شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الموت يسبق الاعتذار  أحياناً… السعدني نموذجاً

الموت يسبق الاعتذار أحياناً… السعدني نموذجاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 15 أغسطس 201903:55 م

"عارفة إيه بيستفزّني؟ إنه ضامنّي. ضامن وجودي. وأنا تعبت من الإحساس ده، تعبت إنه مبيفكرش لحظة إني ممكن أمشي، إني ممكن أخونه، ومبيعملش حاجة تخليني أستنى. عارفة لما تبقي موجودة لدرجة إن محدش يتعب روحه علشان متمشيش؟ دي أكتر حاجة مخلياني عاوزة أمشي".

قالتها صديقتي في جلسةٍ هادئة، بينما كانت تسحب آخر نَفسٍ من سيجارتها، تُطفئها بلا اهتمام، ثم أربكت صمتي للمرة الثانية: "ساكتة ليه؟" كنت أفكّر في كلماتها، وأتذكّر اليوم الذي تحداني فيه أبي بسبب خلعي للحجاب وطردني خارج المنزل، موقناً بأني عائدة لا محالة، وأني لو غادرت المنزل فبالتأكيد سأقيم مؤقتاً عند أحد أقاربنا. استفزّني يقينه ولم أعد، ولم أقم عند أحد أقاربنا، ولم أرتدِ الحجاب مرّة أخرى. لم تراوده الشكوك ولو للحظةٍ واحدة أني قد أعمل في أيٍّ من المهن الموصومة اجتماعياً بأنها "غير شريفة"، وأتحجّج بأنه هو السبب. لم يفعل ذلك أبداً. كان ضامناً لرجوعي، وضامناً لأفعالي، في أكثر لحظاته قسوة عليّ. ثم أجبتُ صديقتي بسؤال: "من أين يأتي الرجال بكل هذه الثقة؟"

تُضفي العلانية بُعداً آخر للاعتذار، وكأن الرجل الذي يعتذر يُريد أن يُحتفى به للإقدام على فعلٍ تربى على أنه ليس على قائمة خياراته

تذكرت هذه الليلة من صيف 2015، بمجرّد أن قرأت منشور الفنان المصري أحمد السعدني، الذي يسرد فيه علاقته بزوجته السابقة، بألمٍ ممزوج ببعض من الأريحية عن علاقته بها، وكيف كان ضامناً لوجودها. كيف رأى أنه "ضدّ المسؤولية" حسب وصفه، وكيف رغم ذلك قرّر الزواج والإنجاب، ثم الطلاق. انتظر سنوات طويلة ليكون متأكداً من أنه يريد الرجوع لعائلته الصغيرة، قبل أن يُباغته موت زوجته السابقة، ويقف على عتبة المسؤولية، ويركله أحدهم للخارج بالقوة. يعتذر السعدني، وهو في نفس الوقت يسرق لحظة جليلة أخيرة بينهما: الموت.

هل يكفي الاعتذار؟

بالنسبة لصديقتي، لم يعتذر رفيقها السابق، واكتفى بتحسين علاقتهما التي انتهت لنفس السبب الذي لم يعتذر عنه.

كما لم يعتذر أبي، واكتفى بتحسين علاقتنا. في الحالتين لم نشعر بالرضا، أنا وصديقتي، عن تجاوز الاعتذار وتخطيه كأن شيئاً لم يكن. أما عن محاولات تعويضنا، فقد كانت محاولات غير مباشرة لأنها لم تتضمّن اعترافاً بالخطأ الذي ارتُكب في حقنا. على النقيض، قيل لصديقتي أنها "مأفورة" (أي تُبالغ)، وقيل لي بأنني "قلبي أسود"، لأننا طلبنا اعترافاً بالخطأ واعتذاراً عن معاملتنا وكأننا أثاث منزلي، لن يُحرّكه شيء دون أن يُلاحظ المالك.

مثلما حدث مع زوجة "السعدني"، والتي غالباً لم تتلقَ اعتذاراً بنفس قوة الاعتذار الذي كتبه زوجها علانيةً بعد موتها. أنا ونساء كثيرات غيري تمت معاملتنا بنفس الطريقة، ضُمِن وجودنا، فلم يبذل أحد جهداً في الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه في حياتنا، بينما تسارعوا في إعلان الاعتذار بعد الموت. هذا المنشور أغضبنا، لأنه يُذكِّرنا بأن كل واحدة منّا ضَمِنها رجلٌ واحد على الأقل في حياتها، ولن تعرف حتى لو اعتذر، لأنها قد تكون ميتة.

لحظات المراجعة الذاتية

أعتقد أن جوهر فلسفة الاعتذار هو مراجعة أفعالنا مع الآخرين والأخريات، وهو ليس تفضّلاً منّا عليهم/ن. يتطلّب الاعتذار جهداً في فصله عن الشيء الذي نعتذر عنه، بحيث لا يكون امتداداً له. فلو أخذنا قصة "السعدني" مثالاً توضيحياً، لوجدنا أنه اعتبر نفسه محور علاقته بزوجته السابقة، بحيث يردُّ أي فعل يفعله إليه، وليس للزوجة أيضاً باعتبارها ضمن علاقة تشاركية.

حسب كلامه، كان سيرجع إليها، في سن معين يُحدّده هو، لعله يتحمل المسؤولية حينئذٍ. ما حدث هو أن هذا السن لم يأتِ حتى وفاتها، أما هي، فزوجها السابق لم يأته هذا السن أبداً.

هذه الطريقة متكرّرة في كثيرٍ من العلاقات بين الرجال والنساء، والتي يعتبر فيها الرجال أنفسهم محور العلاقة، حتى لو كانت علاقة أبوّة أو زمالة، لذلك فالاعتذار عن كونهم محور العلاقة، لا يجب أن يكون بإعادة أنفسهم محوراً للعلاقة مرة أخرى.

أعني هنا، أن الاعتذار العلني من رجلٍ عن خطأه بحقِّ زوجته السابقة، كان محور كلام أحمد السعدني، بدلاً من أن يكون الحدث محور الاهتمام هو موتها، فيكون لآخر لحظة كل شيء عنه هو، حتى موتها، يتمحور حوله. الاعتذار الذي يتمحور حول الذات بدلاً من الذين نعتذر لهم/ن، هو حلقة جديدة في سلسلة الأذى.

منشور "السعدني" لزوجته بعد موتها، أغضبنا، لأنه يُذكِّرنا بأن كل واحدة منّا قد ضَمِن وجودها رجلٌ واحد على الأقل في حياتها، ولن تعرف حتى لو اعتذر، لأنها قد تكون ميتة
الاعتذار العلني من رجلٍ عن خطأه بحقِّ زوجته السابقة، كان محور كلام أحمد السعدني، بدلاً من أن يكون الحدث محور الاهتمام هو موتها، فيكون لآخر لحظة كل شيء عنه هو، حتى موتها، يتمحور حوله

فكرة الاعتذار قليلة لدى الرجال

لو رجعنا إلى قصة صديقتي وقصتي مع رجالٍ لا يعتذرون، مثل أحمد السعدني الذي قادته الصدفة للاعتذار، فقد نجد أن فكرة الاعتذار نفسها قليلة لدى الرجال، وأن هذا مرتبط بهويتهم الاجتماعية التي يكتسبونها بمجموعة أفعالٍ منها: التمادي في الخطأ، عدم الاعتراف به، وتجاهله تماماً. ووجدنا أن الرجال الذين يعتذرون، إما يتم الاحتفاء بهم، أو نبذهم.

تُضفي العلانية بُعداً آخر للاعتذار، وكأن الرجل الذي يعتذر يُريد أن يُحتفى به للإقدام على فعلٍ تربى على أنه ليس على قائمة خياراته. فحتى الاعتراف بالخطأ هنا، قد يكون مُراده مواجهة صغيرة بين المكابرة في الخطأ، وبين الاعتراف العلني به، وهذا إنساني، وفي أغلب المواضع، يحدث بلا قصد. فالمكافأة الاجتماعية والاحتفاء هما البنية التي تُشيّد عليها الرجولية كهويةٍ اجتماعية.

في الموت أيضاً دراما تُزيد التعاطف مع أقرباء المتوفين، فكانت لحظة مناسبة للاعتراف بالخطأ، والاستفادة من هذا التعاطف في مواجهة طوفان النبذ الذي يُحيط بالرجال لو تعاملوا بإنسانيةٍ مع النساء. لكن هذا لا ينفي أن لحظة المراجعة الذاتية التي تسبق الاعتذار، يجب أن تتم بأمانةٍ وصدق، فلا نسرق لحظة موت أحدهم، لنشعر بألمٍ أقل تجاه أنفسنا على أذى ارتكبناه في حقهم/ن، بمدح قدرتنا على الاعتذار العلني.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image