داخل مقام "السبع بنات" في المنيا، كان محمد عطية (34 عاماً) قد جثا وهو يدعو الله أن ينعم عليه بالبنين، عقب زواج دام 4 سنوات من دون إنجاب.
في زيارته الأولى للمقام، نذر عطية نذراً إذا استجاب الله له وأنجب طفلاً فسيزور "السبع بنات" كل أسبوع وسيجلب أطعمة ويوزعها على الزوار.
"لم يأذن لي الله سبحانه وتعالى بالإنجاب بعد زواجي بأعوام عدة"، يقول عطية لرصيف22 مردفاً: "لم أتوقف عن المحاولة حتى نصحني الأقارب أن أذهب إلى مقام السبع بنات، لما فيه من روحانيات عالية ودعوات مستجابة، وعللوا ذلك باستشهاد نساء صالحات أثناء فتح مصر".
يضيف عطية: "ربنا أكرمنا وأنجبنا وكان عليّ نذر كل جمعة، وأنصح أصحابي أن يأتوا إلى هنا لأن المكان مبارك".
طقوس للإنجاب والشفاء والزواج
في اللحظات الأولى من بزوغ شمس يوم الجمعة من كل أسبوع يذهب الناس إلى مقام "السبع بنات" في قرية البهنسا لدعاء الله طلباً للإنجاب أو الزواج.
من جهته، لا يفوّت محمد جلال أسبوعاً من دون أن يزور القرية آتياً من قرية أبو العودين في المحافظة ذاتها، فللبهنسا مكانة كبيرة في قلبه إذ يجد فيها رائحة صحابة الرسول، كما يُخبر رصيف22.
وتقول الرواية إن الصحابي عمرو بن العاص أرسل نحو 5 آلاف صحابي إلى البهنسا عام 21 هجرياً/ 642 ميلادياً لمحاربة الرومان وفتح المدينة التي كانت بوابة صعيد مصر. وسقط في معركة البهنسا نحو 500 جندي وصاحب راية، ومنذ ذلك الحين اكتسبت المدينة قداسة لدى المواطنين لضمّها قبور أشخاص يٌعتقد أنهم رأوا الرسول وتعاملوا مع الصحابة.
يؤمن جلال أن الدعوة مستجابة في تلك المنطقة، لاحتواء المكان على علامات روحية ظاهرة إذا أدى الشخص طقوساً معينة، ويشير إلى أن النساء يأتين من شتى بقاع الأرض من أجل الإنجاب والشفاء من الأمراض عبر الدحرجة بشكل أفقي على الرمال التي تحيط بمقام "السبع بنات"، موضحاً أن "الدحرجة لا تقتصر على النساء اللواتي يرغبن بالإنجاب، بل يمارسها كل من لديه رجاء الشفاء من مرض معين".
ويتكون مقام "السبع بنات" من قبة تحتوي على ثلاثة أضرحة وثلاثة أخرى في الخارج حول السياج الحديدي والسابع بجوار السياج، وتحيط بالمقابر السبع رمال الصحراء.
تبدأ الطقوس التي توارثها المترددون إلى المكان وطوّروها من زيارة الأضرحة ودعاء الله بجوارها، ثم الشرب من البئر التي يُعتقد أن الصحابة شربوا منها، ثم الذهاب إلى الرمال والنوم بشكل أفقي ووضع اليد على الرأس والتدحرج ذهاباً وإياباً مرتين أو ثلاثاً، حتى تحيط جسد المتدحرِج "الرمال التي احتضنت الدماء الطاهرة" حسب اعتقاده، وبذلك يحقق الله له ما يرجوه.
من هن السبع بنات؟
ينتشر اسم "السبع بنات" في أماكن عدة في مصر، وعلى سبيل المثال لا الحصر يوجد في مدينة بورسعيد "مستشفى السبع بنات" القبطي، وفي القاهرة مقام "قباب السبع بنات".
في القاهرة، يرجع المقام إلى العام 400 هجري أثناء حكم الحاكم بأمر الله. وبحسب المقريزي في كتابه "الخطط المقريزية"، فإن الحاكم أمر بإعدام 7 شقيقات صالحات عقاباً لوالدهن، وبعد ذلك أراد التكفير عن ذنبه فبنى لهن 7 مقامات بقباب.
"لم أتوقف عن المحاولة حتى نصحني الأقارب أن أذهب إلى مقام السبع بنات"... فما قصة المقام ولماذا يتدحرج الزوار على الرمال المحيطة به؟
"يضم 7 أو 70 أو 700 محاربة مسلمة ملثمة شاركن في معركة الفتح الإسلامي لمصر"... مقام "السبع بنات" في قرية البهنسا في المنيا بات مزاراً تحيط به الروايات وتُعلَّق عليه الآمال
أما في المنيا فيرمز الرقم إلى النساء اللواتي شاركن مع الرجال في معركة فتح البهنسا. وبحسب "فتوح الصعيد والبهنسا" للدكتور عمرو منير، فإن النساء، ومنهن غفيرة بنت غفار الحميرية وسلمى بنت زاهر، قاتلن بالأعمدة والسيوف قتالاً شديداً حتى سال الدم على وجوههن.
وبحسب الروايات، من المشاركات في المعركة أيضاً آسية الأنصارية وأم أبان وأسماء بنت أبي بكر الصديق ونعامة بنت المنذر وخولة بنت الأزور.
وقد ذكر الكتاب كيف تم حثّ النساء على القتال حتى الموت بالقول: "يا بنات العرب قاتلوا عن أنفسكن وإلا صرتن ملكاً للسودان والأعلاج".
"7 أو 70 أو 700... ليس العدد معلوماً بدقة"، حسب ما يقول المسؤول عن مقابر السبع بنات مسعد يونس لرصيف22، شارحاً أن "المقام يحتوي على أعداد 7 أو 70 أو 700 محاربة مسلمة ملثمة شاركن في معركة الفتح الإسلامي لمصر، ولم يعلم أحد بوجود إحداهن في المعركة بعد النصر على الرومان، إلا عقب إطلاق الزغاريد ابتهاجاً وفرحاً".
"النبي زكريا رُزق يحيى عندما دعا في المحراب"
تشتهر بعض المقامات في مصر بتحقيق دعوات معينة، وبحسب شيخ الطريقة السمانية الصوفية سيد بنداري، فإن المرأة العاقر تجد ضالتها في مقام "السبع بنات" لأن الضريح يرجع إلى فتيات صالحات، مشيراً إلى أن "قبور الصالحين روضة من رياض الجنة".
وفي حديثه لرصيف22، لا ينفي بنداري أن يكون العامل النفسي سبباً في تأخر الحمل أو الزواج للمرأة ويقول: "عندما يذهب الإنسان إلى مكان فيه ملائكة تكرمه رحمة ربنا، مثلما حين يجالس الإنسان رجلاً صالحاً فلا بد أن يأخذ نفحات ولو صغيرة مما لديه، وقد تكون حالة المرأة النفسية السبب في تأخر الحمل أو الزواج فتتحسن نفسيتها عندما تزور المقام، كما حين يذهب الرجل إلى طبيب بعلة ويطمئنه فنرى أن حالته الصحية بدأت تتحسن نسبياً".
ويوضح شيخ الطريقة السمانية أن الدعاء عند مقامات وأضرحة الصالحين ليس شركاً بالله إنما وسيلة تقرب إليه، مستشهداً بالنبي زكريا حين دخل على السيدة مريم المحراب ووجد عندها رزقاً فدعا إلى الله ليرزقه ولداً، وكان له ما أراد بمجيء النبي يحيى.
في سياق متصل، يوضح بنداري أن المقام مختلف عن الضريح، فـ"المقام هو موضع إقامة الشخص الصالح، أما الضريح فهو المكان الذي يحتوي على قبر"، مشيراً إلى أن مقام "السبع بنات" قد يحتوي على الاثنين، مقر إقامة وقبر.
السبع بنات... بين الإسلام والمسيحية
لا تحمل القبور في المقام أسماء النساء اللواتي سقطن في المعركة، الأمر الذي يثير الريبة عن أصل وجودهن في هذا المكان.
"للاعتقاد في الأولياء بقايا أسطورية تنطلق من بحث الإنسان عن علاقة بين السماء والأرض، كما أن الطقوس التي يتم تأديتها خلال التعامل مع الأولياء تُعدّ استمراراً لما كان يحدث مع الأوثان والأصنام قبل الإسلام"
أما عن فكرة "السبع بنات" فهي موجودة في التراثين الإسلامي والمسيحي.
في المسيحية "هن لسن مسلمات"، بحسب أستاذ التاريخ عمرو منير الذي ألّف كتابين عن تاريخ البهنسا، ووجد أن بعض التراث المسيحي يذكر أنهن سبع فتيات عملن على رعاية الجنود المسلمين الجرحى والمرضى.
في المقابل، يؤكد التراث الإسلامي ورواية الواقدي أنهن كن مسلمات.
ولعلّ لـ"السبع بنات" بقايا أسطورية ترجع إلى أصل ميثولوجي. وبحسب كلام منير لرصيف22، فإن الأسطورة يمكن أن يكون لها علاقة بعبادة الأوثان الأنثوية مثل "اللات والعزى ومناة"، وكان يطلق عليهن بنات الرب في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، لذلك نجد أسماء أماكن إسلامية ومسيحية اشتركت في الاسم ذاته.
يتفق أستاذ الثقافة الشعبية خالد أبو الليل مع هذه النظرية حول "السبع بنات"، ويقول إن للاعتقاد في الأولياء بقايا أسطورية تنطلق من بحث الإنسان عن علاقة بين السماء والأرض، كما أن الطقوس التي يتم تأديتها خلال التعامل مع الأولياء تعد استمراراً لما كان يحدث مع الأوثان والأصنام قبل الإسلام، بما فيها من نذور وتقرب وتضحية، لكن "السبع بنات" تحديداً يراها اعتقاداً شعبياً يجمع الكثرة بالكمال.
ويملك الرقم 7 في المعتقدات الشعبية والدينية دلالة كبيرة، وهذا ما يفسره أستاذ الثقافة الشعبية خلال حديثه لرصيف22، إذ أن الله في المعتقد الديني خلق الدنيا في 7 أيام، وأيام الأسبوع تكتمل في اليوم السابع، وطقوس دينية إسلامية تكتمل 7 مرات في الحج، لذا أصبح هذا الرقم هو بلوغ منتهى الشيء واكتماله.
لكن لماذا ارتبط الرقم 7 بالبنات وبعد ذلك بالإنجاب؟ يجيب أبو الليل بأنه دلالة على الخير الكثير والإنجاب، والبنات يرتبطن بالتكاثر والخير في الوجدان الشعبي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...