"الكاتب الذي يعمل على تأليف كتاب، غالباً ما يفكّر بزملائه الكُتّاب والأكاديميّين خلال عمله، ورأيهم وإعجابهم ونقدهم لما سيقوله في كتابه، لذلك غالباً ما تكون الكتب المهمّة غير موجّهة للقارئ العادي أو غير الأكاديمي"، لأن الكاتب لا يختار لغة وأسلوباً يناسباننا نحن الناس "العاديين"، الذين ليسوا مؤلّفي كتب ولا أساتذة في الجامعات، هذا ما قالته لنا المؤرّخة الألمانيّة ماريون ديتين، خلال إحدى محاضراتها في برلين، وأريد أن أسقط هذا القول على برنامج التلفزيونيّ "هي وبس"، الذي يُعنى بالمشاكل العاطفيّة والخلافات بين الأزواج، والذي يُعرض منذ عامين تقريباً على محطة "سي بي سي" المصريّة. وبالرغم من أنه يحصد نسبة متابعةٍ وتفاعلٍ كبيرين جداً، يتعرّض أيضاً للنقد من عدّة جهات، إحداها من أكاديميّين يقولون إن مقدّمته رضوى الشربيني لا تملك خطاباً إعلاميّاً ونسويّاً أكاديميّاً، كما لا يمكن أن تُصَنّف ضمن أي نسق فكري، وأنها تصوّر العلاقة الزوجيّة أو العاطفيّة على أنها علاقة تصارع وتنافس.
تخاطب السيّدات والمراهقات بلغة سهلة وقريبة لهنّ
على الرغم من النقد الذي وُجِّه لها وللبرنامج، وإن كان بعضه صحيحاً، لكن لا يمكن إخراج البرنامج من سياقه ومن الفئات المستهدفة التي وجدت ضالّتها فيه، بالرغم من عدم وجود الأكاديميّة التي يتمّ الحديث عنها من قبل البعض، ووصفهم المقدِّمة رضوى بالنسويّة المتوحّشة، المعقّدة، كارهة الرجال، إضافة للقول بإنها (خرّابة بيوت)، وتحرّض النساء على أزواجهم. بالطبع غالبية متابعي برنامج "هي وبس" من النساء، وبما أن وسائل التواصل الاجتماعي تأخذ حيّزاً كبيراً من حياتنا، لا بد أن أذكر أن مُقدِّمته لديها 6 ملايين متابع على موقع انستغرام وهذا أمرٌ له مدلولاته.
ما يميّز هذا البرنامج عن غيره من تلك التي تعالج نفس القضايا، هو فهم مُقدِّمته للطريقة التي يفكّر بها المجتمع حولها، ونوعية المتابعين/ات وحاجاتهم/ن، فاختارت طريقةً مناسبةً تتوجّه بها إليهم/ن، ليس من السهل إدانتها من المتابع/ة العادي/ة (بالحجّة المنطقيّة)، فهي لا تخرج عن قواعد المجتمع، وبنفس الوقت تقدّم حلولاً ونصائح، تصبُّ في صالح المرأة وتمكينها، بعد تذكيرها بواجباتها قبل حقوقها، وهنا تكمن الإشكاليّة، حيث إذا كان المتابع الرجل أباً تقليديّاً، لا يمكنه إلا الإطراء على ما تقوله رضوى، بينما إذا كان المتابع زوجاً أو حبيباً لا يتقبّل أن تمتلك المرأة رأياً خاصّاً، فإنه سيعتبر البرنامج تحريضيّاً خطيراً، وستكون رضوى الشربيني من ألدّ أعدائه.
إن انطلاق مُقدِّمته من تجربتها ومعاناتها الشخصيّة كامرأة، باعتقادي هو ما قرّبها من المتابعات اللواتي كنّ بحاجة إليها بشكل أو بآخر، فهي لا تتحدّث من برج عاجي، بل من داخل التجربة والمعاناة، ولو أن هذا كان أحد المآخذ على البرنامج، بالإضافة إلى أنها تخاطب السيّدات والمراهقات بلغة سهلة وقريبة لهنّ (بغض النظر إن كانت تتقن غيرها أو لا) فتشجعهنّ على الاهتمام بشكلهنّ، وعلى العمل والدراسة والحصول على المال، ليكنّ أكثر ثقة بأنفسهنّ، وأقوى على مواجهة ملمّات الحياة، ليكنّ شريكات للرجال، لا عبدات ولا مُستعبِدات، لا ظالمات ولا مظلومات، رحيمات بأزواجهنّ، يتحمّلن معهم هموم الحياة، لكن بشرط أن يقدّم الرجل بالمقابل معاملة (ترضي الله) هذه العبارة التي تركّز عليها رضوى بذكاء دائماً.
لا يمكن إخراج البرنامج من سياقه ومن الفئات المستهدفة التي وجدت ضالّتها فيه، بالرغم من وصفهم للمقدِّمة رضوى "بالنسويّة المتوحّشة، المعقّدة، كارهة الرجال، إضافة للقول بإنها (خرّابة بيوت)، وتحرّض النساء على أزواجهم"!
ما يميّز هذا البرنامج هو فهم مُقدِّمته للطريقة التي يفكّر بها المجتمع حولها، ونوعية المتابعين/ات وحاجاتهم/ن، فاختارت طريقةً مناسبةً تتوجّه بها إليهم/ن.
إن انطلاق مُقدِّمته من تجربتها ومعاناتها الشخصيّة كامرأة، باعتقادي هو ما قرّبها من المتابعات اللواتي كنّ بحاجة إليها بشكل أو بآخر، فهي لا تتحدّث من برج عاجي، بل من داخل التجربة والمعاناة.
يستضيف البرنامج أخصّائيي تجميل وتغذية، يقدّمون للسيدات نصائح يستطعن الأخذ بها وتطبيقها، ضمن الظروف الماديّة والاجتماعيّة المتاحة، كما أن فهم إدارة "هي وبس" لحجم المسؤوليّة التي وقعت على كاهلهم، عندما حقّق البرنامج نجاحاً ونسبة متابعة عالية جداً، وارتفع عدد الاستشارات التي تصل إليهم، دفعهم إلى ارسال مُقَدِّمته إلى متابعة الدراسة، واتباع دورات لتدريبها وإكسابها المزيد من الخبرة في التعامل مع القضايا التي يتمّ طرحها في البرنامج، واللجوء إلى اختصاصيّين نفسيّين واجتماعيّين لمساعدتهم في إيجاد حلول واقتراحات للمشاكل التي ترسلها المشاهدات، والتي تقوم رضوى بعرضها (مرّة أخرى) بما يتناسب مع المجتمع المحيط بأسلوب ذكي، حيث لا تضع الرجل في خانة الندّ السلبي بل الشريك المحبّ، ولا ترفعه إلى مرتبة فارس الأحلام المُرتجى، بل المُتاح الذي يمكن للمرأة اختياره أو الموافقة على الزواج به، وليس شكره لأنه قَبِلَ الارتباط بها، لكن بحالة واحدة فقط، إذا كانت قد وصلت أو تحاول الوصول إلى مستوى جيد من تقدير الذات وما إلى ذلك، بما يتناسب مع الحالات الفرديّة وظروفها.
أحبّي نفسك، كوني أنت، لا تقبلي الإهانة والضرب والشتيمة والخيانة، لا تتسامحي مع الإهمال والتجاهل، أنتِ قيمة مساوية للرجل… هذه العبارات استفزّت مشاعر من لم يعتد أن يسمع هذا الكلام من امرأة تجلس بثقة أمام الكاميرا، بكامل أناقتها وزينتها (وهذا جزء لا يتجزّأ من شخصية رضوى) ففتحوا نار اللوم والنقد السلبي عليها، مع أنها وحسب تقاليد المجتمع العربي، لا تطلب للمرأة إلا معاملة عادلة تُرضي الله، لكن مع ذلك، تفضّل الغالبية أن تبقى هذه النصائح ضمن أحاديث تتناقلها النساء في الظلّ وخلف الكواليس، لا أن تخرج للعلن وللمنابر الإعلاميّة. الغريب أن بعض النساء يقفن في صف العداء لرضوى التي تتحدّث باسمهنّ وتحاول تمكينهنّ، ولا أقصد هنا النساء المؤهّلات اللواتي لسن بحاجة أصلاً لهذا النوع من البرامج، بل النساء المقهورات والمظلومات، اللواتي ربما لو سمعن الكلام نفسه في برنامج أجنبي مترجم إلى العربيّة لأثنين عليه.
لا يمكن تقبّل برنامج مثل "هي وبس" إلا بعد أن نتفهّم الاختلافات الفكريّة والنفسيّة والظروف الاجتماعيّة للنساء
لا يمكن تقبّل برنامج مثل "هي وبس" إلا بعد أن نتفهّم الاختلافات الفكريّة والنفسيّة والظروف الاجتماعيّة للنساء، لأنه غير موجّه للجميع، وعدد المتابعات الكبير جداً، واللواتي وجدن راحة القلب في البرنامج، هو دليل على حاجتهنّ المعنويّة إليه، حتى لو وُصِفت رضوى بأنها غير عارفة بأدبيات النسويّة وفلسفتها، وأنها تتحدّث بعشوائيّة دون خلفيّة علميّة أو أكاديميّة، إلا أن متابعات البرنامج لا يحتجن أكثر مما يُتيحه البرنامج في الوقت الحالي على ما يبدو، لا أعتقد أن نوال السعداوي مثلاً، على الرغم من الفرق الشاسع بين تجربتها وتجربة رضوى الشربيني على مستويات عدّة، قد استطاعت أن تكون قريبة من النساء بالقدر نفسه الذي استطاعته رضوى، بديهيات بعضنا ربما تكون فوق إدراك آخرين، ومن حقهنّ أن يُقدّم لهنّ ما يتناسب مع ظروفهنّ، وتكون من أحد العوامل التي تقويهنّ تدريجياً، أو تُخفّف عنهنّ، لا أكثر ولا أقلّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي