تابعتُ باهتمامٍ المقابلة التي أجرتها مذيعة قناة الـ CNN الشهيرة كريستيان آمانبور مؤخراً مع الروائية التركية الأكثر مبيعاً – وربما الأكثر إثارة للجدل أيضاً - أليف شافاق بعد الضجّة حول أحدث أعمالها i 10 Minutes 38 Seconds in this Strange World "عشر دقائق وثمان وثلاثون ثانية في هذا العالم الغريب"، الصادر عن دار Penguin.
تطرّقت المؤلفة فيها إلى غضب السلطات التركية لتناول نصِّها ظاهرة العنف الجنسي ضد النساء في بلدها، كما استرجعت تفاصيل محاكمتها عام 2006 بتهمة "إهانة الذات التركية" في رواية The Bastard of Istanbul "لقيطة اسطنبول" التي أقرّت فيها بوقوع إبادةٍ ضد الأرمن، واضطرار محاميها وقتها إلى تكريس مرافعته لتبرئة ساحة شخوص "روائية"، فيما عُدّ سابقة مشينة في تاريخ حرية التعبير في تركيا المعاصرة.
اهتمامي بالحوار كان وراءه أكثر من سبب، أولها أني كنت قد بدأت بقراءة الرواية الجديدة بالفعل، وكان عندي فضول لسماع ما ستقوله كاتبتها عن دوافع وظروف تأليفها، أما السبب الثاني فهو أني متابع لمسيرة "شافاق" الأدبية ونشاطها السياسي منذ قراءتي الأولى للترجمة الإنكليزية لـ"لقيطة إسطنبول" قبل عشر سنوات تقريباً، والأثر الذي تركه الحدث المحوري في العمل (سفاح القربى) على نفسي كعراقي، ورمزيّته الموجعة والمُبدعة في تعبيرها عن فظاعة اضطهاد الشعوب لمكوّناتها، والتي وجدتُ صداها في ما تعرّض له أكراد العراق تحت حكم صدام حسين، ثم ما حلّ بالمسيحيين والإيزيدين وسواهم من الأقليات، بعد إسقاط نظامه في عام 2003.
على مدار العقد الماضي، لم أترك عملاً منشوراً بالإنكليزية لأليف شافاق، روائياً كان أو غير روائي، إلا وقرأته، بما في ذلك نصّها الأكثر رواجاً في العالم العربي Forty Rules of Love "قواعد العشق الأربعون" الذي احترمت شاعريته، وإن كنت لا أراه من أفضل ما كتبت ... في منتصف رحلتي مع مؤلفات شافاق، لاحظت تراجعاً في جودة نصوصها، تحديداً إثر اصابتها باكتئاب ما بعد الولادة، الذي تناولت معاناتها معه في كتابها Black Milk "حليب أسود"، وتجلّت في صفحاته القسرية والافتعال وغياب الانسيابية، لكن الحديث عن المحنة كان وسيلة "أليف" للخروج منها واسترجاع ذاتها وهويتها الأدبية، الأمر الذي استغرق منها وقتاً، وعدداً من الروايات المنشورة.
إطلالة على أعمال أليف شافاق الروائية التركية الأكثر مبيعاً، وربما الأكثر إثارة للجدل أيضاً - بعد الضجّة حول أحدث أعمالها التي تطرّقت فيها إلى غضب السلطات التركية لتناول نصِّها ظاهرة العنف الجنسي ضد النساء في بلدها، كما استرجعت تفاصيل محاكمتها عام 2006 بتهمة "إهانة الذات التركية" في رواية "لقيطة اسطنبول" التي أقرّت فيها بوقوع إبادة ضد الأرمن
من الصعب مقاومة جاذبية كتاب أليف شافاق الجديد "عشر دقائق وثمان وثلاثون ثانية في هذا العالم الغريب" المُرشح لنيل جائزة البوكر العالمية هذا العام، فالنص يعكس نضجاً ملحوظاً، بدءاً من عنوانه المستوحى من دراسةٍ أجراها أطباء كنديون لمعرفة أقصى وقتٍ يستطيع الدماغ البشري خلاله أن يبقى نشطاً بعد وفاة الجسد
أعترف هنا أني أوشكت على مقاطعة أعمال شافاق بعد اطلاعي على نصّها The Apprentice - قد تجوز ترجمة عنوانه إلى "المُريد" - المستوحى من سيرة المعمار التركي الأشهر "سنان"، وتضمّن رصّاً جافاً للمعلومات التي جمعتها المؤلفة عن شخصيته، مع خيطٍ واهٍ من السرد ربط بينها ... ظننت حينها أن موهبة شافاق توشك على الأفول، وهي ظاهرة مألوفة بين الكثير من المبدعين، لكنني قرّرت أن أعطي نفسي فرصةً أخيرة عندما لمحت قبل عامين روايتها Three Daughters of Eve "بنات حواء الثلاث" على أحد رفوف المكتبات هنا في أوكلاند.
بعد قراءة فصولٍ قليلة فقط، أدركت أن الروائية الشغوفة بإدخال الوصفات الشعبية والخوارق في متون نصوصها، قد صنعت من إصرارها ومثابرتها وصفةً عجيبة، مكّنتها من استعادة سحر وسلاسة سردها القديم ... أتيت على النص في أيام معدودة، وإن كانت لي تحفّظات على مشهد النهاية "الملحمي" الذي يبدو أن شافاق أرادت من خلاله أن تحذّر أبناء جلدتها من مخاطر خراب متربّص، وهو ما عاودت فعله في روايتها الأخيرة، لكن بطريقة مختلفة ومُبدِعة.
من الصعب مقاومة جاذبية الكتاب الجديد الذي حجز لنفسه مكاناً في القائمة الطويلة للأعمال المُرشحة لنيل جائزة الـ Booker العالمية للروايات المنشورة بالإنكليزية هذا العام، فالنص يعكس نضجاً ملحوظاً ويحمل فضائل كثيرة، بدءاً من عنوانه الذي استوحته شافاق من دراسةٍ أجراها أطباء كنديون لمعرفة أقصى وقتٍ يستطيع الدماغ البشري خلاله أن يبقى نشطاً بعد وفاة الجسد، مروراً بالبنيان السردي الفريد للجزء الأول منه، حيث تتوالى الفصول في عدٍّ تنازلي لذاكرةٍ تتقيأ ما استقر في جوفها وهي تحتضر، وتأخذنا معها في جولةٍ في عوالم مومس تم قتلها ورمي جثتها في حاوية قمامة على قارعة أحد شوارع اسطنبول، أو "مدينة التناقضات والأوهام" كما تصفها شافاق.
يعي دماغ " ليلى تكيلا"، كنية الضحية التي أطلقها عليها رفاقها المقرّبون بسبب إكثارها من شرب التكيلا ( مشروب كحولي مكسيكي المنشأ، عالمي الشهرة!)، عبث صعاليك الطريق بجسدها المذبوح وسرقتهم قلادتها، لكنه ينشغل عنهم بالغوص في استرجاع دفء رحم أمها وشعورها بالاضطراب عندما أبصرت النور في مدينة "فان" في شرقي تركيا، كي تكون بكر أبناء خيّاط ملابس نسائية كهل، من زوجته الثانية الشابة التي تسكن في منزلٍ واحدٍ مع زوجته الأولى العاقر ... تصاب والدة ليلى باكتئابٍ حاد عندما يقرّر زوجها أن يمنح المولودة إلى زوجته الأولى، ويبرّر فعلته أن الزوجة الثانية ما زالت شابة وبوسعها إنجاب المزيد من الأبناء، فتكبر ليلى وهي تظن زوجة أبيها والدتها، بينما تنادي أمها الحقيقية ب"خالة!"
الحدث المفصلي في الرواية الذي أثار لغطاً كبيراً حولها وتعرّضت أليف بسببه للهجوم العنيف، هو قيام عم ليلى بالتحرّش بها جنسياً عندما كانت طفلة تغفو في غرفةٍ واحدةٍ مع ابنه وسواهما من الصغار، ثم اغتصابها ومعاشرتها قسرياً بشكل دوري طيلة السنوات التالية، حتى تدرك ذات يوم أنها حامل منه، لكنها تتفاجأ بردّ فعل والدها عندما يعلم بالأمر، إذ ينفي التهمة عن أخيه ويتهمها بمضاجعة أحد رفاقها في المدرسة.
ترصد المؤلفة التحوّل الذي يطرأ على شخصية والد ليلى عندما تضع زوجته مولوداً ذكراً، والخيبة التي يشعر بها عندما يتضّح له أن الأبن الذي حلم بوصوله معاق ولن يلبث أن يموت، فيزهد في الحياة ويقرّر الامتناع عن خياطة ملابس السيدات السافرات، ويمضي جلّ وقته معتكفاً متعبّداً، ثم يفرض قيوداً صارمةً على النساء في أسرته ويمنع ليلى من الذهاب إلى المدرسة، بل أنه يرتّب تزويجها لابن أخيه - الطفل الذي كان نائماً بالجوار عندما قام والده بالاعتداء عليها أول مرة.
تشعر ليلى بنقمةٍ شديدةٍ على أسرتها، فتقرّر الهرب إلى اسطنبول ليلة زفافها، ونعيش معها قسوة ولوج المدينة الكبيرة المكتظة بكافة أنواع وأشكال البشر، وتعرّضها للسرقة والاستغلال قبل أن ينتهي المطاف بها بغياً في حي الدعارة..
لا بد من الإشادة هنا بتصوير المؤلفة المُبدع لملامح وتفاصيل الحياة في قعر المجتمع، ورصدها من منظورٍ شديد الخصوصية للأحداث المهمة التي شهدتها اسطنبول النصف الثاني من القرن العشرين، من احتفالاتٍ باذخةٍ بافتتاح الجسر الرابط بين ضفتي البسفور، وتلهّف صاحبة الدار الذي تعمل فيه ليلى على استقبال جنود البحرية الأمريكية الذين ترسو سفنهم على الشاطئ، لكن الغضب الشعبي الرافض لوجودهم يجبرهم على المغادرة سريعاً، مروراً بالحراك السياسي المتأجّج والمظاهرات الحاشدة التي تقذف إحداها بشابٍ شيوعي يهوى الرسم على أعتاب المبغى بحثاً عن مخبأ يحميه، فتقوم ليلى بإيوائه وتنشأ بينهما علاقة رومانسية تتكلّل بالزواج.
كل دقيقة تمضي، تروي لنا حكاية عن الأشخاص الخمسة الذين استعاضت ليلى بهم عن أسرتها الأصلية، وهم جميعاً من المنبوذين المقموعين مجتمعياً بسبب عقيدةٍ سياسيةٍ أو مظهرٍ خارجي أو عرق أو مرض أو حتى هوية جنسية (أكثر الشخوص فاعلية فتى قروي جاء إلى اسطنبول لإجراء عملية تحوّل جنسي) ... أحد أفراد مجموعة الخمسة تلك هو "علي" زوج ليلى وحبها الكبير الذي لا تستمر حياتها معه طويلاً، إذ يسقط قتيلاً في واحدة من المظاهرات، وتضطر بعد رحيله إلى العودة لممارسة الدعارة.
نشهد في الجزء الثاني من الكتاب موت الدماغ ونهاية دوره كراوٍ للأحداث، لنجد أنفسنا في المشرحة التي تخرج جثة ليلى منها إلى مقبرة الغرباء، أو عديمي الرفاق "companionless"، بلا شاهدة قبر تحمل اسمها ولا أقارب يحضرون دفنها، الأمر الذي يستفزّ أصدقاءها المعتصمين خارجاً، ويدعوهم للقيام بفعل مجنون أخير لإكرام فقيدتهم الحبيبة .
أجمل ما في الرواية - ولعله يكون سبب حصولها على الجائزة الأدبية المرموقة التي ترشّحت لها - قدرتها المذهلة على الجمع بين محليّة التفاصيل وكونية الأفق، وملامستها المبدعة لشجون القارئين في كل مكان، من خلال معاناة ومخاوف وأفراح وأحزان شخوصها النابضة، بل قد يجوز القول أنها أهم ما سطّره قلم أليف شافاق، حتى الآن، فجعبتها تبدو مليئة دائما بالمفاجآت!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين