شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
مجتمع يحمل 200 جنسية ويتحدث 140 لغة… دبي المدينة الأكثر عالمية في العالم

مجتمع يحمل 200 جنسية ويتحدث 140 لغة… دبي المدينة الأكثر عالمية في العالم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الثلاثاء 16 يوليو 201902:30 م

بدأ الرحالة والصحفي المصري أحمد بلال منذ منتصف شهر يونيو 2019 رحلةً حول العالم بدأتْ من دبي، ويشاركنا في سلسلة من المقالات، الآفاقَ التي يكتشفها خلال هذه الرحلة عبر قسم "رود تريب" في موقعنا.


المترو في دبي تجربة يجب ألا تفوّتها، قد تكون المسافة بين محطات الوصول والمغادرة دقائق معدودة، لكنها كفيلة بإعطائك صورة مصغرة للحياة في دبي. علاقتي بمترو دبي بدأت بعد وقت قصير من حصولي على ختم الدخول على جواز سفري، ولم تستمر أكثر من 5 محطات تقريبًا، لكنها كانت بوابتي للمدينة قبل التجول في أي من شوارعها.

يلخّص لك مترو دبي المعجزةَ، من حيث النظافة الشديدة؛ النظام المتناهي الدقة، والانضباط الذي يتحلى به الجميع، وتحكمه لائحة المخالفات الموجودة في المترو، وتوضح الغرامات التي يتمّ توقيعها على من يرتكب إحداها، لكن الأهمّ من كلِّ ذلك، هو هذه الوجوه التي تحمل في ملامحها تفاصيل انتماء لقوميات وثقافات ودول مختلفة.

عندما ركبتُ المترو في دبي، شعرتُ أنه مترو العالم؛ أشخاص من جنسيات وثقافات وأديان مختلفة مقيمون في دبي يجلسون إلى جوار بعضهم بعضًا، رأيت هنودًا وباكستانيين وبنغال وفلبينيين وصينيين ومصريين ومغاربة وغيرهم؛ الجميع يجلسون ويتحدثون سويًا بالإنكليزية، كلٌّ منهم بلكنته. هذا المشهد الذي رافقني طوال الخمس محطات في المترو، رافقني أيضًا طوال رحلتي إلى دبي بصورة أكبر.



دلهي ومانيلا والقاهرة

خرجتُ من محطة المترو في منطقة ديرة دبي، وللوهلة الأولى تصورتُ أنني انتقلتُ إلى أحد أحياءِ نيودلهي. الملامح الهندية تطغى على المكان بأكمله، تلتقط أذنُك اللغتين الإنكليزية والهندية، ويلفت نظرك الساريَ الهنديَّ بألوانه الزاهية، بينما تتسلّل إلى أنفك رائحة التوابل النفاذة المنبعثة من أحد المطاعم في المنطقة.

يمثّل الأجانب حوالي 83% من عدد سكان دبي البالغ عددهم 3.1 مليون نسمة، جاؤوا من كلِّ مكان في العالم تقريبًا، حيث يحملون جنسيات حوالي 200 دولة، ويتحدثون قرابة الـ 140 لغة، أهمّها العربية، الإنكليزية، الهندية، الأردية، الفارسية، والصينية؛ ويدينون بالعديد من ديانات على رأسها الإسلام، والهندوسية، والمسيحية، والبوذية.

الاختلاط بين الثقافات المختلفة في دبي سمح باختلاط لغوي، ينشأ عنه حاليًا لغة جديدة تسمح لقطاعٍ كبير من المقيمين في دبي بالتعامل فيما بينهم بلغة مختلطة غير مكتوبة، يمكن أن نطلق عليها مجازًا، اللغة "الأنجلوهندعربية"، لما تجمعه من مفردات اللغات الثلاث في جملها

الصورة العامة في دبي تقول إن الجميع يتشارك العيش في المناطق المختلفة، كما يتقاسم العمل، إلا أن ثمة استثناءات يمكن رصدها، فكما تأخذ ديرة طابعًا حياتيًا هنديًا بشكل كبير، يتركز الفلبينيون بشكلٍ كبير في منطقة السطوة التي تسمى بالفلبين الصغيرة، والسبب قد يعود إلى انتشار المطاعم الفلبينية، والمحلات التي تبيع المنتجات الفلبينية في هذه المنطقة.

الحياة تختلف تمامًا في منطقة أبو هيل؛ هنا تشعرون أنكم قد عدتم فجأة إلى مدينة عربية خالصة؛ حيث يتركز المصريون والعرب خاصة من المغرب وتونس، على مقهى مزة على سبيل المثال يتجمع المصريون، فتشعر وكأنك في مصر، خاصة مع هذه الأجواء التي رافقت مباراة مصر مع الكونغو في كأس الأمم الأفريقية، والتي شهدتُها أثناء وجودي عليها.



في شوارع أبو هيل المختلفة، تلاحظون حضورًا طاغيًا للملامح المصرية والعربية على حساب ملامح الجنسيات الأخرى المنتشرة في بقية المناطق بشكل أكبر، ورغم انتشار محلات تأجير السيارات في هذه المنطقة بأسمائها المصرية والعربية مثل "الفراعنة" و"الباشا الجديد" وغيرها، تنتشر أيضًا العديد من المطاعم التي يعبّر اسمُ عددٍ كبير منها عن هويات أصحابها مثل "مطعم اليمن" و"زهرة القدس" و"أم الدنيا" و"العمدة". هنا أيضًا ستجد محلًا مصريًا بامتياز، وهو الوحيد في دبي، المتخصص في تصنيع وبيع "الفسيخ". ومن شدة إقبال المصريين عليه، افتتح فروعًا في جميع الإمارات السبع.

وجهُ دبي الذي يعرفه العالم يظهر في مناطق أخرى مثل الجميرا ومارينا والنخلة، وهي جزيرة صناعية على شكل نخلة تمتدّ داخل البحر؛ هنا دبي الأورو- أمريكية؛ الثقافة مختلفة تمامًا، ففي هذه الأماكن تعيش الجنسيات الأوروبية والأمريكية وأغنى أغنياء العالم. على امتداد شارع الجميرا تصطفّ على الجانبين فلل، ثمّ قصور، والكثير من عيادات التجميل والأسنان الأجنبية، المحلات التي تتخذ الفلل مكانًا لها، تحمل أسماء ماركات عالمية، حتى يدهشك وجود مطعم "صبحي كابر" المصري الشهير وسط كلِّ هذا الكمّ من الثقافة الغربية.

التنوع الثقافيّ والدينيّ في دبي

هذا التنوع الثقافيّ والدينيّ الذي تعيشه دبي، جعل من السماح بممارسة الطقوس والشعائر الدينية المختلفة، أمرًا لا مفرّ منه، فمهما كانت ديانتكم ستجدون مكانَ عبادةٍ مخصصًا، وهو الأمر غير المسموح به في إمارات أخرى في الدولة الخليجية؛ فإلى جانب المساجد السنية والشيعية، ثمة كنائس كاثوليكية وأرثوذكسية، ومعابد مختلفة، ورغم هذا الانفتاح على الأديان، لا يُسمح بوضع رموز دينية على هذه الأماكن، سوى المساجد.

التنوع الثقافي أيضًا يظهر جليًا في كافة البازارات بدبي، حيث تباع الرموز الهندية والصينية والمصرية إلى جانب مجسمات برج خليفة، أحد أهم معالم السياحة في دبي، فإلى جانب مجسم البرج، تجدون تماثيل لبوذا، وآلهة هندية مختلفة، وإلى جانب الدشداشة تجدون الشال الكشميري الأصيل، وإلى جانب تمثال صغير لشخص بدوي خليجي، تجدون تمثالًا آخر لقناع الملك المصري توت عنخ آمون.

في الحقيقة، زرتُ أكثر من 30 دولة حول العالم، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي ألاحظ فيها بازارات سياحية تعرض رموزًا ثقافية وأثرية لدول وثقافات أخرى.

يلعب العمل في دبي فرصةً رائعة للاختلاط والتقارب بين الثقافات المختلفة. في الفندق الذي أقمتُ فيه في ديرة، كان معظم العمال من الهنود والموظفون صينيين وفلبينيين، إلى جانب موظفٍ مصري. وحتى قائمة الطعام التي يقدّمها مطعم الفندق كانت مقسمة بحسب مطابخ دول مختلفة، عربية وهندية وصينية وأفغانية وغيرها.



اختلاط الثقافات لا يقتصر فقط على مكان العمل، وإنما أيضًا على السكن، فمستوى المعيشة المرتفع، والذي ينعكس على أسعار السكن في إمارة الأرقام القياسية، أدى إلى انتشار ثقافة المشاركة أو "الشيرينج" في السكن. صديقة مصرية مقيمة في دبي، أخبرتني أنها يشاركها السكن جنسيات هندية ومغربية وباكستانية، وديانات مسلمة ومسيحية وبوذية وهندوسية.

هذا الاختلاط يبدو أنه ينعكس على ثقافة أفراد المقيمين في دبي. يحكي لي صديق آخر هنا، أنه دخل على صديق هندوسي الغرفة، وعندما وجده يؤدي صلواته باكيًا، احترمه واحترمها، وعندما سأله عن سبب بكائه، وعلم أن ابنه مريض ويدعو الله لشفائه، ردّ عليه قائلًا: "إن شاء الله ربنا هيشفيهولك". كلّ واحد منهم دعا ربه بطريقته ومعتقده لهدف واحد هو شفاء إنسان ما.

مجتمع دبي

الاختلاط بين الثقافات المختلفة في دبي سمح باختلاط لغوي، ينشأ عنه حاليًا لغة جديدة تسمح لقطاعٍ كبير من المقيمين في دبي بالتعامل فيما بينهم بلغة مختلطة غير مكتوبة، يمكن أن نطلق عليها مجازًا، اللغة "الأنجلوهندعربية"، لما تجمعه من مفردات اللغات الثلاث في جملها، وهي مستخدمة بشكل كبير بين المقيمين في دبي، في الطرق والأسواق والمطاعم وغيرهم.

كنتٍ في طريقي إلى الجميرا عندما سأل سائق بملامح هنديةٍ صديقيَ الذي يقود سيارته بينما كنت جالسًا بجواره ملتزمًا بحزام الأمان، عن طريق ما، ففوجئت بصديقي يتحدّث بكلمات بالكادّ أفهم بعضها، قال: "انت تسير سيدا آند جو استريت بعدين يساوي يوتيرن يسار". الغريب أن الرجل الهنديَّ فهم الجملة، وهزّ رأسه يمينًا ويسارًا إلى الأسفل، وهي حركة هندية شهيرة تعني الموافقة، ثم انطلق بحسب الوصف الذي أخبره به صديقي، الذي أخبرني بمعنى الجملة المكونة من مفردات ثلاث لغات، وهو: "تحرك إلى الأمام، وواصل طريقك، ثمّ خذ المنحنى، واتّجه يسارًا".

طالما نظرتُ إلى منصب وزير التسامح في الإمارات على أنه من قبيل الرفاهية، وسعيٌ من الإمارة للاستحواذ على وصف "أول" و"أفضل" في كلِّ شيء، إلا أن زيارة دبي غيرت هذا المفهوم، فالتسامحُ قضيةُ أمنٍ قوميّ هنا، وليس قضيةً رفاهية

شكّلتْ دبي مجتمعها الخاصّ، ومنحتْه خصوصية ثقافية قد تكون مختلفة من ثقافة كثير من أفراده قبل أن يأتوا إلى الإمارة المعجزة من 200 دولة في العالم. قد لا يحترم كثيرون منهم إشارات المرور في بلدانهم لكنهم يحترمونها في دبي؛ قد لا يحافظون على نظافة الشوارع والمرافق العامة في بلدانهم، لكنهم يحافظون عليها في دبي، وإنهم قادرون الآن على الحديث فيما بينهم بلغةٍ يشكّلونها سويًا، وفي تقديري أن الكثير من أفراد مجتمع دبي، هم الآن أكثر تسامحًا مما كانوا عليه في مجتمعاتهم؛ فهم يدركون الآن، أن كلَّ واحدٍ منهم مكوّن صغير جدًا من فسيسفساء دبي الثقافية.

وكما شكّلت دبي مجتمعها، فرض مجتمع دبي نفسه على قرارات وقوانين حكومة الإمارة؛ في 2015، أصدرت الإمارات العربية المتحدة قانونًا يجرم كافة أشكال التمييز، وأيّ فعل من شأنه الإساءة للأديان والمقدسات، ويعاقب كلّّ من يرمي جماعة دينية أخرى بالكُفر، ويحظر التمييز بين الناس على أساس الديانة أو الطائفة أو العقيدة أو الجنس أو اللون أو العرق، ويعاقب القانون من يرتكب أيًّا من هذه الجرائم بالسجنِ مدةً لا تتجاوز 10 سنوات، وغرامة لا تتعدى مليوني درهم إماراتي (544 ألف دولار أمريكي).

قبل رحلتي إلى دبي، طالما نظرت إلى منصب وزير التسامح الذي استحدثتْه الإمارات عام 2016 على أنه من قبيل الرفاهية، وسعيٌ من الإمارة للاستحواذ على وصف "أول" و"أفضل" في كلِّ شيء، إلا أن زيارة دبي نجحت بشكل كبير في تغيير هذا المفهوم، ففي مدينة يعيش بها مجتمع يتشكل من 200 جنسية وأكثر من 150 ثقافة و140 لغة، يصبح التسامح قضية أمن قومي لا قضية رفاهية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image