يعرّف فرانز فانون الفوبيا بأنها حالة عصابية ناتجة عن خوف لاعقلاني من الآخر، ورغم أن موضوع الخوف لا يشكل في الواقع خطرا حقيقيا على صاحب الفوبيا، فإنّ الفوبيا غالبا ما تؤدي إلى حالة رهاب جماعي.
في السياق السياسي، يتشكّل هذا النوع من الفوبيا حين تبدأ دولة عظمى، مثل ألمانيا النازية، في ابتداع حالة خوف جماعي تجاه أقلية مهمشة، مثل اليهود، إلى الحد الذي تبدأ فيه الأغلبية المهيمنة بتخيل نفسها ضحيةً للأقلية المقموعة. ليس مفاجئا إذن أنّ الفيلسوف اليهودي ليون بنسكر كان يفضل المصطلح السيكولوجي جوديوفوبيا، أو رهاب اليهود، على مصطلح اللاسامية، نظرا لأن الأول يجسد بصورة أكثر تشخصيا البعدين الجماعي والمرضي في الفوبيا.
الفلسطينوفوبيا، أو رهاب الفلسطينيين
والآن، دعونا نتأمل الفلسطينوفوبيا، أو رهاب الفلسطينيين. المصطلح يكاد يكون معدوما في الخطاب السياسي، غير أنه كظاهرة عصابية جماعية بات يشكل ملمحا أساسيا في السياسة الأمريكية الراهنة.
أعراض هذه الفلسطينوفوبيا تكررت مؤخرا في سلسلة هجمات عنصرية شنّها دونالد ترمب على موقع على تويتر، والتي استهدفت النائبة عن ولاية ميشيغان رشيدة طليب، أول امرأة فلسطينية منتخبة في الكونغرس الأمريكي، كان آخرها دعوة ترمب للنائبة الأمريكية إلى "العودة إلى بلدها،" علما بأنّ طليب من مواليد ولاية ميشيغان. في تسويغه لتصريحاته العنصرية، اتهم ترمب طليب مرارا بكره إسرائيل واللاسامية، وذلك في مناخ سياسي يشكل فيه الخلط بين مناهضة إسرائيل واللاسامية تكتيكا شائعا لشيطنة الفلسطينيين وداعميهم في الولاليات المتحدة. المفارقة أن يأتي هذا الاتهام من رئيس يواجه اتهامات بدعم جماعات أمريكية تؤمن بسيادة البيض ومعروفة بعدائها العنصري لليهود.
ولعلّ ترمب لا يحتاج إلى ذريعة لمعاداة طليب؛ يكفي أنها فلسطينية. فالرئيس الأمريكي معروف بعدائه العصابي لكلّ ما هو فلسطيني، حيث استهل ولايته بشنّ حرب سياسية شاملة ضد الفلسطينيين، وفرض عقوبات ذات طابع انتقامي ضدّ شعب بأكمله، بدءا من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، مرورا بتجميد الدعم الأمريكي للأونروا والمدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، وصولا إلى إغلاق المكتب الدبلوماسي الفلسطيني في واشنطن. ترمب لم ينسَ فلسطين من تصريحاته العنصرية على تويتر، وهو ما تكرر بوضوح في تغريدات اتهم فيها الفلسطينيين بأنهم شعب "ناكر للجميل." (لنا أن نتخيل لو أنّ مثل هذه التصريحات صدرت بحقّ اليهود أو أيّ مجموعة إثنية أخرى).
ولا يخفي ترمب عدائه العصابي للفلسطينيين في وقت باتت فيه الفلسطينوفوبيا ورقة سياسية رابحة في واشنطن، حيث يتسابق السياسيون الأمركيون، من ديمقراطيين وجمهوريين، على إبداء ولائهم المطلق لإسرائيل إرضاءً للوبي الإسرائيلي، المعروف بإيباك، ومتبرعين أثرياء داعمين لإسرائيل، مثل شلدون أديلسون وحاييم سابان.
طليب لم تتردد من جانبها في إبراز هويتها الفلسطينية، نكايةً بالرئيس الأمريكي وتحديا للخطاب الفلسطينوفوبي السائد: فهي أدت القسم الدستوري على نسخة من القرآن، في ثوب تقليدي فلسطيني. وتدعم حركة مقاطعة إسرائيل من على منبر الكونغرس. وفي أول يوم لها كنائبة في مجلس النواب أمسكت بخارطة رسمية في مكتبها في بناية الكونغرس وخطّت "فلسطين" مكان "إسرائيل."يذكر أيضا أنّ طليب كانت أول نائبة في الكونغرس تدعو علنا إلى عزل ترمب من منصبه. ولو تحقق مطلب طليب بعزل ترمب، سيشكل ذلك انتقاما رمزيا للفلسطينيين، أو بلغة أكثر مجازا، عدالة شعرية.
لنتحدث عن الفلسطينوفوبيا، أو رهاب الفلسطينيين، المصطلح الذي يكاد يكون معدوما في الخطاب السياسي، غير أنه كظاهرة عصابية جماعية بات يشكل ملمحا أساسيا في السياسة الأمريكية الراهنة
لا يخفي ترمب عدائه العصابي للفلسطينيين في وقت باتت فيه الفلسطينوفوبيا ورقة سياسية رابحة في واشنطن، حيث يتسابق السياسيون الأمركيون، من ديمقراطيين وجمهوريين، على إبداء ولائهم المطلق لإسرائيل
السياسة المحلية الأمريكية والتشريعات القانونية
ولا تقتصر الفلسطينوفوبيا على ترمب وعقليته الانتقامية، بل هي متجذرة في السياسة المحلية الأمريكية والتشريعات القانونية على مستوى الولايات.
يكفي النظر إلى حالة الهستيريا تجاه حركة مقاطعة إسرائيل (بي دي إس)، حيث بادر سياسيون أمريكيون إلى شنّ حرب تشريعية على مجموعة سلمية محدودة النفوذ من داعمي حقوق الفلسطينيين في الولايات المتحدة. وحاليا هناك أكثر من 120 قانونا مكارثيا يستهدف النشطاء الفلسطينيين في أكثر من عشرين ولاية، وتدعو إلى تجريم مقاطعة إسرائيل قانونيا وفرض عقوبات كفكاوية تترواح بين السجن عشرين عاما وغرامة تصل إلى مليون دولار!
بتعبير مايك هكابي، المرشح الجمهوري السابق للرئاسة الأمريكية: "لا يوجود هناك شيء اسمه الفلسطينيون." أو بلغة نيوت جينجريتش، زعيم الأغلبية الجمهورية ورئيس مجلس النواب السابق: "لم يكن هناك يوما دولة فلسطينية؛ أعتقد أن الفلسطينين شعب مخترع."
يضاف إلى ذلك قوانين مماثلة في مجلسي الكونغرس، مثل قوانين مكافحة البي دي إس، علما بأنّ هذه القوانين تشكل انتهاكا صارخا لحق حرية التعبير والتظاهر المكفول بموجب التعديل الأول من الدستور الأمريكي.
ما يميز الفلسطينوفوبيا عن غيرها من الفوبيات أنها بلغت حدا من التطرف بات فيه السياسيون الأمريكيون ينكرون تماما وجود موضوع الفوبيا، الفلسطينيين. بتعبير مايك هكابي، المرشح الجمهوري السابق للرئاسة الأمريكية: "لا يوجود هناك شيء اسمه الفلسطينيون." أو بلغة نيوت جينجريتش، زعيم الأغلبية الجمهورية ورئيس مجلس النواب السابق: "لم يكن هناك يوما دولة فلسطينية؛ أعتقد أن الفلسطينين شعب مخترع."
نحن إذن أمام ظاهرة عصابية متطرفة يعجز سيغموند فرويد عن تشخيص أعراضها.
في الإعلام الأمريكي، حيث تسيطر الرواية الإسرائيلية
ولا تقتصر الفلسطينوفوبيا على صناع السياسة في واشنطن والمشرعين في الولايات الأمريكية. ففي الإعلام الأمريكي، حيث تسيطر الرواية الإسرائيلية، لا تزال الأصوات الداعمة لفلسطين شبه مقموعة. فعبارات مثل "الاحتلال" و"الأبرتهايد" هي بمثابة تابوهات سياسية في الخطاب الإعلامي الأمريكي. كما تنتشر الفلسطينوفويا في الجامعات الأمريكية، معقل اللبرالية الأكاديمية، حيث يتم تصنيف الأكاديميين الداعمين لحقوق الفلسطنيين على قوائم سوداء تابعة لجماعات إقصائية داعمة لإسرائيل ومقربة من اللوبي الإسرائيلي إيباك، مثل كناري ميشن.
يبدو أنّ الفلسطينوفوبيا بدأت تحصد ضحاياها. في العام الماضي، أخصائية التربية باهيا أماوي، أمريكية من أصول فلسطينية، فقدت عملها في مدرسة ابتدائية في ولاية تكساس لمجرد أنها رفضت التوقيع على قسم ولاء يلزم بدعم إسرائيل. في سياق مماثل، سارعت وكالة سي إن إن الأمريكية إلى عزل المحلل السياسي مارك لامونت هيل، أمريكي من أصول أفريقية، وذلك على خلفية خطاب له في الأمم المتحدة استعرض فيه انتهاك إسرائيل لحقوق الفلسطينيين.
رغم بعض التطورات الإيجابية، كانتخاب عضوات في الكونغرس داعمات لحقوق الفلسطينيين وحركة مقاطعة إسرائيل، مثل رشيدة طليب وإلهان عمر، إضافة إلى تصاعد الأصوات المناهضة للاحتلال والداعمة لحقوق الفلسطينيين في أوساط التقدميين والديمقراطيين من الأمريكيين الشباب، فإنّ الفلسطينوفوبيا لن تختفي في يوم وليلة، بل ستمتد على الأرجح إلى مرحلة ما بعد ترمب.
الفوبيات الجماعية تميل إلى البقاء والتكيف، وبخلاف الفوبيات الفردية، لا يمكن معالجتها من خلال عدد من الجلسات السيكوتحليلية، بل تحتاج إلى سنوات، وربما أجيال، لاجتثاثها من جذورها. نحن إذن أمام حرب خطابية وإعلامية طويلة الأمد، وتعتمد في حصيلتها على مدى قدرة النشطاء الفلسطينيين على تطوير استراتيجيات مواجهة غير تقليدية، مثل تنظيم حركات مدنية وحقوقية ناشطة، وبلورة خطاب سياسي قادر على النفوذ إلى الذهنية الأمريكية، والاستفادة من تجارب تاريخية على غرار حركة الحقوق المدنية الأمريكية الأفريقية.
نختتم بالقول بأن للفوبيا السياسية سجل طويل في التاريخ الأمريكي. "الخوف الأحمر"، أو المكارثية، كان حالة هستيريا جماعية ضد الشيوعيين خلال الحرب الباردة. "الخطر الأسود" شكلّ حالة رهاب عنصرية لدى المستعمرين الأمريكيين البيض تجاه قدرة الذكور السود على إغواء النساء البيض جنسيا. واليوم هناك الزينوفوبيا، أو رهاب الأجانب، والتي تشكل معلما أساسيا في سياسة دونالد ترمب. والأفروفوبيا، أو رهاب المهاجرين من أصول أفريقية، أو ما يطلق عليه ترمب "الدول الخرائية." أضف إلى ذلك الإسلاموفوبيا، كما في قرار ترمب حظر مهاجرين من بلدان إسلامية مثل سوريا وإيران.
صورة المقال غرافيتي لـبانكسي في شوارع فلسطين، من تصوير Dan Meyers
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com