تنتشر الأسلحة الحربية التي تطلق خرزاً ملوّناً بفترة الأعياد ويحملها جميع أطفال المدينة حتى سن التجنيد، فيحملون بنادق أخرى. تعتقد أنك محاصر وأنت تدخل أحد الأحياء لتتفاجأ بهم يصرخون بأعلى صوتهم "قف"، بحركةٍ بديهيةٍ تعلن استسلامك وترفع يديك وبحركةٍ بديهيةٍ أيضاً تبدأ بالشتم في داخلك وأنت تبتسم لهم، شتائم توازي حجم خوفك حين فاجأوك، تتجاوزهم وأنت تطلق اللعنات الصامتة لتدخل خندقاً يحميك من القذائف، ليس خندقاً نظاميّاً، يمكن أن تدعوه منزلاً لكنه يحمي من الكمائن الطائرة على أي حال، تفتح الباب وتدخل بثقة من لا يعرف عن الحرب إلا نشرات الأخبار لتفاجئك نفس العبارة: "قف"، لكنها أحادية الآن، لذا تتناقص كمية الرعب إلى أدنى درجاتها رغم يديك المرفوعتين إلى أعلى بشكلٍ لا إرادي، إنه طفل أحد أقرباء زوجتي يقف بوجهي عابساً يصوّب بندقية أطول منه نحوي، أبحث عن طفليّ فأراهما مختبئان خلف الباب، أقترب منهما فيهجمان باتجاهي ملوحين بأيديهما ومقلّدين أصوات الرصاص، أحاول معانقة ابني الأصغر فيبعدني ويقول لي "لقد أصبتك يجب أن تموت، لماذا تعانقني؟"، أنتظر أن أصحو من هذا الكابوس لكنه يرفض الانتهاء، منذ سنين وأنا أحاول أن أستيقظ ولا أستطيع.
الحرب لم تبتعد كثيراً، القادمون أقسى بكثير، حتى ولو كانوا أطفالي
في أحد أيام تشرين الأول وأثناء عودة الأولاد من المدرسة كنت أمارس عادتي في الوقوف خارج منزلي والنظر في وجوههم، باعتبار أن زوجتي كانت تحمل مولودنا الأول ولم أستطع تخيّل شكله، لذا كنت أنتظر ذهاب أو عودة الأطفال من المدرسة لأحاول أن أرسم لابنتي القادمة بعد خمسة أشهر وجهاً، أُطلقت عدّة رصاصات في الجوّ وهذا أمر تعودنا عليه، الأمر الصاعق هو الخلاف الحادّ الذي نشب بين طفلين ربما لم يتجاوزا الثامنة، حول البندقية التي أطلقت الرصاص، الأول قال هذه "كلاشن"، رد الثاني: "لا هذه بومباكشن"، ليعود الأول ويقول بتهكّم: "أنت لا تعرف شيئاً عن البنادق، لو كانت بومباكشن لكان الصوت أكبر من هذا، والمدّة بين الطلقة والطلقة ستكون أطول". من سيصدق أن هذا الحوار قد جرى بالفعل، من سيصدق أنني لم أجرؤ على النظر في وجهيهما حين كانا يتناقشان.
" آدم" ابن صديقي، في إحدى المرات كان يحمل مسدساً بلاستيكياً على خصره، سألته ماذا تفعل بهذا؟ أجاب: "نحنا الهيبة"، حين نظرت إلى صديقي وأردت التكلّم قاطعني:
"حتى سارتر سيقف عاجزاً أمام قناة طيور الجنة، ومسلسلات مثل الهيبة ودقيقة صمت".
في حادثةٍ شهيرة تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي، في أحد الأعراس كان هناك أب واقف يضع مسدسه أمامه على الطاولة وابنه بجواره، حين بدأت الموسيقا أخذ الوالد بالرقص رافعاً يديه للأعلى وكأنه سيّد الكون، لم ينتبه لطفله حين أمسك المسدس وضغط على الزناد فأصابه، في خاصرته، وبدأت حفلة الصراخ.
اخترتُ لولديَّ اسمين حياديين، لا علاقة لهما بطائفةٍ أو بدين حتى يتجنّبا الحكم المسبق على الشخص من اسمه، في بلادٍ كل من فيها يمتلك مواهب أجهزة المخابرات العالمية حين يحاول اكتشاف طائفتك من اسمك، وظننت أني بهذا أجنّبهما غباءً هم بالغنى عنه، القضية لم تعد في الآخر الآن، فيما يفكر نحوك أو كيف يقيّمك أو بماذا يرد عليك حين تتكلم، القضية في قاموس المفردات الذي يستخدمه طفليّ: بندقية، موت، مسدس، موت، رصاصة، موت، موت، موت، موت، موت"، كيف لطفلٍ لا يعرف من الحياة سوى اللعب أن يكبر وفي رأسه كل هذا الخراب؟
لم تعد الحرب مقتصرة على رجالٍ بلحى طويلة ونظرات قاسية وأصوات حادّة، أصبحت لعبة بيد أطفالٍ يفضّلونها على الذهاب إلى مدينة الملاهي، ويبكون بشدة إذا اعتذر الوالد عن شراء بندقية جديدة في أول أيام العيد
لا أستطيع تخيّل ماذا يمكن أن يحدث لاحقاً حين يكبر الأطفال ويستبدلون أسلحة البلاستيك بالحديد، والنظرة الضاحكة عندما يُطلقون الخرز الملوّن بنظراتٍ جافّة تشبه نظرات الأمناء العامين للأحزاب
" تنقصني دبابة فقط وتكتمل مجموعتي" هذا ما قاله طفلي، مجموعته المؤلفة من بندقية ومسدس وطائرة، ماذا سيفعل إذا اكتملت المجموعة لديه؟ أعتقد انه سيخطف والدته ويطالبني بفديةٍ ما، قذائف للدبابة الجديدة مثلاً، أو مخزن إضافي للمسدس الذي لا يفارقه، أو قنبلة.
لم تعد الحرب مقتصرة على رجالٍ بلحى طويلة ونظرات قاسية وأصوات حادّة، أصبحت لعبة بيد أطفالٍ يفضّلونها على الذهاب إلى مدينة الملاهي، ويبكون بشدة إذا اعتذر الوالد عن شراء بندقية جديدة في أول أيام العيد، لا أستطيع تخيّل ماذا يمكن أن يحدث لاحقاً حين يكبرون ويستبدلون البلاستيك بالحديد، والنظرة الضاحكة عندما يُطلقون الخرز الملوّن بنظراتٍ جافّة تشبه نظرات الأمناء العامين للأحزاب.
كيف تحوّلت الحرب من وحش بأنياب تقتلع الأعين وتكسّر الأضلاع والعظام إلى لعبةٍ سهلةٍ وبسيطةٍ ومبهرةٍ إلى هذا الحد؟
من يقنع طفليّ بأن الدببة المحشوّة والبطاريق الضاحكة والسيارات الملونة وقصص ليلى والذئب وسندريلا وبابا نويل، أهم بكثيرٍ من التدرّب على ألعاب الدم السهلة والبسيطة والمغرية والمبهرة بطريقةٍ لا يقبلها عقل؟
ماذا أقول للأطفال الذين يلعبون بحشوات قذائف الدبابات ورصاص البنادق وحلقات القنابل اليدوية وأقنعة مصاصي الدماء؟
من سيزيل السواتر بين المتحاربين بعد خمسين عاماً من الآن إذا كان كلّ جيلٍ يولد وتولد معه أسلحته؟
حين غادر" أيسر" البلاد مع زوجته وطفله قال جملةً واحدةً فقط:" أنا ما مهم، المهم نديم يكبر ببيئة صح ".
الحرب لم تبتعد كثيراً، القادمون أقسى بكثير، حتى ولو كانوا أطفالي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين