أرز، وسلطة، ودجاجة كاملة، أو قطع لحم مُبعثرة في حساء، يتنازع الإخوة من يأكل "الصدر" أو "الورك"، من يحب اللحم المختلط بالدهون أو الصافي، إنها وجبة الغذاء الرئيسية، وفي العشاء أجبان، وفول، وطعمية، وزيتون، وباذنجان، وبطاطس، أصناف كثيرة، وتنعكس شخصية كل فرد في الأسرة على ذوقه، واختياراته.
قد تبدو تلك الوجبات بسيطة، ورخيصة التكلفة، وعاديّة جداً، ويحمل الكثير من جيل الثمانينيات والتسعينيات في مصر ذكريات خاصَّة بأطباق "عاديّة جدا"، ولكن الطبقة المتوسطة في مصر تغيَّر حالها كثيراً، إلى درجة أنَّ تلك الأطباق "العادية جدا" توفيرها بشكل يومي، يكاد يكون مستحيلاً لبعض الأسر نظراً للظروف المادية الصعبة التي تمرّ بها.
تنتظر فاطمة عمر، أمام محلٍّ لبيع بيض الدجاج، حتى يخلو من الزبائن لتدخل وتشتري "كسر البيض"، وهو بيض الدجاج المكسور، لأنه أقل سعراً.
فاطمة (35 عاماً)، تسكن في منطقة "الطوابق" الشعبية في حي فيصل بالجيزة، متزوجة ولديها ثلاث أبناء أصغرهم مازال رضيعاً.
تقول لرصيف22 إنها تعاني من أجل أن تكون مائدتها عامرة بالطعام طوال الشهر.
يتقاضى زوج فاطمة 3 آلاف جنيه شهرياً (ما يقارب 170 دولار)، يمنحها منها 750 جنيها كـ"مصروف للبيت" ورغم زيادة أسعار الكثير من السلع، خاصة مع رفع الدعم عن الوقود في مصر، إلا أن الـ750 جنيهاً لا تزيد.
تتشاجر فاطمة مع زوجها، وتغضب وتهدده بترك المنزل ليرفعه قليلاً، لكنها في النهاية تلتمس له العذر، تقول: "بيدفع 1100 جنيه إيجار الشقة، و400 جنيه فواتير كهرباء وميه، ده غير مواصلاته".
مُقاطعة اللّحوم
لتوفير الطعام لأسرتها طوال الشهر تُعدّ فاطمة، بحسب ما تروي لنا، أصنافاً من الطعام رخيصة الثمن، فهي "قاطعت اللحمة" وأصبحت تشتري بقوليات أكثر، مثل الفول والفاصوليا، حتى يحصل أفراد أسرتها على البروتين النباتي بدلاً من البروتين الحيواني، بسبب ارتفاع أسعار اللحوم.
تخجل فاطمة عندما يطلب أحد أبنائها فاكهة ولا تقدر على شرائها، فتلجأ لشراء فاكهة تالفة/فاسدة بسعرٍ أقل.
طفل فاطمة الرضيع يحتاج لـ4 عبوات من لبن الأطفال شهرياً، ولأن هذه "العلب من ميزانية البيت" تشتري أرخص الأنواع، ومع ذلك تفشل في توفيرها في بعض الأشهر، فتُرضعه ماءً مُضافاً إليه نشا الذرة، "بدل ما يموت من الجوع"، حسبما تقول لرصيف22.
ويعدّ سوء التغذية سبب ثلثي وفيات الأطفال في العالم، فيما تُعتبر مصر ضمن 36 بلداً يتركز فيها 90% من عبء سوء التغذية العالمي، بحسب ما يذكر موقع "يونيسف مصر"، الذي يشير إلى أن من الأسباب المباشرة لسوء التغذية في مصر عدم كفاية المُدخلات الغذائية، وهو ما يظهر في الممارسات الغذائية الضارّة للرضع والأطفال الصغار.
أبسط الأكلات مُكلِّفة
تضع سميرة عبد الرحيم (44 عاماً)، "طبق جبنة" ومعه "بطيخ" وأطباقاً أخرى بسيطة أو غير تقليدية على طاولة الطعام في منزلها كوجبة سواء في الغذاء أو العشاء، ما يقرب من نصف أيام الشهر، حتى يكفي "مصروف البيت" الشهر كله أو معظم أيامه دون أن تطلب أموالاً إضافية من زوجها.
سميرة أم لأربعة أبناء أكبرهم في المرحلة الجامعية، وأصغرهم في مرحلة التعليم الابتدائي، تقول لرصيف22، إنها تحصل على 1500 جنيه أي أقل من 100 دولار "مصروف للبيت"، لكنها ترى أنه غير كاف لأسرة مكونة من 6 أفراد، وتطالب زوجها بزيادته.
تضطر سميرة للاستدانة من بعض أقاربها أحياناً لتُكمل الشهر "لأن أبسط الأكلات" باتت مكلفة وليس اللحوم والدواجن فقط.
"أبسط الأكلات أصبحت مكلفة وليس اللحوم والدواجن فقط"
تشتري سميرة شهرياً 3 كيلوغرامات من اللحم بـ390 جنيها، و4 دجاجات بـ200 جنيه، بالإضافة إلى أرز ومكرونة وسمن وزيت وسكر ومتطلبات أخرى بحوالي 700 جنيه بخلاف الخضراوات. وتقول "الولاد خاصة الصغيرين في مرحلة بناء الجسم، فمحتاجين غذاء صحي"، لكنها ترى أن "الأمر صعب" وتقدم لهم كثيراً أكلات يسميها المصريون "أورديحي" بدون لحوم.
عالمياً، نحو ربع الأطفال قد يتأخّر تحصيلهم الدراسي بسبب سوء التغذية، بحسب تحذيرٍ أطلقته منظمة "أنقذوا الأطفال" البريطانية، والتي أشارت إلى أن عدم اتباع نظام غذائي جيد قد يؤثر بصورة بالغة على قدرة الطفل على القراءة والكتابة، لافتة إلى أن الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية قد يتأخر نموهم ويصبحون أكثر ضعفاً، وربما لا تنمو أدمغتهم بصورة كاملة.
وتتراوح أسعار هياكل الدجاج "العظام" من 5 لـ 8 جنيهات، بحسب صاحب محل للطيور، في منطقة "المريوطية" بمحافظة الجيزة، قال لرصيف22، إن بعض المواطنين يلجؤون لشرائها بسبب ارتفاع أسعار الدواجن، مضيفاً أن الزبائن باتت تقبل على شراء "أوراك الدجاج" بالقطعة وليس بالكيلو، وكذلك "الكبد والقوانص" بدلاً من شراء دجاجة كاملة.
"الزبائن باتت تقبل على شراء "أوراك الدجاج" بالقطعة وليس بالكيلو، وكذلك "الكبد والقوانص" بدلاً من شراء دجاجة كاملة"
"بِصارة وفول نابت"
حينما يضيق الحال بعائشة إبراهيم (64 عاماً)، تضع "شوية ملوخية ناشفة" في طبق ثم تُضيف ماءً بارداً، ثم تضع القليل من الثوم والملح والليمون، صانعة بذلك أكلة صعيدية بسيطة لكنها غير شائعة تسمى بـ"الشلولو"، لتأكلها وابنها الذي يعاني من إعاقة ذهنية.
تتقاضى عائشة معاشاً شهرياً قدره 900 جنيه، يذهب جزء منه على علاج ابنها، ولهذا تشتري عظام وأجنحة الفراخ وتطهو بها.
تقول عائشة لرصيف22: "حتى الخضار باجيب المفعّص والمضروب". ومع ذلك ترى أن حالها أفضل من كثيرين غيرها، "أنا أعرف أكلات قديمة مبتكلفنيش عشرة جنيه زي البصارة والشلولو والفول النابت".
مؤخراً، أصبحت السيدة التي تخطت الستين عاماً تلجأ إلى بعض الجمعيات الخيرية لمساعدتها في توفير علاج ابنها ذي الإعاقة حتى تستطيع أن تضع على طاولة طعامها طبقاً يُشبعها دون أن تأكل "أرجل الفراخ" وتنبش في القمامة كما ترى البعض يفعل.
نزاعات عائلية
عادل ممدوح (47 عاماً) متزوج ولديه ثلاثة أبناء، يقول لرصيف22، إنه يعمل في وظيفته الحكومية صباحاً، وفي مطعم مساءً، حتى يستطيع توفير "متطلبات البيت" لأن مرتب الوظيفة الحكومية الذي يحصل عليه "ميأكّلش عيش حاف" بعد سداد التزاماته الشهرية.
يُعطي ممدوح لزوجته مصروفاً شهرياً متغيراً لكنه دائماً لا يزيد عن ألف جنيه، فتقوم بتقسيمه إلى 4 أجزاء، كل جزء يكفي أسبوع، ومع ذلك تفشل في كثير من الأحيان "رغم أنها بتحط يوماتي على العشاء فول وفلافل"، لأن الأسعار في زيادة مستمرة و"مافيش حاجه بتنزل".
في البرج السكني الذي تعيش فيه فاتن سعد (اسم مستعار) بمنطقة «كعابيش» في محافظة الجيزة، نشب شجار كبير الشهر الماضي بين واحدة من جيرانها وزوجها، وامتدّ الشجار من الصباح وحتى منتصف اليوم، وعندما رغبت في معرفة أسبابه من زوجة حارس العقار حسبما تقول لرصيف22، أخبرتها بأن الزوجين لا يملكان مالاً لشراء إفطار أو لإعداد غذاء لهم ولأطفالهم.
حصل الزوجان اللذان تشاجرا لعدم امتلاكهما مالاً لشراء الطعام على 50 جنيهاً من حارس العقار، حسبما علمت فاتن، التي أشارت إلى الظروف المالية للزوجين اللذين في الطابق التالي لها تتسبب في اندلاع مشاجرات كثيرة بينهما تصل إلى حد "الشتائم" بألفاظ نابية.
أهل الريف
زينب عبدالعال (53 عاماً)، أرملة من إحدى قرى محافظة الأقصر بصعيد مصر، تقول لرصيف22، إن الحياة في القرية تتأثر بالغلاء لكن ليس كما هو الحال في المدينة، لأن غالبية أهالي الريف يعتمدون على تربية الطيور والماشية التي توفر لهم الكثير من أصناف الطعام على مائدة الطعام.. أو "الطبلية" كما يسميها أهالي الصعيد، مثل البيض، والجبن، واللبن، والدواجن، واللحوم.
لدى زينب ثلاثة أبناء يُقيمون جميعهم في القاهرة، وانتقلت منذ سنةٍ تقريباً للعيش مع ابنها الأكبر في منطقة المعادي لظروف مَرَضية، وتزور الصعيد كل بضعة أشهر، وتقول إنها تشفق على أبنائها بعد أن لاحظت "حجم المعاناة" التي يعيشونها، وتحاول أن تساعدهم بخبرات أهل الريف، كأن تُعدّ لهم الخبز في المنزل، وتصنع لهم أكلات منتشرة في الصعيد وغير مكلفة كالبصارة.
يعمل في وظيفته الحكومية صباحاً، وفي مطعم مساءً، حتى يستطيع توفير "متطلبات البيت" لأن مرتب الوظيفة الحكومية الذي يحصل عليه "ميأكّلش عيش حاف"
المصري "عبقري" و"متكيف"
في الوقت الذي يعاني فيه البيت المصري في إعداد وجبات لائقة ومغذية، يروّج بعض الإعلاميين المحسوبين على النظام لتلك المعاناة باعتبارها "بطولة"، ويصفون الشعور بالعجز الذي يختبره المصريون، خاصة الأمهات، بأنه "تكيّف" و"تواؤم"، وما يعدونه من أطباق تعوّض المواد الأساسية الغذائية بأنه "تحايل" عبقري على الظروف.
الإعلامي محمد الباز، مقدم برنامج "90 دقيقة" على قناة المحور الفضائية، نصح في إحدى حلقات برنامجه المواطنين بالتحايل على الظروف، ووصف الشعب المصري بأنه «عبقري» في التكيف والتواؤم مع أي ظرف.
واعتبر الباز أن شراء المصريين لـ"أرجل الفراخ والعظم" يمثّل عبقريةً مصريةً في "التحايل على المعايش"
لكن الدكتور مجدي نزيه، رئيس وحدة التثقيف الغذائي بالمعهد القومي للتغذية، حذّر في تصريحات تلفزيونية، من تناول "أجنحة الفراخ"، ونفى وجود أي فائدة صحية تعود من تناوله، إضافة إلى أنها "مفصل وده مركز مشاكل"، به نسبة دهون عالية، وهرمونات، وبقايا عقاقير طبية، مشدداً على أنه لا يوجد بها أي فوائد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...