تُعد اللغة النوبية من أقدم اللغات الشفاهية حتى تاريخنا هذا، خاصة بعد اندثار اللغتين الفرعونية والقبطية، وتُصنف كلغة نيلية صحراوية تنتمي إلى عائلة اللغات الأفريقية الآسيوية.
منذ ظهورها، عايشت النوبية عدة لغات محلية وعالمية مختلفة كلغة البجا شرقي السودان والهيروغليفية والرومانية والإغريقية فضلاً عن اللغة العربية.
اعتنق النوبيون المسيحية لأكثر من ألف سنة كانوا خلالها يكتبون بلغتهم، لكن عندما جاء الإسلام انصرفوا عن الكتابة بالنوبية لأنها ترجع إلى اللغة اليونانية القديمة، مع ذلك حافظوا عليها بالتواتر الشفاهي وبما بقي من نقوش على جدران معابد تعود للعصر المروي ومن الإنجيل والطقوس الدينية المدونة خلال العصر القبطي على جدران الكنائس.
بدت اللغة النوبية المكتوبة وكأنها قد انقرضت، حتى أعاد الدكتور الراحل مختار خليل مختار كبارة اكتشافها مع بدئه العمل على مشروع التحقيق في الحرف النوبي القديم منتصف الثمانينيات.
وكبارة، المولود عام 1952، عاش في النوبة وعايش مأساة التهجير. أولع باللغة النوبية أثناء دراسته الجامعية في كلية الآثار في جامعة القاهرة، وتعزز اهتمامه بها عام 1985 عند حصوله على الدكتوراه في علم المصريات من جامعة بون في ألمانيا الغربية.
بعد عودته للنوبة، ألّف كبارة كتابه "اللغة النوبية كيف نكتبها؟"، وفيه أشار إلى أن بدايات كشف الكتابة والتدوين في النوبة تعود إلى عام 1906 عندما زار الألماني كارل شميث مصر واشترى من تاجر هناك مخطوطاً مكتوباً على رقعة من جلد الغزال، وعندما حمله إلى متحف برلين كان يظن أن المكتوب عليه باللغة القبطية لكنه اكتشف بعد البحث أن أصول لغة المخطوط من نواحي النوبة.
وبحسب ما توصل إليه كبارة، فإن اللغة النوبية تتكون من 24 حرفاً، منها 4 صوتية خاصة بأهل النوبة، و17 حرفاً ساكناً و5 متحركة، وحرفان نصف متحركان.
ووفقاً للتقرير الصادر عام 2017 عن مركز "هردو لدعم التعبير الرقمي"، تحت عنوان "القضية النوبية والحقوق الثقافية"، يصل عدد النوبيين في مصر إلى نحو 4 ملايين شخص إلى جانب أكثر من 3 ملايين في الخارج.
وقد سعى نوبيون كثر إلى توريث لغتهم للأولاد والأحفاد، لكن إحصاءات "مركز حدود للدعم والاستشارات" تشير إلى أن نحو 30 في المئة فقط من قرى النوبة في أسوان تتحدث اللغة، ولذلك بدأت مؤخراً بوادر القلق تتضاعف لدى النوبيين من شبح انقراض لغتهم، ما ولّد مبادرات واسعة سعياً لإحيائها.
"القضية النوبية والحقوق الثقافية"
تعرضت النوبة لعدة عمليات تهجير في القرن العشرين، وذلك بعد إغراق عشرات القرى نتيجة بناء خزان (سد) أسوان.
"هجرة النوبيين من مكانهم الأصلي جنوبي خزان أسوان ووجودهم في بيئة جديدة وهجرة الكثير إلى المدن الكبرى كان له تأثير كبير على تراجع استخدام اللغة النوبية… لكن ما زال للأغنية النوبية الأثر الأكبر في الحفاظ على اللغة"، حسب تعليق الباحث النوبي حسن إبراهيم داوود لرصيف22.
إلى جانب الأغنية النوبية، نشطت مبادرات واسعة لإحياء اللغة من خلال إطلاق قنوات تلفزيونية تبث بالنوبية وإقامة متاحف تتحدث عن عادات النوبة ولغتها، إلى جانب تكثيف الأبحاث حول أساليب كتابة اللغة وتدريسها.
"نوبا تيوب"
تُعد قناة "نوبا تيوب" أكثر القنوات النوبية حِرفية، وأُطلقت عام 2016 للدفاع عن اللغة والهوية النوبية.
يتحدث المحامي النوبي محمد عزمي لرصيف22 عن "نوبا تيوب" باعتبارها "مشروعاً انبثق عن (مركز حدود للدعم والاستشارات) ويهدف لدعم التعددية الثقافية في مصر".
ويشرح عزمي، وهو مدافع عن حقوق الإنسان وممثل النوبيين في المنتدى الدائم المعني بقضايا الشعوب الأصلية فى الأمم المتحدة، بأن القناة أُطلقت باللغة النوبية، وقد أُنشأت على يوتيوب مع ترجمة عربية وإنكليزية، مضيفاً: "كانت القناة غير هادفة للربح، وتقوم خطة عملها على البث لمدة ساعتين يومياً، لأنها تقدم محتوى مجتمعياً يوضح مدى اهتمام القناة في الحفاظ على تراث ولغة النوبة ونشرها من جديد باستغلال التكنولوجيا الحديثة".
استمرت القناة بالبث لسنة ونصف عملت خلالهما على نحو 300 فيديو،، قبل أن يغلقها المسؤولون عنها بسبب المضايقات. وحول هذا الأمر، يقول عزمي: "كانت القناة كاملة الإمكانيات، كنا نمتلك استديو كاملاً وفريق عمل للتصوير والمونتاج كان يعمل بشكل حي في القرى النوبية وأغلبه من النوبيين لدواعي فهم اللغة والترجمة. توقفنا عن العمل حرصاً على فريق القناة الذي يصل لنحو 25 شخص، إذ أن نسبة الخطر كانت مرتفعة".
ويعلق عزمي: "أجرينا إحصاءات على القرى النوبية في محافظة أسوان، وقد أظهرت أن 30 في المئة فقط من قرى النوبة يجيد أهلها التحدث بالنوبية بينما قرابة الـ70% يحفظون بعض الكلمات فقط في المحافظة حيث يعيش حوالي مليون و486 ألف نسمة".
وللإشارة، لا يُسمح الحديث باللغة النوبية في المصالح أو الوزارات رغم أن القرار غير رسمي، بينما لا تهتم الدولة بنشر هذه اللغة أو المحافظة على ما بقي منها، حتى أن "اللغة النوبية تُدعى (لهجة) في مصر، ولا يُعترف بها كلغة بالرغم من أنها كُتبت في العصور السابقة وكانت لها حروفها الخاصة".
"متحف آنيماليا"
وُلد هذا المتحف بمبادرة شخصية، وهو يقع على جزيرة الفنتين واسمها أيضاً "جزيرة أسوان وسواننارتي" بالنوبية، وتقع في مواجهة كورنيش النيل مع أسوان.
صاحبه هو الباحث النوبي محمد صبحي الذي حوّل منزله لمتحف. يروي لرصيف22 دوافعه ويقول: "دفعني للمشروع حبي للنوبة ورغبتي في تزويد الزوار والسياح من كل أنحاء العالم بالمعلومات الصحيحة عن تاريخ النوبة وهويتها".
بدأ صبحي بالعمل على متحفه عام 2004، وكان حينذاك يقتصر على المحنطات ثم أضاف رسومات الكائنات والحيوانات البحرية والبرية التي تميزت بها النوبة على مر العصور، إلى جانب الأعشاب والمزروعات.
ويشرح الباحث النوبي: "وجدت أن المعلومات عن النوبة وتاريخها قليلة جداً حتى لدى المرشدين السياحيين أنفسهم، وبالتالي قررت إتاحة المكتبة النوبية الضخمة التي أملكها للجميع، ومع الوقت بدأ المرشدون يزورون المتحف للاستماع إلى قصص النوبة الصحيحة ومن ثم نقلها للزوار بدل ترديد كلام أشبه بالخرافات".
أسباب ترك النوبيين التحدث باللغه النوبية
يُفنّد صبحي أسباب فكرة تعليم اللغة النوبية للنوبيين من خلال المتحف بالقول: "أولاً لأن الأجيال الجديدة لم تعد تتحدث النوبية خاصة بعد تهجير النوبيين إلى كوم إمبو وذوبانهم في المجتمع العربي الكبير، وثانياً لأن ضياع لغة وانقراضها يعد بمثابة سقوط جزء من جسد الإنسانية، وثالثاً بعدما قرأت أن اليونسكو ستحاول الحفاظ على 5 لغات أفريقية من الانقراض منها اللغة النوبية، وهكذا بدأنا زوجتي وأنا في محاولة تعليم اللغة بالطرق التقليدية كالحروف والكتابة وعن طريق توثيق الأغاني وشرح معانيها".
ويرى الباحث النوبي أن أحد أهم الأسباب لترك اللغة تعود للعنصرية، فيقول:"كان هناك نوع من العنصرية من الشعب المصري للنوبيين على أساس اللون وكانوا يطلقون على الكلام النوبي (الرطانة)، بينما كانت العربية الركيكة التي يتكلمها النوبيون مدعاة سخرية وتندر".
دروس لتعليم اللغة
بجهد فردي منه وبدعم من الجمعيات الثقافية النوبية في القاهرة والإسكندرية، بدأ الباحث محمد عمر طه مسيرته لتدريس اللغة النوبية سواء للنوبيين أو لباقي المصريين.
وعن تجربته في الحفاظ على اللغة النوبية، يروي طه لرصيف22 قائلاً إن أول درس أعطاه كان عام 2005 في جمعية "أرمنا" النوبية.
قبلها، حصل طه على دبلوم في كتابة اللغات الأفريقية بالحرف العربي، ثم على ماجستير حول دور الأشعار والأمثال النوبية فى الحفاظ على اللغة.
اعتنق النوبيون المسيحية لأكثر من ألف سنة كتبوا خلالها بلغتهم، وعندما جاء الإسلام انصرفوا عن كتابتها... تقول إحصاءات إن حوالي 30 في المئة فقط من سكان قرى النوبة في أسوان يتكلمون النوبية، وسط مخاوف من انقراضها
عدا العنصرية ضد النوبيين على أساس اللون، تحوّلت العربية الركيكة التي كانوا يتكلمون بها إلى مدعاة للسخرية... أسباب عدة منها موجات تهجير ساهمت في ضياع اللغة النوبية، واليوم تنشط مبادرات لإحيائها
يقول طه: "وجدت للأسف أن الكتب الموجودة لا تُشبع رمق المبتدئ الذي يحتاج لتعلم اللغة النوبية، وأنا الآن أجهز لكتاب مبسط لتعليمها، والكورسات التي أقوم بتدريسها هدفها إنقاذ اللغة من الانقراض… كان قائدنا وأبونا الروحي وأستاذنا المخضرم محمد سليمان جدوكاب - الذي ندعو له بالشفاء التام - هو من أول من كوّن مجموعة من اثني عشر فرداً، كنت أحدهم، ليضعوا قواعد اللغة النوبية، وتمخضت هذه الورشة عن كتابين. وهناك بعض من اجتهدوا في هذا المجال ولم يسعفهم العمر أمثال المرحوم محي الدين صالح والمرحوم عمر ايدابودي، وقبلهما المرحوم مصطفى محمود طه".
يرى طه أن "الحفاظ عن اللغة لن يأتي إلا بجعلها لغة ثانية في مدارس النوبة، ووضعها مبدئياً على خريطة كليات الدراسات والبحوث الأفريقية في جامعتي القاهرة وأسوان لتدريسها ودعم الأبحاث لترسيخ قواعدها وصوتياتها".
تطبيق "نوبي"
نقل تطبيق "نوبي" لتعلم اللغة النوبية بلهجتيها "الكنوز والفدكي" معركة الهوية من الجمعيات الثقافية النوبية إلى فضاء الإنترنت الواسع.
و"الكنوز" هي لغة أهل شمال النوبة القديمة من منطقة قرى و جزر الشلال القديمة شمالاً في أسوان لحدود قرى دنقله و بعض قرى حلفا جنوباً، أما "الفاديكا" فيتحدث بها النوبيون داخل الحدود المصرية من شمال حلفا لمنطقة الشلال.
وتم تدشين النسخة النهائية من التطبيق في ديسمبر 2018، وتديره مجموعة من الشباب النوبيين بجهود ذاتية، وهو يضم أقساماً للأغاني النوبية التراثية مدعومة بترجمة للغة العربية، وقسماً للترويج للأشغال اليدوية التي تشكل أحد أهم عناصر التراث النوبي.
ويقول المدير التنفيذي لمشروع "نوبي" مؤمن طالوش لرصيف 22: "الهدف من تطبيق نوبي هو إيصال اللغة النوبية لملايين النوبيين داخل مصر وخارجها"، مجدداً الدعوة لإعاده النظر في إدماجها في المناهج التعليمية والمحافظة عليها من خطر الانقراض.
يُذكر أن أكثر من ألفي لغة معرضة للانقراض خلال المئة عام القادمة، حسب تصريحات الأمم المتحدة التي أقرت أن "2019 هو عام اللغات المعرضة للانقراض لزيادة الوعي بها".
ويشرح طالوش أن هناك قسماً في التطبيق يستهدف الطفل النوبي، عبر شخصيات كرتونية وأغاني ومجموعة من الجمل التى تُستخدم يومياً، مؤكداً على "امتلاك التطبيق لبعد تراثي وثقافي في دول أفريقيا واستهدافه نحو 8 ملايين شخص".
قناة "أركوني"
قناة "أركوني" هي نافذة إعلامية نوبية على "فيسبوك"، وتهتم بالحفاظ على الهوية النوبية وطرح قضايا النوبيين الآتين من النوبة العليا والسفلى.
وتشمل النوبة السفلى جنوبي مصر الحديثة وشمال السودان، في حين تقع النوبة العليا بين الشلال الثاني والشلال السادس لنهر النيل، أي في شمال ووسط السودان الحديث، بينما اقتصر اليوم لفظ النوبة على منطقة أصغر تقع جنوبي مصر وشمالي السودان.
وعن تجربة إطلاق القناة، يروي المترجم مهند توندي لرصيف22 قائلاً "أنا واحد من مؤسسي قناة أركوني لتكون وسيلة إعلامية ناطقة بالنوبية وتعكس بالطبع الثقافة، فضلاً عن سعينا لأن تخلق ترابطاً بين النوبيين في مصر والسودان".
ويضيف: "نطلق كذلك بعض الفيديوهات بالعربية للوصول إلى غير الناطقين بالنوبية بهدف معالجة مفاهيم خاطئة لديهم، فهناك تعميم على أن النوبيين نمط واحد وكأنهم جزء من العرب والصعايدة بالرغم من أنهم أصحاب ثقافة وحضارة خاصة بهم وحدهم"، معلقاً: "اللغة النوبية تخوض حرباً وينبغي علينا أن ندافع عنها".
"للأسف معظم التجارب لإقامة قنوات أو حتى إذاعات للدفاع عن اللغة والهوية النوبية تبدأ العمل ثم تغلق لأنها تقوم بجهود ذاتية وتحتاج للتمويل من أجل الاستمرار".
يشكو توندي من ضغوط التمويل، ويقول: "للأسف معظم التجارب لإقامة قنوات أو حتى إذاعات للدفاع عن اللغة والهوية النوبية تبدأ العمل ثم تغلق لأنها تقوم بجهود ذاتية وتحتاج للتمويل من أجل الاستمرار".
خيرية موسى... خبيرة تدريس اللغة النوبية
تُعد خيرية موسى أحد أبرز الأصوات النسائية المدافعة عن اللغة والعادات والتقاليد النوبية. شاركت في كثير من الندوات في الجمعيات الثقافية النوبية، كما أنشأت صفحة على "فيسبوك" تحت اسم "صالحاب برو (أيقونة نوبية)".
تروي موسى لرصيف22 قصتها، وتقول: "عملت مُدرّسة لسنوات طويلة وبعد تقاعدي أردت الاستفادة من خبراتي التربوية فضلاً عن نشأتي في القرى النوبية ومعايشتي للكثير من الأحداث والمناسبات وإتقاني للغة ، فقررت تعليم اللغة النوبية في القاهرة، فضلاً عن تعليم الحرف اليدوية وكتابة بعض المقاطع المسرحية باللغة النوبية وتدريب الشباب والشابات على تمثيلها"، مضيفة "قررت كذلك تقديم أشهى المأكولات والمشروبات النوبية في المناسبات والمحافل العامة، فضلاً عن تنظيم بعض المسابقات عن الكلمات أو العادات والمناسبات النوبية".
وتختم موسى بالقول إن هدفها الأساسي تعريف الأجيال الجديدة بلغة النوبة وهويتها، فـ"أهل النوبة أصحاب أول حضارة قامت على وجه الأرض وأعرق حضارة شهدها التاريخ في مدينة كرمة حاضرة النيل وعاصمة أول مملكة في العالم، كما أكد عالم الآثار السويسري المعروف في القارة الأوروبية شارلي بونيه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...