شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
خصوصية البيانات كاللحم البشري... لا يُفرّط بها، لا تُباع ولا تُشترى

خصوصية البيانات كاللحم البشري... لا يُفرّط بها، لا تُباع ولا تُشترى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 25 أغسطس 201902:31 م

ثلاثة أخبار سريعة

-1-

كشفت فضيحة كامبريدج أنالاتيكا كيف يتمّ حصاد المعلومات من الفيسبوك وغيره من قنوات التواصل ليتم التلاعب عبرها بالرأي العام، والكثيرون يظنون أن دونالد ترامب فاز بالانتخابات نتيجة لهذا التلاعب، الذي تم عبره التحكّم بطبيعة الأخبار التي يتلقاها كل شخص في سبيل التأثير على معتقداته وأفكاره. هذه الفضيحة التي هدّدت فايسبوك هي جزء من العديد من العمليات السياسية التي كُشف جزء منها سابقاً مع إدوارد سنودين، الذي تعرفنا بسببه على عمليات الرقابة الشاملة على "كل الانترنيت"، وفي كلا الحالتين تتلاشى الديمقراطية أو تتغير قواعد اللعب ضمنها.

-2-

نُشر مؤخراً تقرير عن العلاقة بين التمرينات الرياضية وشركات التأمين الصحي والأدوية، وفيه نقرأ عن البرامج المجانية التي نستخدمها لضبط التمارين التي نقوم بها لنضبط أداءنا ونسجّل مقدار "صحتنا" و"نشاطنا"، والكيفية التي تباع فيها بياناتنا "الصحية" إلى شركات الأدوية، التي تظهر منتجاتها إما في ذات التطبيق أو على المنصات الأخرى، ووصل الأمر إلى بيع المعلومات إلى شركات التأمين الصحي، التي تمتلك حساباً عن كل شخص ومدى "صحّته"، ما قد يؤثر على طبيعة التأمين الذي يحصل عليه، فعبر هذه البيانات تتجنّب شركات التأمين "الاستثمارات" الخاسرة.

-3-

تدفع بعض الشركات موظفيها لارتداء ساعات يد تحوي تطبيقات متصلة مع شبكة الشركة، الهدف منها مراقبة أداء كل موظف، وتقييمه بناءً على أسلوب العمل، ومقدار الإنتاجية، ليتاح في النهاية للشركة مقارنة هذه النتائج ومكافئة الأكثر قدرة والأفضل أداء. هذا الأسلوب يحوّل مساحة العمل إلى ساحة حرب، الصراع فيها يتجاوز تحسين الأداء الشخصي، نحو تهديد الآخرين، وخلق نوع من العدوانية المقنّعة بالمنافسة بينهم، القائمة على تحويل "الجهد" إلى بيانات وأرقام تولّد لحظة بلحظة.

نحو حق إنساني -رقمي بالخصوصية

الأخبار الثلاثة السابقة تغطي أثر المعلومات التي نشاركها على حياتنا، ففي الحالة الأولى نرى التهديد الموجه ضد تعريفنا كبشر "مُسيّسين" نمتلك حرية القرار، وفي الثانية التهديد موجّه ضد "حياتنا" وحقنا بعيشها والضمانات الموجودة لأجلها، وفي الثالثة الأمر مرتبط بالعمل، والجهد الذي نبذله مقابل كسب حياتنا والحفاظ بها.

بالإمكان ذكر العديد من الأمثلة المرتبطة بالحق بالخصوصية والانتهاكات التي يتعرّض لها، لكن الفضائح والتطبيقات اللامتناهية لاستغلال هذه "البيانات"، جعل النظام السياسي نفسه عاجزاً عن الإحاطة بها، كونها تهدد الديموقراطية والنظام السياسي الذي لا يمتلك حلولاً واضحةً لهذه وأسلوب تقنينها، بل وانتهى الأمر بأن يقول مارك زوكربيرغ للكونجرس: "أنا آسف".

دعا المدير التنفيذي لمايكروسفت لأن تكون "خصوصية البيانات" حقاً إنسانياً، ويجب أن تتعامل الشركات الخاصة بمسؤولية وأخلاقية، وفي هذا السياق لابد من الذكر أن الولايات المتحدة ما زالت متأخرة في هذا الموضوع، إلا أن الأمم المتحدة صوّتت على حماية الخصوصية في العصر الرقمي بعد فضيحة سنودين، للوقوف بوجه "المراقبة الجماهيرية" التي تمارسها الولايات المتحدة والحكومات الأخرى على مواطنيها، وذلك لحماية حقوق الأفراد المدنية من التنصّت والاستخدام المسيء.

وجاء فيه نص التوصية: "نؤكد على الحق الإنساني بالخصوصية، وبناءً عليه لن يتعرّض أحد إلى إي تدخّلٍ اعتباطي أو لا قانوني يمس خصوصيتهـ(ا)، وأسرتـهـ(ا) ومنزلهـ(ا) ومراسلاتهـ(ا)، كما يجب على القانون أن يقف بوجه أي شكل من أشكال التدخل.".

يختلف الأمر في أوروبا، حيث أُقرَّ عام 2018 "النظام الأوروبي العام لحماية البيانات" الذي يعطي الحق لمواطني الاتحاد الأوروبي والموجودين ضمنه، بعدم منح معلوماتهم ومنع انتقالها خارج الاتحاد الأوربي، وهذا يطبق أيضاً على كل الشركات الفاعلة في أوروبا، ويحمي أيضاً هذا القرار البينات بجعلها مشفرة بالكامل، كما يحدّ من استخدامها، ويضمن أن يكون الاستخدام لأهدافٍ أخلاقية، كما يفرض التخلص من المعلومات بعد فترة محددة ومنع نسخها.

سؤال الكرامة الإنسانيّة

يرتبط مفهوم الكرامة الإنسانية بـ"الاستثناء البشري"، المرتبط بتاريخ ثقافي وأنثروبولوجي يرى في البشر "استثناء" عن باقي الكائنات لأنهم "أرقى"، وتتضمن الكرامة في جوهرها، الحفاظ على وحدة الجسد الإنساني وشكله، وحمايتها من الانتهاك المادي والرمزي سواء كان الجسد ميتاً أو حياً، لكن لا بد من إعادة النظر بمفهوم الإنسانية بأكمله، حين الحديث عن الكرامة البشرية في ظل العصر الرقمي، فالـ" meta -data" لابد أن تأخذ بعين الاعتبار  كجزء من التكوين العضوي للجسد البشري، و"الأثر" الذي نتركه في العالم الرقمي هو جزء "منا" فمعلوماتنا وبياناتنا، مشابهة لدمـ"نا" ، لأنها تلعب دوراً في تكويننا كبشر واعين بذاتنا، ذات الوظيفة التي يلعبها اللحم والدم.

ما سبق، لا يشير إليه النظام الأوربي العام، إذ تذكر في المادة 88 كلمة الكرامة الإنسانية في الباب المرتبط بالموظفين والعاملين ضمن السياق التالي: "التعليمات تتضمّن إجراءات ملائمة ودقيقة لحماية البيانات المرتبطة بالكرامة الإنسانية للفرد، واهتماماته المشروعة وحقوقه الأساسية، مع الأخذ بعين الاعتبار الشفافية في العمليات التي تتضمن نقل البيانات الشخيصة بين متعهدين أو شركات بينها أنشطة اقتصادية مختلفة، إلى جانب أنظمة المراقبة في مكان العمل".

يرى لوتشيانو فلوريدي البروفسور جامعة أوكسفورد والمختص في فلسفة وأخلاقيات المعلومات، أن النص السابق يفترض أن "الفرد" هو فقط الشخص البشري، لا الكيان القانوني، وأن الكرامة الإنسانية مختلفة عن "الاهتمامات المشروعة والحقوق الأساسية"، أي أن الخصوصية لا ترتبط بالكرامة الإنسانية بصورةٍ مباشرة، بل توظّف لحماية حقوقٍ أخرى كحرية التعبير والملكية.

نعود لمفهوم الكرامة الإنسانية وارتباطها بالتكوين البشري والهوية البشرية، خصوصاً أن الاستثناء أو الامتياز البشري ومع اختلاف مرجعياته، يفترض أننا قادرين على تقرير مصيرنا كبشر. كل فرد منا، قادر وواع بنفسه وحضوره، وهنا تكمن الإشكالية، ففي العصر الرقمي، يُنظر إلى "البشري" كمجموعةٍ من المعلومات والخوارزميات التي يمكن التلاعب بها للتحكم بـ"حياته"، وفهمه لذاته ومكانه في العالم، وتسرّب المعلومات أو عدم حمايتها وجعلها عرضة للتلاعب، مشابه لجعل جسد الواحد منا مفتوحاً للعلن دون حدود بين الداخل والخارج، ما قد يؤثر على خصوصيتنا كـ"بشر" وحريتنا ووعينا إن تم "التلاعب" بهذا الداخل.

النظر إلى الطبيعة البشرية في العصر الرقمي، يتطلب تفكيك مفهوم الثبات المرتبط بها، أي أن الوعي بالذات وشكلها وحدودها ليس ثابتاً، بل متغير مع الزمن، فالبشري في العصري الرقمي في تكوّن دائم، و"كرامته" جزء من عملية ديناميكية لا تكتمل، أو تتوقف، بل تتغير وتختلف أشكالها، لتأتي قوانين حماية الخصوصية كوسيلة للحفاظ على هذه الديناميكية من التلاعب، فالامتياز البشري و"التفوّق"، لا يرتبطان بصورة الجسد واللحم الثابتة، بل بالعملية المستمرة في الزمن عبر تبادل المعلومات بين "داخل" و"خارج" والتي تتم عبر قنوات تمتلكها شركات خاصة يمكن لها ببساطة بيعها أو التلاعب بها.

بالعودة للنص السابق، استثناء الكيانات القانونية أو المعترف بحقوقها، يطرح أيضاً تساؤلات عن المستقبل، هل نصون خصوصية الروبوتات أو أنظمة الذكاء الاصطناعي؟ وفي حال نُقل وعي أحدهم إلى حاسوب، هل يتمتع بذات الكرامة في حال تلاشى لحمه؟

 لا بد من إعادة النظر بمفهوم الإنسانية بأكمله، عند الحديث عن الكرامة البشرية في ظل العصر الرقمي، فالـ" meta -data" لابد أن تأخذ بعين الاعتبار كجزء من التكوين العضوي للجسد البشري، لأن "الأثر" الذي نتركه في العالم الرقمي هو جزء "منا" ومعلوماتنا وبياناتنا، مشابهة لدمـ"نا" ، لأنها تلعب دوراً في تكويننا كبشر، ذات الوظيفة التي يلعبها اللحم والدم.

كرامة الإنسان ضمن الجغرافيات العربية

يبدو العنوان الفرعي السابق ساخراً، أو متهكماً، خصوصاً أن قوانين العالم الرقمي ما زالت قيد التطوير في المنطقة العربية، وتستخدم في حال وجدت ضمن صيغ الرقابة والتهديد وبتعسّف هائل، وذلك لاعتقال الأفراد وتجريمهم، ناهيك عن الرقابة والتخزين للمحتوى الرقمي ضمن مساحات السيادة العربية والتي يجدر الإشارة أن هذه التكنولوجيات وأنظمة المراقبة والاختراق كلها ذات مصادر أوروبية من بلدان كفرنسا وألمانيا وبريطانيا، وبيعت لتونس، سوريا، مصر، السعوديّة، الإمارات، قطر، عمان، المغرب والجزائر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image