عاشت حياتها متمردة، تركت الجامعة ولم تكملها، وشاركت في ثورة يناير، ولكن صديقاتها ممن شاركنها أفكارها الثورية والنسوية طردنها من السكن الذي كن يتشاركنه بسبب أنها لم تستطع أن تُسَدِّد ثمن فواتيرها المقررة، كانت تتقاضى في كل مكان عمل أجرا أقل بكثير من نظرائها بسبب كونها غير جامعية.
لم يكن أمامها سوى أن تعود إلى قريتها، وبيت أسرتها الذي تمردت عليه، ولم تستطع أن تتعايش مع هذه الأجواء مثل كثيرين غيرها، فانتحرت بعد مرور شهور قليلة.
هكذا روى أحمد قمر( 31 عاماً) يسكن القاهرة ويعمل بشركة استثمارية، لرصيف22 حياة صديقته الناشطة المصرية زينب المهدي، وكان شاهداً على الشطر الأخير من حياتها، والتي انتهت بانتحارها شنقاً في نوفمبر 2014.
الكبت و"حبَّاية الغلّة"
كانت المهدي ناشطة سياسية، ومشاركة بفاعلية في العمل المجتمعي، وكان لها دور بارز في دعم قضايا المعارضين للرئيس السيسي، والمعتقلين في عدد من سجون مصر.
زينب تذكّرنا بقصة الباحثة والناشطة السياسية أروى صالح التي انتحرت عام 1997، وألقت بنفسها من الدور العاشر.
في كتابها "المبتسرون: دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية" عالجت أروى المزالق المعقَّدة التي آلت إليها مصائر جيل السبعينيات الذي واجه البطش، وأفول طموحات هذا الجيل في تحقيق قيمهم التي كانوا يدعون إليها.
بعيداً عن القاهرة، في قرية بمحافظة المنوفية يعمل محمد بهجت (40 عاماً) في التدريس، ويكتب مقالات اجتماعية بصحيفة محلية بقرية في محافظة المنوفية المصرية، يقول لرصيف22 أنه عرف طالبين أقدما على الانتحار، أحدهما في السنة الأخيرة بالثانوية العامة، اكتشف الأهل أنه على علاقة جنسية بفتاة، والثاني انتحر بسبب ضغط الثانوية العامية.
الطريقة الشهيرة في قرى المنوفية للانتحار هي عن طريق "حباية الغلة"، مادة سامة للفئران، ويشير بهجت في حديثه إلى أن الانتحار بات حالة اجتماعية موجودة، لا أحد يعرف عددها أو دقتها، ويرى أنها انفجارات لمراحل كثيرة من الإحباط والكبت، فالطلاب الذين يدرّسهم يعرفون أن تأجيل إشباع الغريزة لما بعد التخرج غير حقيقي، مثلما كان الحال في الأجيال السابقة، بمجرد التخرج يتزوجون ويشبعون غريزتهم، أما الآن فالطالب يرى إخوته لا يتزوجون بسبب انعدام فرص عمل بمقابل يمكنهم من الزواج حتى يصلوا لأعمار متأخرة للغاية، ومن ناحية أخرى لا يسمح المجتمع بتصريف طاقته في أنشطة اجتماعية ورياضية وثقافية، يقول إن قريته كحال قرى عديدة في مصر باتت "خواء، ومافيهاش غير السلفيين".
الكاتب ياسر ثابت، يشير في كتابه "شهقة اليائسين.. الانتحار في العالم العربي"، والذي اعتمد في كثير من استنتاجاته على إحصاءات، إلى أن ما بين 11 و14 ألف شاب وفتاة ينتمون لبلدان عربية "يحاولون الانتحار كل عام"، ويشير إلى أن أعلى المعدلات تتركز في الدول التي تعاني مشكلتي الفقر والبطالة اللتين تهددان سلامة واستقرار هذه المجتمعات. كما تزيد معدلات الانتحار في المجتمعات التي تعاني حروباً أهلية أو ترزح تحت احتلالٍ أو اقتتالٍ طائفي.
"العيش أحق بالتجريم"
في قطاع غزة، حذّرت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، في مطلع يوليو الجاري، من زيادة حالات الاكتئاب والانتحار في القطاع المحاصر، في ظل انسداد الأفق أمام الشباب والإحباط بفعل الواقع السياسي المحيط بهم.
"آخر سنين حياتي تراودني فكرة الانتحار وتسيطر على الحوارات والنقاشات مع أصدقائي"، تقول رولا.أ (20 عاماً)، من قطاع غزة.
وتقول لرصيف22: "الانتحار كوسيلة تعبير ممكن نقول صادمة، أو رفض كلي للواقع الواقع السياسي والاجتماعي الذي نعايشه في غزة، كله كان جزءاً مساعداً في إهدار آخر آمال موجودة لنا هنا".
رغم أن رولا ترى أن الانتحار محرَّم دينياً، إلَّا أنَّها تعتقد أنَّ فكرة العيش "في ظل الوضع الراهن" أحقّ بالتحريم والتجريم.
تقول: "نعيش في مقبرةٍ جماعيةٍ، جماعات من الزومبي، فش مقوّمات حياة طبيعية، كلٌ يدور على آخر قشة ممكن يتمسك فيها".
وتضيف: "تعطشت لفترة طويلة لرؤية ناس عايشة بشكل طبيعي، سعيدة".
"تعطشت لرؤية ناس عايشة بشكل طبيعي وسعيدة، أعيش في مقبرة جماعية، بلا مقومات حياة طبيعية"
"غير صائب ومنطقي"
ليس بعيداً عن قطاع غزة، على الجانب الآخر من الخط الأخضر، وُجِد س.أ (38 عاماً) يصارع الأمواج التي غطته حتى ثلاثة أمتار، محاولًا أن ينجو بحياته بعد أن تنبّه لفعلته.
وهي لم تكن محاولته الأولى، ففي مرة سابقة حاول إنهاء حياته بطلق ناري، وإن كانت لأسبابٍ مختلفة في كل مرة.
يقول لرصيف22، وهو ناشط مجتمعي: "في المرة الثانية كانت أكثر بخصوص شعوري بالضعف في تغيير الأوضاع بشكل عام، في حين أنني مؤمن كنت كثير بحالي أني بقدر. لكن اصطدمت بمجتمع غير مبالٍ. بالإضافة إلى ظروف شخصية صعبة جدا كانت تمر بي".
لكن بعد تجربتين فاشلتين، يرى أن الانتحار "هو خيار أكثر هروباً مما هو فشل في محاولات تغيير الواقع".
"كنت أؤمن أنّي أستطيع ولكني اصطدمت بمجتمع غير مبالي"
متلازمة اليأس من تغيير الواقع لاحقت الشباب العربي منذ الهزائم المتكررة في ستينيات القرن الماضي، ويمكن القول إن فشل ثورات الربيع العربي، وغرق الدول العربية في حالةٍ من الفوضى والتشرذم، بددت الأمل الأخير للشباب في التغيير، فأصبح الانتحار طريقاً يلوح لبعضهم نحو "حريةٍ" من نوع ما.
وبالعودة إلى صباح السادس من حزيران، من عام 1982، والدبابات الإسرائيلية تتقدم نحو بيروت، خرج الشاعر خليل الحاوي إلى الشرفة، سدد بندقيّة الصيد إلى صدغه، بعد أن تبدّدت أحلامه في "البعث العربي" الذي عاش مؤمناً فيه.
"من دعاة الوطنية والتدين يظهر العكس، ومن دعاة الصبر والتقشّف تظهر حالات البذخ الهائل، انفصام لا مبرر له لشاب مطلوب منه أن يصبر ويبني"
الحاوي ليست الحالة الوحيدة، التي اختارت الانتحار وإنهاء حياتها احتجاجاً على سوداوية الواقع وتبدد أحلامها بالتغيير. فلابد أنكم تذكرون الشاب التونسي محمد بوعزيزي، الذي احتجّ على صفعه من قبل شرطي، وحين فشل في استرداد كرامته بالطرق القانونية أشعل النار في جسده، والذي كان القربان لاجتياح الربيع العربي عام 2011.
يرى أحمد صالح (21 عاماً) طالب جامعي من غزّة، أن "قرار الترحّل عن الحياة ليس بالأمر الهين سبيلاً للخلاص، لذلك من الممكن أن نعتبر الانتحار جريمة"، لكنه يستدرك في الوقت ذاته أنه "يمكننا اعتبارها الوسيلة الوحيدة والأسّلم لنجاة من مهزلةٍ ما، فإنه لا يوجد جريمة أسخف وأسفل وأقبح من أن يولد المرء عربياً".
ويضيف صالح: في ظل غياب الديمقراطية والمواطنة الحقوقية وتكافؤ الفرص العادلة والحريات يلوح الانتحار رافضاً مثل هذه الوقائع التراجيديا في عقول الشباب، حتى يخيل لهم أن الانتحار هو المهرب الوحيد من أزماتهم والعزلة والإحساس بقلة الحيلة.
إلا أن أحمد يؤكد أن هذه الأزمات لا تعطي عذراً للمنتحر، موضحاً "لكن عندما يرتبط الأمر بكرامة المرء وإنسانيته فإنها تصبغ هذه المعاناة لونها الأسود على أيامه، وتجبره على الرضوخ لسلسة من الأوامر والنواهي التي تقوده إلى الاستسلام لفكرة الانتحار".
ويرجع رزق المزعنن (66 عاماً) تغير نظرة الشباب في غزة إلى الانتحار برغم حرمته إلى "اهتزاز المنظومة العقدية"، موضحاً أن تأثير هذه الاهتزازات يظهر على فئة الشباب بشكل أكبر كونهم الأكثر توتراً وقلقاً.
ويتابع "المجتمع الفلسطيني انكسرت مرجعياته القيمية الدينية والوطنية وتشظت، بسبب حالة الانفصال بين القيم والواقع...فمن دعاة الوطنية والتدين يظهر العكس، ومن دعاة الصبر والتقشّف تظهر حالات البذخ الهائل، بما يمثل حالة انفصام لا تفسير ولا تبرير لها لشاب مطلوب منه أن يصبر وأن يبني وأن يتقدم، برغم انسداد الأفق أمامه".
بالمحصلة، يحدث ألا يحتمل من يصفهم بـ"الحساسين أو ذوي التجربة المحدودة أو ضيقي الأفق"، فينفجرون، ليس في وجه ظالميهم، بل في ذواتهم والتي هي أساساً هشة.
"الانتحار هو وسيلة للخلاص الفردي وليس لكسب العاطفة وانحراف الرؤى وإثارة المشاعر، إيماناً من صاحبه أنه لا فائدة من العيش ولا جدوى من إثارة المشاعر"، ينهي أحمد كلامه، ولكن قد لا ينتهي التفكير في "الخلاص" طالما استمر انسداد أفق المستقبل أمام شرائح واسعة من الشباب، وانعدمت وجود مساحات كافية تمكنهم من رؤاهم، وأحلامهم، وقد نرى زينب ثانية وثالثة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...