للكردِ، أسوةً بغيرهم من الجماعات الإثنيّة الهامشيّة أو المُهمّشة، حكايةٌ مريرةٌ مع اللغة، إذ حُرموا بادئ ذي بدء من حقّ التعلّم بلغتهم الأم، ومن ثمَّ أخذ يتعمّق هذا التحريم ليطال الكثير من المجالات التي تُستعمَل فيها اللغة، فنرى مثلاً تحريماً للتكلّم باللغة الكرديّة خارج الأطر الأسريّة والرفاقيّة الضيّقة، ما أدّى إلى إبقاء الكرديّة، بل حصارها، ضمن حيِّز التداول الشفويّ لا المكتوب.
لا نتطرّق هنا، لضيق المجال، إلى الجذور التاريخيّة للكرديّة ومراحل تطوّرها التي تحتاج بحثاً مستقلّاً مطوّلاً، لكننا سنكتفي بتسليط الضوء على التحوّلات الأساسيّة التي طرأت على الكرديّة، إثر انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة ونشوء كياناتٍ سياسيّةٍ جديدةٍ، أُلحِقَ بها الكرد بصورةٍ تراجيديّة.
التهميش المنهجي بحقّ الكرديّة ومتكلّميها
كنتيجة لاتفاقيّة سايكس-بيكو الشهيرة، انقسم المكان الجغرافي الكرديّ بشكل أساسي، بين أربع جغرافيّات سياسيّة مُحدَثة، وهي تركيا وإيران والعراق وسوريا. أي تمّ بموجب ذلك توزيع الجماعة الكرديّة بين جماعاتٍ إثنيّةٍ كثيرة العدد ومختلفة اللغات، ما أخضع الكرديّة تحت سطوة لغاتٍ حيويّةٍ، شديدة الأثر وصلبة القواعد، فالعربيّة مثلاً، ناهيك عن أنّها لغة أغلبيّةٍ سكانيّةٍ في كلّ من العراق وسوريا، هي أيضاً لغة مقدّسة تحظى بمكانة خاصّة في الوجدان الإسلامي الجمعي، والفارسيّة هي لغة الأغلبيّة التي تحكم إيران، والأمر ذاته ينطبق على التركيّة في الجمهوريّة التركيّة.
بعد هذا التقسيم الحاصل في بدايات القرن المنصرم، والتهميش المنهجي بحقّ الكرديّة ومتكلّميها، راحت الأزمة اللغويّة الكرديّة تتفاقم مع مضيّ الزمن، بسرعة تهدّد بأخطار شتّى، لم تلقَ، في كثيرٍ من الأحيان، من يقف حيالها ويعاينها بجديّة وحذر ضروريين، في محاولةٍ للحؤول دون انصهار الكرديَّة في بوتقة اللغات المحيطة، لأن ذلك يعني، بشكلٍ أو بآخر، انصهار الكرد أنفسهم في المحيط اللغوي والثقافي لمجتمعات الأكثريّة الحاكمة، ما يُضعف آمالهم التاريخيّة في التحوّل إلى أمّة حيّة، إذ ما من أممٍ حيّةٍ بلا لغاتٍ حيّة تفيد سبل الاتصال البشري والحضاري، على الرغم من صعوبة القول إنَّ اللغة هي العامل الوحيد اللازم لنشوء "أمّة" ما، لكنها تظلّ جوهر نموّها وتعاضدها.
للكردِ، أسوةً بغيرهم من الجماعات الإثنيّة الهامشيّة أو المُهمّشة، حكايةٌ مريرةٌ مع اللغة، إذ حُرموا بادئ ذي بدء من حقّ التعلّم بلغتهم الأم، ثمّ طال التحريم سياقات مختلفة، ما أدّى إلى إبقاء الكرديّة، بل حصارها، ضمن حيِّز التداول الشفويّ لا المكتوب
في كلّ جزء من أجزاء "كردستان" الأربعة لهجات عديدة، كالكرمانجيّة والسورانيّة والبهدينيّة والكورانيّة واللوريّة وغيرها
في الكرديّة كما في معظم اللغات لهجات متنوّعة، تتفاوت درجات اختلاف إحداها عن الأخرى، تبعاً لمحدّدات كثيرة، كالطبيعة الجغرافيّة والبيئة المحيطة والنظام السياسي وغير ذلك، وهذا التعدّد بلا شك عامل إثراءٍ وغنى بالمعنى الثقافي، بيد أنه في الوضعيّة الكرديّة ذات السياقات الخاصّة الاستثنائيّة باعثُ قلقٍ، إذ ما من سلطةٍ كرديّةٍ جامعةٍ "تفرض" على متكلّمي الكرديَّة لغة فصحى مشتركة، تمنع بدورها إنزلاق كل لهجةٍ في مجرى لغات أخرى واكتسابها هيئةً غريبةً عن الأصل الذي نشأت عنه.
في كلّ جزء من أجزاء "كردستان" الأربعة لهجات عديدة، كالكرمانجيّة والسورانيّة والبهدينيّة والكورانيّة واللوريّة وغيرها، وبالطبع لا يمكن الإحاطة بها جميعاً في مقال، لذا سنحاول هنا أن نركّز على اللهجتين الأساسيتين، اللتين يتحدّث بهما أغلب الكرد واللتين استُعملتا في الكتابة، بعد قرونٍ من البقاء في إطار المشافهة، وهما "الكرمانجيّة" التي تنتشر بشكل أساسي بين الكرد في كلّ من تركيا وسوريا وبعض المناطق المتفرّقة في بقيّة أجزاء كردستان، واللهجة "السورانيّة" التي يتركّز ثقلها في كردستان العراق وبين الكرد في إيران، وهي اللهجة التي حظيت لأسباب سياسيّة تاريخيّة معلومة بدرجةٍ معقولةٍ من العناية والتطوّر على الصعيد اللغوي العلمي.
"السورانيّة" و"الكرمانجيّة": لهجتان كرديتان مختلفتان اتسعت الهوّة بينهما مع مرور الوقت، فتكاد تستقلّ عن بعضها بصورة تامّة وتصبح لغةً بذاتها
المُنادون بـ"كرديّة نقيّة"، ينسون أو يتناسون أننا نعيش في ظرفٍ تاريخي لا توجد فيه لغة واحدة على الأرض دونما آثار واضحة للغات أخرى، وهذا شيء بالغ الطبيعيّة في صيرورة اللغات وتقدّمها
لكن الإشكال المحوريّ في هذا التنوّعِ لا يقتصر على الفروقات البارزة من حيث المفردات والقواعد النحويّة، بل يتعدّى ذلك إلى الألفبائيّة المستعملة في كلّ لهجةٍ، فالكرمانجيّة تعتمد اللاتينيّة المعدّلة قليلاً بما يتواءم مع الفونيتيك الكردي، وهي حديثة العهد نسبيّاً، حيث تعود نشأتها إلى بداية القرن المنصرم إثر مساهمات فعّالة لعددٍ من المستشرقين/المستكردين ولكلّ من العالم اللغوي الكردي توفيق وهبي (1891-1984) والكاتب واللغوي جلادت بدرخان (1893-1951) الذي كان صاحب الأثر البالغ في نشوء الألفبائية الكرديَّة "اللاتينيّة"، إذ كان يعدّها الأقرب إلى البناء اللغوي الكردي، متأثراً بتجربة الكاتب والباحث عرب شمو (1897-1978، بينما "السورانيّة" فتعتمد الأبجديّة العربيّة "الآراميّة" المحدّثة بدورها وفق متطلبات النطق والفونيتيك الكردي.
محاولات البحث عن "كردية نقية"... لماذا علينا التخلي عن فكرة "تطهير" لغة الكرد من "تأثيرات" اللغات الأخرى؟
إذن، نحن إزاء لجهتين مختلفتين ما فتئت الهوّة بينهما تتسع مع مرور الوقت، لتقترب كلّ منهما من أن تستقلّ عن الأخرى بصورة تامّة وتصبح لغةً بذاتها. ولا يجهل العارفون بسوسيولوجيا اللغة والتركيبة الإجتماعيّة-الثقافيّة وسياقات تحوّلها وتفاعلها مع اللغة التي تنشط داخل شرايينها كالدماء الطبيعيّة وتلك اللغات الغريبة القادمة بخلفيّات اقتصاديّة وسياسيّة وتكنولوجيّة مختلفة، خطورةَ هذا الشقاق اللغوي الحاصل داخل المجتمع الكرديّ.
جليٌّ أيضاً أن هذه الإنزياحات اللغويّة لم تنشأ هكذا بين ليلة وضحاها، بل إثر مقدّمات تاريخيّة-اجتماعيّة وحتى شروطٍ بيئيّةٍ مختلفةٍ، ولا ننسى دور السياسات الإقليميّة والدوليّة في هذا التأخّر اللغوي، بل للسياسة يد ظالمة لا تُخفى في التغييب المنهجي الذي تعرّضت له الكرديّة، و لهذه الأسباب كلّها، تنتظر المؤسّسات الثقافيّة الكرديّة والكتّاب والمهتمّين الكرد بالتكوين اللغوي والقواعدي، عقبات جمّة لن تزول إلّا بنشاط مضاد فعّال وعمل غير متراخٍ، من أجل تذليلها والوصول بالنتيجة إلى اتفاق كرديٍّ بينيٍّ، يصون، على أقلّ تقدير، احتماليّة نشوء لغةٍ كرديّةٍ فصحى مشتركة في المستقبل، ولا سبيل إلى ذلك دون المرور بإشكالية الأبجديّة التي تخفي خلفها إشكاليّات ثقافيّة وفكريّة متعدّدة.
ليس على اللغويين الكرد العمل على "تطهير" الكرديّة من "مخلّفات" اللغات الأخرى، إنما العمل على إدراجها في البنية اللغويّة الكرديّة وجعلها أكثر ملائمة للصوت والبناء اللغوي الكردي من خلال مناقشةٍ علميّةٍ موضوعيّةٍ بعيداً عن التوترات العاطفيّة، وأية محاولة للعزلة وجرّ الكردية إلى خنادق التعصّب
إذن، لا بد من البدء بتعريف كلّ طرف "لغوي- ثقافي" بالآخر وإمحاء الجزء الغامض المبهم فيه، بتسليط ضوء المعرفة عليه، وهذا مدخل تأسيسي لأيّ عمل يصبو إلى تقريب كرد الطرفين.
وبطبيعة الحال، مازالت الفرصة ماثلةً أمام السلطات الكرديّة والمؤسّسات الثقافيّة والمهتمّين باللغة والثقافة الكرديّة من أجل تحقيق صيغةٍ "عادلةٍ" من التقارب، لأن قاعدة لغويّة مشتركة لم تزل قائمة، رغم أنها تضعف وتهزل مع مرور الزمن في ظلّ الفروق اللغويّة الفجّة والجهل بالآخر ولهجته/لغته. هذه مهمّة شاقّة تستوجب نهضة ثقافيّة وانفتاحاً كردياً-كردياً يتجاوز الانتماءات الفرعيّة القبليّة والعصبيّات المذهبيّة الدينيّة، ويعرض الكرد أمام الكرد على الضفة اللغويّة-الثقافيّة المجاورة، بغية إحداث معرفةٍ أساسيّةٍ بحيثيّات الآخر وظروفه، وتالياً تفهّم أزماته وانفراجاته وتطلّعاته.
وكلّ ذلك لن يلقى نجاحاً إن لم يتمّ النظر إلى مسألة اللغة، بعين عابرة للحزبيّ والأيديولوجي، المنافي لأيّ صيغةٍ تعاونيّةٍ توافقيّة، أيّ تخندقٍ بهذا المعنى سجن للغة، مُنهِك جسداً (بنيةً) وروحاً (جوهراً). والمُشجِّع الذي لا يترك اليأس يتغلغل عميقاً في نفس المهتمّ بالشأن اللغوي والثقافي الكردي، هو القدسيّة التي لم تزل تحظى بها اللغة عند الكرد، نتيجةً لحساسيّة هذا الأمر، بعد تاريخ طويل من الاضطهاد والمنع، ما جعل اللغة أداة شبه وحيدةٍ بين أيديهم للمقاومة الثقافيّة، ولإظهار هويّتهم الخاصّة وتعزيز وجودٍ مستقلٍّ بين محيطٍ مختلفٍ من حيث اللغة والانتماء.
أخيراً، ولأنه بالكاد ينقضي نقاش حول اللغة والثقافة الكرديّة دونما التطرّق إلى الآثار و"الانحرافات" التي خلّفتها اللغات والثقافات الجارة، لا يمكن، بأيّ حال، إغفال مسألة تأثّر الكرديّة بلغات الشعوب الجارة وثقافاتها الثريّة، وكذلك آثار الكرديّة نفسها، لغةً وثقافةً، الجليّة في محيطها، وهذا النوع من "التأثير والتأثّر" ليس أمراً سلبيّاً على الإطلاق كما تروِّج بعض الجهات القومويّة العصبيّة، بل إنّه أمر حتمي وحميد، ساهم وما فتئ يساهم في إثراء الكرديّة كلغة من جهة، وفي فتحِ آفاق وسبل جديدة على الآخر من جهة أخرى.
مسألة تأثّر الكرديّة بلغات الشعوب الجارة وثقافاتها الثريّة، وكذلك آثار الكرديّة نفسها، لغةً وثقافةً، الجليّة في محيطها، وهذا النوع من "التأثير والتأثّر" ليس أمراً سلبيّاً على الإطلاق كما تروِّج بعض الجهات القومويّة العصبيّة، بل إنّه أمر حتمي وحميد
كما أنّ أولئك المُنادين بـ"كرديّة نقيّة"، ينسون أو يتناسون أننا نعيش في ظرفٍ تاريخي لا توجد فيه لغة واحدة على الأرض دونما آثار واضحة للغات أخرى، وهذا شيء بالغ الطبيعيّة في صيرورة اللغات وتقدّمها. واستناداً إلى ما سبق، ليس على اللغويين الكرد العمل على "تطهير" الكرديّة من "مخلّفات" اللغات الأخرى، إنما العمل على إدراجها في البنية اللغويّة الكرديّة وجعلها أكثر ملائمة للصوت والبناء اللغوي الكردي من خلال مناقشةٍ علميّةٍ موضوعيّةٍ بعيداً عن التوترات العاطفيّة، وأية محاولة للعزلة وجرّ الكردية إلى خنادق التعصّب، هي خطوة إلى الوراء توسّع الهوّة بين الكرديَّة والعالم وإقفال للدرب نحو تصيير الكرد أمّة حيّة، لأنّ الاتصال أساس الأمّة الحيّة مثلما يقول كارل دويتش.
صورة المقال عمل فني بعنوان "العشاء الأخير" للفنان الكردي حميد جمال، وهي جزء من مشروع Kurdistan - In-Between Worlds (رابط).
لمصادر إضافية عن الموضوع يمكن الرجوع إلى Identity, language, and new media: the Kurdish case لـ Jaffer Sheyholislami، وLanguage policy and national unity: The dilemma of the Kurdish language in Turkey لـDicle Cemiloglu، وA Modern History of The Kurds لـDavid McDowall.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم