عند الوصول إلى دوّار التموين وسط مدينة دير الزور السوريّة، يحتاج المرء في أغلب الأحيان إلى التوقّف لوهلةٍ والتفكير قبل اختيار وجهته، خاصّةً إن كان سائحاً يتجول لأوّل مرّةٍ في المدينة للتعرّف إلى معالمها، فهل سيذهب باتجاه الشمال نحو الشارع العام الذي يُعتبر من أهمِّ الشوارع الثقافيّة والتراثيّة والاقتصاديّة في دير الزور، أم شرقاً إلى شارعي "حسن الطه" و"ستة إلا ربع" التجاريين أو شارع "التكايا" الأثري، أم يتجه غرباً نحو شارع "سينما فؤاد" وحديقة العشّاق، وهي من أهمّ أماكن لقاء الشباب والأصدقاء والأحبّة؟
جميع الخيارات ممكنة ومتاحة في هذه المدينة الواقعة على ضفّة نهر الفرات شرق سوريا، والتي تزخر بتفاصيل غنيّةٍ تحتاج وقتاً طويلاً لاكتشافها، ولمعرفة روح المدينة وأمزجة وثقافة سكّانها عن قرب، فالشوارع والأبنية بأنماطها العمرانيّة المختلفة، تحكي الكثير عن تاريخٍ يعود لآلاف السنين قبل الميلاد، وحوض النهر الواسع الذي تستلقي البيوت على طرفيه، له قصص أخرى لا يملّ أهل المدينة من سردها على الزوّار مراراً وتكراراً.
قد يبدو هذا الوصف غريباً بعض الشيء، بعد مرور سنواتٍ على الحرب التي عصفت بأرجاء المدينة والمعارك العنيفة التي دمّرت معظم أرجائها، فما من سيّاحٍ يطرقون بابها أو يفكرون حتّى بالمجيء إليها، وما من زوّارٍ يمرّون في شوارعها أو يجلسون على ضفاف نهرها الحزين. لكن أهل "الدير" –كما يُطلق عليها باللهجة المحليّة- لا يزالون يقصدون دوار التموين الغارق في الخراب ويتلفّتون يميناً ويساراً لاختيار وجهتهم، إذ يدفعهم الحنين لزيارة تفاصيل مدينتهم المدمّرة، ويتمنّون لو كان بإمكانهم إعادة الزمن للوراء، بضعة أعوامٍ فقط، ومن ثمّ إجباره على التوقّف.
شارع سينما فؤاد...ذكرياتٌ لا تزال حيّة بين حجارته
يمتدّ شارع سينما فؤاد على بعد عدّة كيلومتراتٍ من دوّار التموين وصولاً لساحة حمّود العبد، وهو من أكثر شوارع دير الزور شهرةً، ويضمُّ مئات المحال التجاريّة والمعالم الثقافيّة، وقد اعتاد أهل المدينة فيما مضى أن يقصدوا سينما فؤاد التي أًنشئت منتصف القرن الماضي وتقع تقريباً في منتصف الشارع الذي يحمل اسمها، مع العلم أن هذه السينما كانت تعتبر واحدة من بعض دور السينما المنتشرة في أرجاء المدينة، منها المغلق، ومنها المفتوح في الهواء الطلق.
"شارع سينما فؤاد كان الأهمّ على الإطلاق بالنسبة لنا، الأهمّ دون منازعٍ. ورغم أن السينما مغلقة منذ سنواتٍ طويلةٍ لكن الاسم له وقعٌ خاص للغاية في قلوبنا"، هذا ما تقوله "هادية" بلهفةٍ وهي تتجوّل في الطريق المدمّر، مستذكرةً عشرات التفاصيل عند كلّ ركنٍ وزاويةٍ، وتضيف: "إن كان عليّ وصفه ببضع كلماتٍ، فأقول إنه يمثّل الأصدقاء والعشّاق، والمراهقين والشباب، والمقاهي ومحال الورد والهدايا، باختصار هو شارع ذكرياتنا".
شارع سينما فؤاد كان الأهمّ على الإطلاق بالنسبة لنا، الأهمّ دون منازعٍ. ورغم أن السينما مغلقة منذ سنواتٍ طويلةٍ لكن الاسم له وقعٌ خاص للغاية في قلوبنا
تتوقّف السيّدة الخمسينيّة بين الفينةٍ والأخرى مشيرةً إلى بعض المحال: "هذا محل ثيابٍ كنت أشتري منه الملابس لأولادي. ذاك مخزنٌ كبيرٌ للهدايا، وكان على الدوام يضع أمام بابه سيارات مليئة بالألعاب ومزيّنة بالأشرطة الملوّنة. هنا في الطابق الأوّل كانت توجد كافيتريا جميلة للغاية"، تتابع سرد ذكرياتها، غير أن الذاكرة تخونها في بعض الأحيان، فتسأل نفسها بصوتٍ عالٍ: "هل هذا محل الورد أو المثلّجات؟ ماذا كان اسمه؟ ولون لافتته؟ الدمار يمحو كافة التفاصيل لتبدو كلّ الأماكن متشابهة في بؤسها".
شارع سينما فؤاد بعد الحرب
تقاطع "رؤى" الحديث وتشير إلى نافذةٍ مكسورةٍ خضراء اللون تتدلّى منها بعض القطع الخشبيّة: "هذا منزل شابٍ اسمه إياد، كان يحبّني فيما مضى، وكلّما مررت في الشارع كان يخرج من نافذته ويصرخ محذّراً إياي من الزواج بغيره"، تبتسم السيدة الأربعينيّة وتضيف بحسرةٍ: "مات إياد، ومات المنزل والشارع أيضاً".
تتابع "هادية" حديثها وهي تحاول إستعادة ذكرياتها: "انظري. في هذا المنزل كانت تعيش أوّل معلّمة في دير الزور إسمها "هدايات". الجميع يعرفها من حديثها الدائم بصوتٍ مرتفعٍ. أعتقد بأنها لا تزال على قيد الحياة لكني لا أعرف عنها شيئاً".
تختلط الذكريات والضحكات القديمة بأصوات خطواتنا الحذرة على الحجارة المحطّمة. أشعر وكأنني أسمع صوت "إيّاد" وهو ينادي حبيبته من النافذة، وصوت "هدايات" وهي تصرخ على تلاميذها، وأحاديث وضحكات العشاق وهي تملأ أرجاء شارع سينما فؤاد. أنظر للأعلى فأرى أسقفاً متهاوية وأفكّر بمن كان يعيش يوماً تحتها، وأمرّ إلى جانب منازل فارغةٍ وأتساءل عن هوية من كان يقطنها.
يقطع أبو محمد تلك الأفكار المتضاربة في رأسي، ويخرج من منزله ليرى من هم أصحاب الخطوات المتأنية، والذين اختاروا المرور بهذا الشارع المدمّر وشبه الفارغ.
من جهته قرّر أبو محمد إصلاح بيته وإعادة الحياة له والسكن فيه من جديد، بعد أن عاش سنواتٍ طويلةً في منازل أخرى بالإيجار، قائلاً: "مافي أحلى من البيت. البيت هو الكرامة".
ذكريات مختلفة من جيلٍ لآخر
تسير "جنا" وهي ابنة الخمسة وعشرين عاماً إلى جانب منزلها الواقع وسط شارع سينما فؤاد. هي المرّة الثالثة ربما التي تأتي فيها لزيارة ما تبقّى من ذكرياتها هنا، وتعجز عن العثور على أيّ رابطٍ بين ما تراه الآن، وبين ما عاشته في المدينة خلال سنوات طفولتها ومراهقتها، قبل أن تنزح مع عائلتها إلى دمشق في العام 2012.
مافي أحلى من البيت. البيت هو الكرامة
تقول الفتاة والغصّة تحبس صوتها: "ما هو هذا المكان؟ أين أنا؟ لا أعرف. لكنه بكل تأكيدٍ ليس منزلي وليس شارعي، لا أصدّق بأن هذه هي مدينتي أيضاً".
إلى جانبها تقفز "راما" التي تبلغ ستة عشر عاماً، وتستمرّ في البحث مع أخيها الأصغر عن ذكرياتٍ قد تكون حيّةً بين الحجارة والركام، فتصرخ حين تعثر على قطعةٍ قماشيةٍ أو ورقةٍ من كتابٍ ما، ثم ترميها لتبحث عن غيرها.
تقتصر ذكريات "راما" عن هذا الشارع قبل الحرب على زياراتٍ دوريةٍ بهدف التسوّق أو التنزّه مع أهلها وأقربائها، وعلى قضاء بضع سنوات في المدرسة التابعة لكنيسة السريان الواقعة في طريقٍ يتفرّع عن الشارع الرئيسي، وهي اليوم مدمّرة بدورها.
ما هو هذا المكان؟ أين أنا؟ لا أعرف. لكنه بكل تأكيدٍ ليس منزلي وليس شارعي، لا أصدّق بأن هذه هي مدينتي أيضاً
تستحضر الفتاة بضع لقطاتٍ من تلك الأيام وتستعين بوالدتها حين تعجز عن تذكّر تفصيلٍ أو اسمٍ ما، ويطغى ما تراه حولها الآن من خرابٍ على كلّ ذلك.
ما عسانا نفعل بكلّ هذه الذكريات؟
في نهاية "شارع البدوي" وهو أحد أسواق المدينة المكتظّة، والتي لم تطلها نيران الحرب، تستوقفني لافتةٌ كبيرةٌ لمحل حلويات يبدو بأنه من الأكثر شهرةً بصناعة حلويات الكليجة الديريّة، وقد كتب بخطٍ عريضٍ: "حلويات قربون. شارع سينما فؤاد سابقاً". يشعر صاحب المحل بالفخر لكونه ينتمي إلى ذلك الشارع العريق، وبدورهم يشعر السكّان أيضاً ببعض الاطمئنان لمجرّد قراءة اسم الشارع وإن كان مقروناً بكلمة "سابقاً".
يحاول الكثير من سكان دير الزور اليوم أن يستمرّوا بإحياء تواريخ وتفاصيل مدينتهم، ويتمنّون لو كانوا يمتلكون آلة زمنٍ تعود بهم بضع سنواتٍ إلى الوراء.
تعرب "رؤى" عن حلمها في امتلاك آلة الزمن تلك والتي من شأنها ترسيخ الذكريات: "لكان بإمكانك أن تعرفي كم كانت دير الزور جميلة، ولكان بإمكاننا أن نقبض على بعضٍ من تلك الذكريات لنبقيها حيّة أكثر داخلنا".
يحاول الكثير من سكان دير الزور اليوم أن يستمرّوا بإحياء تواريخ وتفاصيل مدينتهم، ويتمنّون لو كانوا يمتلكون آلة زمنٍ تعود بهم بضع سنواتٍ إلى الوراء
أما "هادية" فتقرّر المرور إلى جانب منزل أختها المدمّر وسط شارع سينما فؤاد، والذي تتناثر فيه قطع الأثاث والملابس والكتب وقد علاها الغبار. تمسك بمزهريةٍ خزفيةٍ كُسرت قطعتين، وتكشف بأنها الهدية التي أرسلتها لأختها في عيد المعلم منذ سنواتٍ طويلةٍ: "ألا يفترض بي البكاء على هذا؟ هل يفترض بي أن أدوس على ما كان يوماً جزءاً من حياتنا؟ بكل تأكيد لا. لكنني اليوم لم أعد حزينة، وحتى الموت والدمار ما عادا يعنيان لي شيئاً. كلّ ما بداخلي من مشاعر قد انتهى دون رجعة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 16 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت