شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
في ذكرى رحيل الموسيقار محمد الموجي... الصعلوك الذي لم يرغب الالتزام بشيء

في ذكرى رحيل الموسيقار محمد الموجي... الصعلوك الذي لم يرغب الالتزام بشيء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 1 يوليو 201901:40 م

خدع الموجي الحداثيّين

ربما يردُّه الأكاديميّون إلى حداثة محمد القصبجي، مجدّد الموسيقى المصريّة.. لكنه رفض أن تكون نهايته "عوّاداً" وراء عبد الحليم حافظ، مثلما انتهى القصبجي عازفاً خلف أم كلثوم.. صنّفه الميّالون إلى الحداثة والتجديد، هو وبقيّة رفاقه، زملاء خمسينيات القرن العشرين، باعتبارهم الجيل الذي تسلّم الراية من محمد عبد الوهاب، ليقولوا له "شكراً.. سنكمل مهمّتنا مع طريق الأغاني".. فاعتمدوا بساطة الألحان والجمل القصيرة وإبهار التوزيع، بعيداً عن التخت التقليدي وسلطنة المطرب ذي الصوت العريض والإمكانيّات الفائقة..

خدع الموجي الحداثيّين.. ارتدى لهم بدلة وكان يخبّئ بداخل جلبابه عِمّته البلديّة.. كان ملحناً رومانتيكيّاً لكن بطعم شعبي أو قلْ شرقي، أما هو فعاش تائهاً بين ريف وُلد فيه عام 1923، وبين مدينةٍ واسعةٍ مهّدت له مزيداً من الطيش.

عاش درويشاً

شرب الموجي التراث الموسيقي الشرقي شُرْباً... حفظ الأدوار القديمة... تشبّع بماء الأحلام وما تلبَّسها من ضلال، عاش درويشًاً لا يميل إلّا في اتجاه نفسه، نفسه التي حلّت فيه ويريد لها انطلاقاً أبدياً، لذا كان كلّما سنحت له فرصة للشطح شطح كحشّاش لا يكترث بما يفعل من كوارث أو ما يقول من ألغاز.

عصر بلا عمالقة

عرف أدوات الغناء في عصره، بعد أن بدت رياح التغيير تهبُّ على تركيبة المصريّين... لم يعد الجيل الجديد يرغب بالسلطنة بمدِّ النَّفَس، زاد الإيقاع من سرعته، وبدأت صحّة المصريين في النازل، وبالتالي، خفّت ضوء الأصوات العملاقة، لم يعد في العصر أصلاً عمالقة، حتى أم كلثوم، فاتنة المساحات الواسعة سماوية التكوين، كانت قد وصلت إلى نضجها الغنائي، وبعد سنواتٍ قليلة جداً، ستقترب من عتبة اليأس الغنائي.. فقط ستغنّي حينئذ بالخبرة وحدها.

عبد الحليم

نحن الآن قرب عام 1950، قبل عامين من ثورة يوليو في مصر... وهناك شاب نحيل الصوت والجسد اسمه عبد الحليم شبانة، يبحث عن جسورٍ تعبر به فوق الطوفان، المتمثّل في عبد الوهاب وأم كلثوم، الموجودَيْن والمسيطرَيْن غنائيّاً وسياسيّاً، كان يريد بإمكانياته الضئيلة أن يُوجد، ولكي يوجد كان لابدّ له أن يتحرّك جماعياً ويبحث عن تكتّلٍ ما يحميه من فردانيّة موسيقار الأجيال وكوكب الشرق.

هناك من يولدون ليمتّعونا فقط ولا ينالون منا التقدير الذي يستحقّونه، لكن هناك من ننبهر بهم زيادة عن اللزوم، مع أنهم أخذوا حقّهم من الوجود والتقدير بما يزيد على مواهبهم.

أحد أبناء الفقراء

قبل ذلك بعشر سنوات كان "تكتّل حليم" يتشكّل على مهل، تكوّن دون اتفاق من محمد الموجي وبليغ حمدي وكمال الطويل... كان كلٌّ في مساره، خرج "الطويل" من عباءة موسيقى الإيطاليين، باعتباره ابن طبقة راقية يمتهن الموسيقى كهواية لا من أجل لقمة العيش، و"بليغ"، ابن الطبقة فوق المتوسّطة، وابن واحدٍ من أشهر وأخصب أحياء مصر، حي شبرا، انفرط من عقد الموهوبين الفوضويين... تساقط من عباءة محمد فوزي، الموسيقي الذي كان يجري في مضمار وحده بعيداً عن الأنظار، وحين تمَّ الالتفات إليه احترق كالنجم إذا هوى... أما محمد أمين محمد الموجي فهو واحد من أبناء الفقراء.. أتى من إحدى أعمق القرى في دلتا النيل، جاء من الكتاتيب والفجر الريفي النقي.. درس الزراعة وحصل على شهادة الدبلوم فيها عام 1940، كامتدادٍ طبيعي لبيئته.. حاول أن يُكمل طريقه ليكون مهندساً زراعيّاً إلا أنه رفض إكمال حياته الأكاديميّة... حلم أبوه أن يُدخله كلية البوليس، لكن ابنه فشل في اختبار الهيئة فراح يعمل في الصالات الليليّة شديدة المحليّة والضآلة كمطرب، وربما هناك تعلّم ما يمكن تسميته بحياة اللهو بغير حساب، لكنه في أواخر الأربعينيات استقرّ على أن يكون موسيقيّاً ولا شيء آخر.

عاش الموجي درويشًاً لا يميل إلّا في اتجاه نفسه، نفسه التي حلّت فيه ويريد لها انطلاقاً أبدياً، لذا كان كلّما سنحت له فرصة للشطح، شطح كحشّاش لا يكترث بما يفعل من كوارث أو ما يقول من ألغاز.

انطلق الموجي صعلوكاً لا رغبة لديه في أن يكون ملتزماً بشيء.. ابن ريف يثق في عطاء ربّه، يتردّد صدى النصّ المقدّس في ألحانه وغنائه، اكتسب قدرةً تعبيريّةً فطريةً وغنىً لحنياً جعل لجملته الموسيقيّة بصمة.

فض عرضاً مُغرياً قدّمته له إحدى شركات الغناء الإسرائيليّة، طلبت أن يلحّن لها أغنيات مطربيها مقابل 3 ملايين دولار.. موقف عروبي وقومي يناقض الرجل الذي عُرف عنه حبّه للمال.

الالتحاق بمعهد الموسيقى

تعرف إلى فرنسيس سليم، عازف البيانو وابن مدينة الإسكندرية، فكان "الموجي" حينها يردّد أمام الجمهور روائع "عبد الوهاب"، الذي اعتبره "أبو الموسيقى والغناء"، والتحق بمعهد الموسيقى ليكون دارساً لا هاوياً، لكن كسله دفعه ثانية لئلّا يكمل دراسته فيه، لذا عاش ملحّناً لا يمكنه قراءة النوتة الموسيقيّة، فصار يسلّم لحنه لمتخصّص يكتبه على نوتة، فقد استكثر واستثقل مواد التدريس، فاكتفى بفطرته، بعكس عبد الحليم حافظ وكمال الطويل، ابنيّ دفعته في المعهد.. اتجه للإذاعة ليعتمدوه مطرباً لكنهم اختاروا له أن يكون ملحّناً.

سرقة بعض جمله اللحنيّة

إيحاء البدايات يقول أن الموجي انطلق صعلوكاً لا رغبة لديه في أن يكون ملتزماً بشيء.. ابن ريف يثق في عطاء ربّه، يتردّد صدى النصّ المقدّس في ألحانه وغنائه، اكتسب قدرةً تعبيريّةً فطريةً وغنىً لحنياً جعل لجملته الموسيقيّة بصمة، حتى أن أستاذه ونموذجه، عبد الوهاب، كان يسرق منه بعض الجمل "عيني عينك" ولا يعترض التلميذ، وذلك كله كان من باب المحبة والخجل القروي.

الخوف من تزوّج راقصة

بـ"ثماني زيجات ومئات الألحان الناجحة وبعفوية" عاش الموجي كواحدٍ من أهل المدينة وهو غير مستعدٍّ لإيقاعها.. تزوّج من راقصة وبكى أمامه "عبد الحليم" موبّخاً ومحذّراً من أنه لا يريد أن يقول عليه الموسيقيّون إنه "تزوّج رقاصة"، فخضع "الموجي" وأحسّ أنه أمام "حليم" طفل يتعلّم.. دائماً ما بدا طفلاً يلعب بالكبريت.. لكنه فجأة يدخل غرفته المغلقة ليلحّن كالكبار جدّاً..

رفض عرض إسرائيلي

رفض عرضاً مُغرياً قدّمته له إحدى شركات الغناء الإسرائيليّة، طلبت أن يلحّن لها أغنيات مطربيها مقابل 3 ملايين دولار.. موقف عروبي وقومي يناقض الرجل الذي عُرف عنه حبّه للمال، أو بالأحرى احتياجه الشديد له لسدِّ احتياجات مغامراته وأبنائه الستة، كما عُرف بأنه مزواج ولا يحسب لخطواته الفنيّة أيّ حساب، لكنه في سوق الملحّنين مطلوب ورائج وعلامة تجاريّة لا تخيب بضاعتها.

التسوّل من عبد الحليم

كان يتسوّل من عبد الحليم مائة جنيه زيادة فقط على أجرته في اللحن، ويرفض عبد الحليم، الذي كان يتقاضى في الفيلم 14 ألف جنيه حينها، بحجّة أن المنتج ربما يحسبها على "حليم" وأصدقائه بأنهم "جشعون ومستغلّون"... لا بأس.. سيموت "حليم" يوماً ما ويصعد أجر واحد من أعمدة نجاحه الرئيسيّة، لكنه حين يموت، سيشعر الموجي بما شعر به رياض السنباطي وقت ماتت أم كلثوم، لقد سرق كنزه وقيثارته.

قصّة شخصيّة

ما من أغنية نسمعها، أنا وزوجتي، لعبد الحليم أو فايزة أحمد إلا وأرى في عيني شريكتي في الأغنية انبهاراً باللحن وصانعه، وحين أخبرها أنه من صنع "الموجي" الذي لا تحبينه، تقول لي إنها تحترمه لكنها ليست مغرمة به كبليغ حمدي..

هناك من يولدون ليمتّعونا فقط ولا ينالون منا التقدير الذي يستحقّونه، لكن هناك من ننبهر بهم زيادة عن اللزوم، مع أنهم أخذوا حقّهم من الوجود والتقدير بما يزيد على مواهبهم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image