شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أجهزة الأمن التونسية تستفيد من مناخ الحريات للاستمرار في ممارسة القمع

أجهزة الأمن التونسية تستفيد من مناخ الحريات للاستمرار في ممارسة القمع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 19 يوليو 201905:30 م

لم يكن الشاب عمر العبيدي يعلم أنها ستكون آخر مباراة كرة قدم يشاهدها لفريقه التونسي المفضل "النادي الإفريقي"، كما لم يكن يعلم أن طريقة وفاته المؤلمة ستترك أثراً عميقاً ليس في صفوف مشجعي فريقه وحسب وإنما في عموم التونسيين.

على غير عادته، استفاق عمر (18 عاماً) صبيحة يوم 31 آذار 2018 باكراً، استعداداً لحضور مباراة فريقه ضد "أولمبيك مدنين" في الملعب الأولمبي في رادس. صودف أن والده نور الدين لم يكن يعمل يومذاك فطلب منه عدم المغادرة، معلقاً بأن المباراة ليست ذات أهمية بالغة، غير أن الشاب أصر على الذهاب مودعاً والده الذي أوصاه بالاهتمام بنفسه.

كان نور الدين جالساً في المقهى عندما انتشر خبر غرق أحد الشباب في "وادي مليان" المحاذي للملعب، لكنه لم يُلق للخبر بالاً إلا عندما أقبلت زوجته بعد دقائق لتشكو فقدان الاتصال بابنه، حينها استشعر الخطر وقال: "إنه عمر، لقد غرق".

يروي نور الدين بتأثر وصعوبة بالغين لرصيف22 صدمة تلقيه خبر وفاة ابنه المدلل غرقاً، ويقول: "توجهت برفقة ابني الآخر إلى مكان الحادثة حيث كان عناصر الحماية المدنية ينتشلون جثة عمر ولم تكن هنالك سوى سيارة أمن واحدة غادرت لدى وصولنا".

"تعلّم عوم"

يستند نور الدين في قصته إلى كلام شهود عيان من أصدقاء لعمر حضروا المباراة. هؤلاء أكدوا له مقتل ابنه على يد قوات الأمن التي لاحقت مشجعي الفريقين من الملعب إلى الوادي بعد نهاية المباراة التي شهدت مناوشات، مستخدمةً الغاز والعصي الكهربائية. وبينما كان عناصر الأمن يحاصرون عمر على حافة الوادي أخبرهم أنه لا يعرف السباحة لكن جوابهم كان "تعلّم عوم".

"بعد مرور عام على رحيل ابني لم تنصفنا العدالة رغم وجود مقاطع مصوّرة للحادثة وتعرُّف شهود عيان على الأمنيين المتهمين، حتى أن التقرير الطبي أثبت تعرض عمر للضرب والاعتداء قبل سقوطه في الوادي، لكن قاضي التحقيق خائف من إصدار الحكم ولا أعلم لماذا"، يؤكد والد عمر.

وبينما يُحاكَم في القضية 17 أمنياً، مُفرج عنهم، بتهمتي القتل غير العمد وعدم إسعاف شخص في حالة خطر وفق ما تقتضي مهنتهم، يؤكد محامي عائلة الشاب تومي بن فرحات أن "التهمة المستوجبة لبعض المتهمين هي القتل العمد، وهذا ما أدى إلى استئناف قرار ختم التحقيقات".

دور النقابات الأمنية

يشير والد عمر إلى أن هناك أطرافاً تسعى إلى طمس الحقيقة لأن المتهمين أمنيون، ومن هذه الأطراف بعض النقابات الأمنية.

تدخّل النقابات الأمنية في مسار القضية يؤكده بن فرحات في حديثه لرصيف22، ويقول: "خلافاً لما روجت له النقابات، فقد أكد البحث أن كاميرات المراقبة يوم الحادث كانت تعمل، كما تم تقديم ثماني شهادات كاملة تُبيّن بوضوح ثبوت عملية المطاردة وما حصل في اللحظات الأخيرة".

ويضيف المحامي: "بُعيد وفاة عمر أصدرت النقابات الأمنية بيانات كذّبت فيها عملية المطاردة واعتداء أي أمني على الفقيد ولم تتراجع عن إنكارها هذا إلا بعدما أثبتت كاميرات المراقبة العكس".

يفضل بن فرحات عدم ذكر الجهاز الأمني الذي ينتمي إليه العناصر المتهمون تفادياً لأي ضرر قد يمس سلامة المعنيين بالقضية.

وفي سياق متصل، يستعيد بن فرحات ما جرى خلال جلستي المكافحة يومي 7 و31 يناير 2019. "في الجلسة الأولى لم يحضر إلا 2 من 17 أمنياً متهماً، وسط حضور حوالي ست نقابات أمنية أحاطت بمقر المحكمة، وتحديداً بمكتب التحقيق في محاولة للضغط"، يقول ويؤكد أنه رفض استكمال الجلسة قبل مغادرة النقابات. لكن برغم الاستجابة لمطلبه في الجلسة الأولى، عاد المشهد ليتكرر في الجلسة الثانية.

والمقصود بجلسة المكافحة هو المواجهة التي تحصل بين المتهمين والشهود العيان عند وجود اختلاف في روايات الطرفين، وهو ما حدث في هذه القضية وفق بن فرحات الذي أشار كذلك إلى حصول تجاوزات في جلستي المكافحة تمثلت في إحضار المتهمين ضمن مجموعة كاملة في حين يُفترض أن تتم المواجهة مع كل شخص على حدة.

"غزوة بن عروس"... الإفلات من العقاب

يرى بن فرحات أن ضغط النقابات خلال التحقيقات دفع باتجاه تخلية سبيل المتهمين بدل احتجازهم رهن التحقيق، مشدداً على "ضرورة ألا يتجاوز العمل النقابي الأمني حدود المسائل الاجتماعية. أما عكس ذلك فسيؤثر سلباً في مسار العدالة ويكرس مبدأ الإفلات من العقاب".

"كان عناصر الأمن يحاصرون عمر حين أخبرهم أنه لا يعرف السباحة ومع ذلك تركوه يغرق"... 17 متهماً ووثائق تدينهم ولا تزال القضية عالقة منذ أكثر من عام. والد عمر ومحاميه يرويان لرصيف22 كيف تعرقل "النقابات الأمنية" التونسية مسار التحقيق 

تُلاحقها الاتهامات بالتستر على انتهاكات عناصر الأمن وتعزيز الإفلات من العقاب بينما يؤكد مسؤولوها وأعضاؤها على دورها الإيجابي... عن "النقابات الأمنيّة" في تونس وكيف تأسست وما الدور الذي تلعبه أمنياً وقضائياً؟  

وفي إطار الحديث عن ضغط النقابات للإفلات من العقاب، ذكّر الكاتب العام لـ"المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب" منذر الشارني في حديثه لرصيف22 بحادثة اقتحام بعض النقابات الأمنية للمحكمة الابتدائية في بن عروس في تونس العاصمة، في 26 شباط 2018، وقد سُميت بـ"غزوة بن عروس" بعدما استخدمت النقابات المشارِكة قوة السلاح لتحرير زملاء يُحاكَمون بتهمة تعذيب مواطن في قضية حق عام.

وكان القضاء التونسي قد فتح تحقيقاً ضد خمسة عناصر من الشرطة إثر شكوى تقدم بها مواطن موقوف تفيد بتعرضه لاعتداءات جسدية أثبتها تقرير الطب الشرعي، وهو ما أكده محامي الموقوف مهدي زقروبة في تدوينة له، نافياً رواية النقابات عن ضلوع موكله بقضايا إرهابية، منها اغتيال السياسيّيْن شكري بلعيد ومحمد البراهمي.

تاريخ عمل الأمنيين النقابي

انطلق العمل النقابي الأمني مباشرة إثر الثورة التونسية، حين خرج في 2011 عدد من كوادر وعناصر الأمن في تظاهرة في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة "للدفاع عن وجودهم بعدما تم تحميل وزارة الداخلية في تلك الفترة كل جرائم النظام السابق وأخطائه"، حسبما يوضح عضو المكتب التنفيذي في "النقابة العامة للحرس الوطني" أنيس السعدي لرصيف22.

"طالبنا بإنشاء نقابة أمنية تحمينا وتحمي مؤسستنا من كل محاولات تطويعها وتوظيفها لفائدة أطراف معينة، واستجابت السلطات لمطلبنا فتم تأسيس هيكل نقابي واحد في البداية ليتفرّع في ما بعد إلى عدد من النقابات الأخرى في كافة جهات البلاد".

وبحسب السعدي، هنالك أكثر من ست نقابات أمنية، وهو ما يُرجعه إلى "نقص تجربة وخبرة النقابيين الأمنيين ومحاولات التطويع التي تتعرض لها الهياكل النقابية من قبل أطراف إدارية وسياسية مما ساهم في إضعافها".

في المقابل، يُعلق الناشط الحقوقي لسعد البوعزيزي لرصيف22 قائلاً إن "الممارسات والعقلية الأمنية لم تتغير وبقيت على حالها كما كانت أيام بن علي، عندما كان الأمنيون قبل الثورة يحتمون بالنظام الديكتاتوري ويستمدون منه قوتهم، أما بعد الثورة فأصبحوا يحتمون بالنقابات التي تمنحهم القوة في ممارسة السلطة كما يشاؤون".

ويضيف: "الممارسات الأمنية القمعية الموروثة من نظامي بن علي وبورقيبة لا تزال مستمرة من خلال عدد من قضايا التعذيب والاعتداءات على المواطنين"، مشيراً إلى وجود أطراف تستغل النقابات الأمنية في إطار الانقلاب على الحكومة والشرعية في تونس.

مع ذلك، يستدرك البوعزيزي ليوضح أن هناك عناصر أمنية تحررت من تلك العقلية واعتذرت من الشعب عن الانتهاكات التي ارتكبت قبل الثورة.

مسؤولية وزارة الداخلية

بالنسبة إلى رئيس "جمعية العدالة ورد الاعتبار" كريم عبد السلام فإن الإشكالية معقدة ومسؤوليتها لا تقع على عاتق النقابات الأمنية وحسب.

يعزو عبد السلام في حديثه لرصيف22 زعمه هذا إلى واقع أن النقابات الأمنية لا تتمتع بصفة رسمية وأي رأي تعبر عنه في بياناتها التي تصدرها، ومنها مثلاً دعوة أعضائها إلى عدم حضور جلسات المحاكمة في مجال العدالة الانتقالية، يمكن اعتباره كرأي أي فاعل في هذا المجال.

ووفقاً لرئيس الجمعية التي تأسست عام 2011 لـ"رد الاعتبار لضحايا الاستبداد وتنقية الذاكرة الوطنية من أجل مصالحة وطنية حقيقية"، فإن الجهة الرسمية الوحيدة المسؤولة أمام الدولة والقانون هي وزارة الداخلية، القوة النافذة لاستعمال آليات الدولة لاستدعاء المتهمين من الأمنيين من عدمه للمحاكمة.

ويُبيّن عبد السلام في هذا الصدد أن الخطر الحقيقي يكمن في غض السياسيين الطرف عن مسألة تداخل مهام القوات الحاملة للسلاح بين العمل السياسي والنقابي، مرجعاً ذلك إلى تورطهم في صناعة بعض النقابات لمآرب شخصية.

تجربة فاشلة

من جانبه، قال محافظ الشرطة المتقاعد عبد المجيد البلومي إن النقابات الأمنية أخطأت من خلال انخراطها في الحضور الإعلامي والتحليل والخوض في الأوضاع السياسية والأمنية في تونس وهو ليس من صلاحياتها وشأنها.


"النقابات الأمنية في تونس وبتدخلها في الشأن السياسي انحرفت عن أهدافها الأصلية ويمكن وصف تجربتها بعد ثماني سنوات على تأسيسها بالفاشلة".

البلومي، الذي يرأس "جمعية أمل واستشراف" لمتقاعدي الأمن التونسي التي تأسست عام 2015 بهدف "لم شمل الأمنيين المتقاعدين لتكوين جبهة فاعلة في المجتمع المدني"، أضاف لرصيف22 أن النقابات الأمنية في تونس وبتدخلها في الشأن السياسي انحرفت عن أهدافها الأصلية ويمكن وصف تجربتها بعد ثماني سنوات على تأسيسها بالفاشلة".

النقابات الأمنية وحقوق الإنسان

بالعودة إلى حديث السعدي كنقابي أمني، فهو يقر بإمكانية حدوث بعض الأخطاء لكنه يبرّر بأن النقابات الأمنية هي أكثر جهة قدمت خدمات في مجال الحريات وحقوق الإنسان في تونس، وذلك من خلال رفضها "قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين" (يهدف إلى حماية القوى الأمنية ويجيز بحسبها استخدام الأمن "غير المبرر للقوة القاتلة") بصيغته الأولى التي اقترحتها الحكومة لتضمنه عدة تجاوزات وتضييقات على كل الأطراف.

وأضاف أن النقابات طالبت كذلك بتنقيح قانون عدد 4 لسنة 1969 المنظم لعملية تدخل الوحدات الأمنية أثناء التجمهر أو التظاهر لأنه يتضمن مساً بحق التظاهر والاحتجاج وفيه تعسف في استعمال القوة.

ومن جهة أخرى، يعتبر النقابي الأمني بعض الاعتداءات التي يرتكبها أمنيون بحق مواطنين مجرد "ممارسات فردية" وأنها "تحدث في كل الديمقراطيات"، ملاحظاً "تراجعاً كبيراً جداً في هذه الانتهاكات".

دفاع السعدي عن النقابات يدعمه كذلك البلومي الذي يرى أنه ينبغي إلقاء اللوم على جميع الأطراف وليس على النقابات الأمنية فحسب، موضحاً أن "احتجاز الأمنيين له قواعد ويعتبر بالنسبة إلى عنصر الأمن إدانة مسبقة. وعليه، لا بد من التحقيق مع الأمني وهو في حالة إخلاء سبيل لأنه ليس كالمواطن العادي".

يُشار إلى أن "المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب" أكدت خلال ندوة صحافية يوم 25 يونيو الماضي على استمرار حدوث اعتداءات من عناصر أمنية على مواطنين في مراكز احتجاز، مشددة على أن أحد الأسباب الكامنة وراء تواصل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وغياب تطبيق العدالة على الجناة هو التشجيع على الإفلات من العقاب.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image