"ما اسم هذا المطعم؟ ستة إلا ربع؟ يا له من اسمٍ غريب". همساتٌ لا بدّ لكثيرٍ من المارّة في شارع العابد وسط العاصمة السورية دمشق من تبادلها، وهم ينظرون نحو مطعم يحمل اسم "ستة إلا ربع" مع لافتةٍ على شكل ساعةٍ كبيرةٍ زرقاء تشير عقاربها إلى الرقم نفسه، وقد يضحك البعض متسائلين عن سبب اختيار هذا التوقيت بالذات، وليس خمسة ونصف أو سبعة ونصف على سبيل المثال.
في حال دفع الفضول أحد هؤلاء المارة لدخول المطعم، سيجد رويداً رويداً الإجابة عن تساؤلاته، فلهجة روّاد المكان والأغنيات التي تتردّد من مكبّرات الصوت، وحتى جدرانه وقائمة الأطعمة والمشروبات فيه تشي بهويته أو على الأقل بجزءٍ منها، حتى أن الزائر قد يخال لوهلةٍ بأنه انتقل فجأة لعالمٍ مختلفٍ تبدو مدينة دير الزور السورية حاضرة في كل زواياه وتفاصيله.
لماذا ستة إلا ربع؟ نسأل صاحب المكان، مازن العاني، في لقاءٍ معه على طاولةٍ صغيرة تقع في إحدى زوايا المطعم، فيجيب بلهجةٍ ديريةٍ واضحة لا يمكن أن تخطئها أذن: "ستة إلا ربع من أهم معالم مدينة دير الزور. لو سألنا أيّاً من أبناء المدينة عمّا يذكره منها اليوم فماذا سيجيب؟ ستة إلا ربع والجسر المعلّق، وقد اخترت ستة إلا ربع لأننا نملك كميةً هائلةً من الذكريات المتعلّقة به، وأيضاً لأن الاسم مميز ويترك أثراً سريعاً في الذاكرة".
وبالفعل يبدو أن العاني حاول إبقاء جزء من تلك الذكريات حيّة في كافة أرجاء المكان: على الجدران تنتشر عشرات الصور لشخصياتٍ وأعلامٍ من دير الزور، وسط تصاميم بسيطة اختيرت بوحيٍ من البيوت والطراز المعماري للمدينة، مع بعض التفاصيل التراثية، مثل "المنخل" الذي كان يُستخدم قديماً لوضع الخبز، وأيضاً الصنابير والأوعية النحاسية الصغيرة، ومع وجبات الأطعمة الديرية بامتياز، يمكن طلب "الخزنة" وهي عبارة عن مشروبٍ غازي أحمر اللون لا يعرفه سوى أبناء المنطقة الشرقية في سوريا.
وتعليقاً على هذه التفاصيل الجميلة التي تزيّن المكان، يقول الرجل الخمسيني لرصيف22، بلهجةٍ لا تخلو من الأسى: "حاولنا جمع تفاصيل المدينة المدمَّرة وأهلها المشردين في هذا المكان الصغير".
شارع ستة إلا ربع
وسط مدينة دير الزور وبين شوارعها التي لطالما كانت مكتظة، يقع شارع ستة إلا ربع والذي يعتبره سكان المدينة الأشهر والأحب إلى قلوبهم على الإطلاق، فهو "شارع العشاق" الذين لا يجدون فسحةً عامةً أخرى للقاء الحبيب/ة، وفي الوقت نفسه يُعتبر هذا الشارع مركز الدير التجاري بما يحتويه من محال تبيع أحدث البضائع كالألبسة والأحذية، سواء ضمن الشارع الأساسي نفسه أم على أطراف تفرعاته العديدة المزدحمة.
يُعرف الشارع رسمياً باسم "شارع الميسات" كما كانت تشير لوحةٌ معلّقةٌ على مدخله، لكن التسمية الشعبية ستة إلا ربع كانت ولا تزال هي المتداولة بين أهالي المدينة، والذين يعزونها لأسبابٍ مختلفة.
فالبعض يقول بأن عرض الشارع ستة أمتار إلا ربع على خلاف الشوارع المحيطة والتي يبلغ عرضها ستة أمتار تماماً، وآخرون يربطون الاسم بساعة نزول المتسوّقين –وأغلبهم من النساء- في فصل الصيف مع انكسار حدّة الشمس وحرارتها، أو موعد عودتهم لمنازلهم في الشتاء.
وهناك رأيُ ثالث يتحدّث عن وصف زوّار الشارع بأنهم ذوو عقل "ستة إلا ربع" أي أصحاب عقلٍ ناقصٍ لاهتمامهم بقصص وحكايا العشق وتوجههم إلى هذا المكان بالذات للقاء أحبتهم، وسبب هذا الوصف هو الاعتقاد بأن درجات النظر المكتملة هي ستة بالتمام والكمال.
هذا وتشير وجهة نظر رابعة إلى أن هذه التسمية تعني لدى أهل الدير القدماء "الشيء المزيف"، وكانوا يطلقونها على الشارع عندما شُيّد في ستينات القرن الماضي، لاعتقادهم ببعده عن مركز المدينة القديم الأساسي وبالتالي عدم أصالته.
ومنذ العام 2012 تقريباً، تحوّل شارع ستة إلا ربع، كما حال المنطقة المحيطة به، لمسرحٍ يحتضن أعنف جولات المعارك التي لم تنته في العام 2017 إلا بدمارٍ كبيرٍ وبهجرة السكان إلى مناطق أكثر أمناً داخل المدينة وخارجها، ليغدو الشارع خاوياً على عروشه.
كيف نعيد إحياء الذاكرة؟
لم يمنع دمار ستة إلا ربع من استمراره ماثلاً في عقول وقلوب أهالي دير الزور، فهو لا يزال بنظرهم من أهمِّ المعالم التي تستحق أن تبقى حيّة رغماً عن الحرب التي اجتاحت المدينة لأكثر من خمسة أعوامٍ متتالية.
"بكل بساطة، نقلنا شارع ستة إلا ربع لمكان آخر"، بحسب ما يخرج عن لسان من تبقى من سكان الدير، ويشعر هؤلاء بالفخر وهم يرشدون أي زائر نحو شارع "عطرة" الذي يقع في جانبٍ آخر من المدينة، والذي تحوّل خلال السنوات القليلة الماضية إلى مركزٍ تجاريٍّ بديلٍ عن المناطق التجارية التي دمرتها الحرب، ويبدو اليوم مكتظاً إلى حدٍّ كبيرٍ بالمحال والمطاعم الصغيرة والمارة من كل حدبٍ وصوب.
لم يمنع دمار ستة إلا ربع من استمراره ماثلاً في عقول وقلوب أهالي دير الزور، فهو لا يزال بنظرهم من أهمِّ المعالم التي تستحق أن تبقى حيّة رغماً عن الحرب
"الكثير من محال ستة إلا ربع انتقلت إلى شارع عطرة الذي بات يشهد حركةً تجاريةً غير مسبوقة"، بحسب ما تكشفه ريم وهي من سكان المدينة في حديثٍ لها مع رصيف22 وتضيف: "ولأننا نحب ستة إلا ربع، حوّلنا اسم هذا الشارع إلى "عطرة إلا ربع"، ولم نعد نتحدّث عنه سوى بهذا الاسم الجديد. نبحث عن طريقةٍ نحيي بها تفاصيل مدينتنا التي نحب".
هذه التفاصيل تتضمّن نزهات التسوّق، ومواعيد العشاق الخفيّة في أزقة الشارع بعيداً عن أعين الناس، واللقاءات المرتبة أو تلك التي تجمع أشخاصاً بالصدفة أمام أو داخل أحد محال الشارع التجاري الذي لم يبقَ منه اليوم سوى الذكريات.
المحبة تجمعنا
مع حلول ساعات المساء، يمتلئ مطعم ستة إلا ربع في دمشق بالروّاد، سواء كانوا من أهالي دير الزور النازحين إلى دمشق والذين يقصدون المكان بهدف الاجتماع وتبادل الأخبار والحكايا، أو من سكان المدينة القادمين للاستمتاع بالأطعمة الديرية التي تعرّفوا إليها مؤخراً، كالكباب الديري وكباب الباذنجان وكبّة البرغل والمشحمية، وأيضاً حلويات الكليجة المحشوة بالتمر، والشاي المنكّه بحب الهال.
يراقب مازن العاني الطاولات المليئة بالزبائن، ولا يخفي شعوره بالسعادة لتحوّل المطعم الذي لم يمضِ أكثر من عامين على افتتاحه إلى ملتقى لسكان دمشق من مختلف الشرائح والخلفيات والمناطق، وهي المدينة التي استقبلت مئات آلاف النازحين خلال السنوات الماضية، وأيضاً إلى مكان يعرّف الزائرين بتراث وحضارة دير الزور والتي كثيراً ما يجهلها سكان المدن السورية الأخرى.
خلال حديثه مع رصيف22 يقول العاني: "علّقنا على الجدران صور العديد من أعلام المدينة والتي اخترتها بمساعدة أصدقاء لي من الدير، وكتبنا تحت كل صورةٍ اسم صاحبها أو صاحبتها. يمكنكم أن تجدوا هنا صورة أول معلّمةٍ في المدينة وأول شاعرٍ والعديد من الوجهاء والأعيان والأشخاص المعروفين بمواقفهم الطيبة، ونستمرّ بإضافة صورٍ جديدةٍ بناء على مقترحات الزبائن. إن كنا فقدنا المدينة فربما نستطيع استعادتها هنا".
ويشير الرجل الذي يعمل في مجال الهندسة والديكور إلى أن أهداف المكان لا تقتصر على ذلك، بحيث أنه عمل ومنذ اليوم الأول لإنشائه على أن يكون المطعم منصةً للعمل الخيري ومساعدة الآخرين.
عند مدخل المطعم، يصادف الزائر خزانةً خشبيةً كبيرة كُتب عليها "نملية ستة إلا ربع"، والتي تمتلئ بأصناف الأطعمة الديرية المحضّرة بشكل منزلي، مثل اللبن والجبن والمكدوس وحلويات الكليجة: "تشكّل هذه النملية شبكة تواصل اجتماعي فريدة، حيث نعرض فيها منتجات صنعتها أيادي عائلات ديرية تقطّعت بها سبل الحياة بعد نزوحها، وإليها يعود هامش الربح من البيع مهما كانت قيمته".
وعن نجاح هذه المبادرة، يقول العاني: "لقد ساعدت النملية عشرات العائلات على متابعة حياتها بكرامة وعرّفت كثيرين على المأكولات الديرية المحلية المصنّعة يدوياً".
"ربما دمّرت الحرب مدينتنا لكنها لا يجب أن تلغي أواصر المحبة بيننا"
إضافةً لذلك، يعتقد العاني بأن طاولات المطعم كثيراً ما تحوّلت إلى مكان للمساعدة وتقديم الخدمات، خاصة بين أهالي دير الزور: "اليوم أهالي مدينتنا هم أحوج ما يكون لبعضهم البعض بعد سنوات الحرب والتشرد، ولا أرى بأن ستة إلا ربع هو مجرّد مطعمٍ أو مكانٍ لتحقيق الربح المادي، بل بات ملتقى للتكاتف والتعاون، ولفكرةٍ أنادي بها على الدوام، وهي ضرورة ألا نقطع المعروف بين بعضنا البعض لأنه كل ما بقي لنا"، ويضيف العاني: "ربما دمّرت الحرب مدينتنا لكنها لا يجب أن تلغي أواصر المحبة بيننا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...