدة من هذه الحكايات كانت عن ابن تيمية، الذي وصفه بـ"الشيخ ذي اللّوثة"، فقال عنه: "وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام، يتكلّم في الفنون إلا أن في عقله شيئًا".
ويستطرد ابن بطوطة حكايته عن ابن تيمية: "وكنتُ إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة، وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، فكان من جملة كلامه، أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر. فعارضه فقيهٌ مالكيٌّ يعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلّم به، فقامت العامّة، وضربوه بالأيدي والنِّعال ضربًا كثيرًا حتى سقطت عمّامته".
تلك الحكاية يُنكرها عُلماء السُّنّة جملة وتفصيلًا، رغم ذكرها في "الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة" لابن حجر العسقلاني، مشيرين إلى أنه نقلها عن خصومه ــ يقصدون ابن بطوطةـ، حيث يُفند موقع "الإسلام سؤال وجواب" هذه المسألة ردًا على أحد السائلين، بأن ابن بطوطة دخل دمشق في التاسع من رمضان لعام 726 هـ، وفي هذا التوقيت كان ابن تيمية سجينًا، وتوفي في محبسِه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...