شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الأطفال العاملون في الشّوارع ليسوا سارقين ولا مجرمين

الأطفال العاملون في الشّوارع ليسوا سارقين ولا مجرمين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 12 مارس 201912:14 م
انتحر "ربيع"، أحرق نفسه في ليلة من ليالي المخيم مؤخراً، ابن الأربعة عشر ربيعاً قتل نفسه هرباً من مسح الأحذية والنوم على أرصفة بيروت. حاولت جاهدةً أن أنسى ملامح وجهه، أحاديثنا الطويلة عن شغفه بلقاء أهله وجميع محاولات لمّ الشمل التي فشلت. فوجد الموت هو الحلّ الأسرع. أدركت يومها أن عملي اليومي مع أطفال ليسوا لأنهم فقط فئة مهمشة، بل أنّهم مشاريع ضحايا أيضاً. الأول من أيلول/ سبتمبر 2015، البداية التي أوصلتني إلى ما أنا عليه اليوم. لم أعلم أنّ دخولي إلى ذاك المكتب في مكان عملي الجديد سيسطّر تغيرات ومراحل كثيرة لاحقة في حياتي. كجميع العاملين في مجال العمل الإنساني، فرحت جدًّا بقبولي هذه الوظيفة، فالمنظمة تعتبر من الأهم في المنطقة في هذا المجال. الأوّل من أيلول/ سبتمبر كان اللقاء الأول مع الأطفال العاملين في الشارع. كيف أنسى حين أُبلِغت أنّ عليّ أن أُقابل "أحمد" في "شارع الحمرا" لتعبئة استمارة خاصة به. "إنه الأعنف بين الأطفال في هذه المنطقة"، هي العبارة التي ذيّلت طلب المهمة. بدأت زيارتي الميدانية الأولى بقلق، فأنا كأي شخص يرى الأطفال العاملين في الشارع مصدراً للخطر، مخالفين للقانون، تابعين لعصابات، والأهم أننا نراهم كلّ شيء إلا أطفالاً. الزيارة الأولى كانت الأصعب. فاجأني "أحمد" بتصرفاته الغريبة وبكلامه الحذر. أنهى المقابلة بلهجته الدرعاوية، "ممكن بس إنت تجي؟ لأن باين عليكِ حبابة." فوجئتُ بحكمه وفرحت، فهو اعتبرني لطيفة من الزيارة الأولى. استمرّت زياراتي إلى شارع الحمرا سنتين ونصف السنة. أصبح الأطفال والشباب العاملون في الشارع جزءًا من حياتي المهنية والشخصية لأني ألتقي بهم يوميًا. شاهدت ظواهر غريبة بينهم، إحداها إنهم يتعاملون بعضهم مع بعض بطبقية مناطقية. الأطفال القادمون من الشام ومحيطها يعتبرون أنهم "درجة أعلى" من أطفال درعا ودير الزور، إلى حد أنّهم كانوا يشترطون أن نقسمهم إلى مجموعتين خلال النشاطات. مرّت الأيام و أصبح هؤلاء الأطفال جزءًا لا يتجزأ من يومياتنا، حتى بعد انتهاء فترة المشروع وتسليمه إلى جمعية أخرى. كان جزءاً من مهامي في المشروع المتعلقّ بالشباب العامل على الشارع، هو أن أشاركهم في مجموعة من الأنشطة، وهكذا كان لا بدّ لي من المشاركة في ماراتون بيروت – 2016. أنا، الفتاة التي تكره الاستيقاظ باكراَ أيام العطل، أتنقّل منذ السادسة صباحاً بين منطقة الكولا والطريق الجديدة جاهدةً لإيقاظهم وتحضيرهم! وصلنا إلى نقطة الانطلاق وكان عليّ أن أركض معهم، رغم أنّه لم يكن باستطاعتي المشي كثيراً حينها. لذلك قرروا - وبالإجماع - أن يساعدوني خلال الطريق، فعرض عليهم "محمد" أن يتناوبوا: "منركض شوي ومنتمشى شوي ومنتسلى". طلب منّي "طه" أن يستخدم هاتفي لكي يلتقط لنا الصور خلال الماراتون، بحجة أنّ الكاميرا ذات جودة أعلى من تلك التي في جواله؛ أربكني بتلك الضحكة التي تصاحب وجهه، قائلاً: "وإذا حكاكي العريس منقلّه معنا بأمان". هؤلاء الشباب الذين نحكم عليهم بحسب طبيعة عملهم ونمط حياتهم، تكتشف لاحقاً بعد أن تتعرّف عليهم عن كثب، أن الأحكام المسبقة هي أسوأ ما نقوم به في حياتنا. خلال هذا النهار الذي تشاركنا الضحكات فيه والتعب من الركض، تبادلنا الأدوار، فهم من أعطوني الاهتمام الكامل لأنهم اعتبروا أنهم أقوى منّي في الرياضة. ركضنا سوياً، ضحكنا وتشاركنا أحاديث طويلة عن رغبتهم بالعودة إلى أزقة مخيم اليرموك، عن مخاوفهم وأحلامهم عن سوريا ولبنان وفلسطين، عن عملهم على الشارع وتطلعاتهم، أخبرني "فادي" عن حلمه بالانتقال إلى ألمانيا ليكمل دراسته: "بدي صير دكتور وطبّب العالم ببلاش، نحن معترين". هل تعلمون أن هؤلاء الأطفال والشباب لا يختلفون عنّا بشيء سوى أنّ ظروف الحياة أجبرتهم أن يكونوا ما هم عليه؟ سأخبركم أيضًا عن "مؤمن" صاحب المواهب المتعددة. "مؤمن" الخجول، الجريء، العنيد، وخصوصًا الحنون. فوجئت يومًا بصديقة تكتب على صفحتها في موقع فايسبوك عن أنّ مؤمن رفض إبلاغي أنّه كسر يده كي لا أقلق عليه، فهو يعلم أنّي أحبّه وأهتمّ بأمره. التقيته بعد يومين فأخبرني أنّ لديه حجة مقنعة لعدم إخباري، وطلب مني الاستماع: "ليكي يا سينيتا هلق إيدي المكسورة أهمّ من أمّ محمد يلي بدها تفوت عالمستشفى؟ أو أهمّ من ولاد ثائر يلي بدّن أكل؟ اعتلي همهم إلهم هياها إيدي صارت منيحة." مؤمن ابن الخمسة عشر عامًا، الذي يعيش في ظروف أقل ما يقال فيها إنها لا إنسانية، يعمل أكثر من أربع عشرة ساعة يوميًا. طلب مني أن أهتم بمن يعتبرهم بحاجة لمساعدة أكثر منه. هؤلاء هم الأطفال العاملون في الشارع، ليسوا بسارقين ولا بمجرمين.
بدأت زيارتي الميدانية الأولى بقلق، فأنا كأي شخص يرى الأطفال العاملين في الشارع مصدراً للخطر، مخالفين للقانون، تابعين لعصابات، والأهم أننا نراهم كلّ شيء إلا أطفالاً.
هؤلاء الشباب الذين نحكم عليهم بحسب طبيعة عملهم ونمط حياتهم، تكتشف لاحقاً بعد أن تتعرّف عليهم عن كثب، أن الأحكام المسبقة هي أسوأ ما نقوم به في حياتنا.
مؤمن ابن الخمسة عشر عامًا، الذي يعيش في ظروف أقل ما يقال فيها إنها لا إنسانية، يعمل أكثر من أربع عشرة ساعة يوميًا. طلب مني أن أهتم بمن يعتبرهم بحاجة لمساعدة أكثر منه. هؤلاء هم الأطفال العاملون في الشارع، ليسوا بسارقين ولا بمجرمين.
الأطفال العاملون في الشارع وذووهم هم عائلات مثل عائلاتكم، هم ضحية الفقر والحرب والظلم والتهجير، جور الأقوى على الأضعف.
قصص كثيرة عاينّاها خلال العمل في هذا المشروع، قليلة تلك التي يمكن أن نعتبرها "قصة نجاح" لدرجة أنّ شعور الإحباط كان أكثر ما أشعر به خلال مدة عملي. إلى حين زيارتي دمشق مع بعض الأصدقاء، كنا نمشي في شارع " نسيب البكري" وإذ بي أسمع أحد الأشخاص يناديني باسمي. لم أعِر اهتمامًا، وكيف لأحد هنا أن يعرفني بالإسم.  لكن سمعته يكرّر مناداتي أكثر من مرة، فالتفتّ لأجد "عدنان"، أحد المشاركين السابقين في المشروع في بيروت. أنا التّي تتقيّد بمعايير سياسة حماية الأطفال إلى أقصى الحدود، لم أستطع أن أمنع نفسي من أن أغمره. ربما كان أجمل ما حصل معي خلال السنوات الثلاث أن ألتقي "عدنان" في دمشق ويخبرني أنه يعمل في فرن قريب لأنه اكتسب خبرة من خلال برنامج التدريب المهني الذي شارك فيه أثناء وجوده في بيروت، وأنّ "المعلم" يعامله بطريقة جيدة وأنه سيصبح صاحب فرن في وقت قريب. ودّعت عدنان وتركت معه قطعة من قلبي الفرِح. كانت المرة الأولى التي أشعر فيها بلذة الانتصار خلال ثلات سنوات. خلال ثلاث سنوات من الاحتكاك اليومي مع الأطفال العاملين في الشارع وأهلهم،  قصص لا تنتهي أستطيع أن أرويها، لكن التّحدّي الأكبر كان صعوبة العمل مع هذه الفئة من الأشخاص، وهذا المشروع تحديدًا، لأنّه لا يسمح لك برؤية فعالية المشروع، فعدد الأطفال الذين يوقفون العمل في الشارع بعد تقديم المساعدة هو قليل جدًا، لذلك أقنعت نفسي أنّ ترك أثر صغير في حياتهم أفضل من أن نبقى على الحياد. ربما نحن من يجب أن نشكرهم على مساعدتنا في تغيير نظرتنا إلى الفئات المهمّشة، ربما نحن من يجب أن نشكرهم على مساعدتنا على تحدي ذواتنا لنقدّم لهم الأفضل. الأطفال العاملون في الشارع وذووهم هم عائلات مثل عائلاتكم، هم ضحية الفقر والحرب والظلم والتهجير، جور الأقوى على الأضعف. أما بالنسبة إليّ، فهم درس لن أنساه ما حييت، ساعدوني أكثر بكثير مما أنا حاولت أن أقدّم.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image