حاولت المصوّرة اليمنيّة بشرى المتوكل أن تبحث عن امرأةٍ تقبل أن تلتقط لها صورٍ مع ابنتها، لإبراز فكرة الحجاب اليمني، كيف كان مزدهراً بالألوان، وتحوّل مع الوقت إلى اللون الأسود، ثمّ إلى نقاب، ولكن كلّهن رفضن.
قرّرت أن تصوّر نفسها مع ابنتها، وذات ليلةٍ استيقظت من النوم فَزِعَةً، وسألت نفسها: ماذا إذا رأى اليمنيّون ذلك؟ هل سيقولون عنّي فتاةً سيّئة، كافرة؟!
"قرّرنا قهر مخاوفنا.. وليحدث ما يحدث". هكذا شاركت المتوكل في ورشة عملٍ يترأسّها نبيل بطرس، نظّمها المركز الثقافي الفرنسي، 2010، بعنوان "كلمات العيون"، كما روت لمنصّة "تيد".
لم يكن ذلك قرار المتوكل وحدها، قرّر العديد من الفتيات في اليمن، ممن يوصفن بـ"المنفتحات" و "الجريئات"، كشف وجوههن، علامة وجودهن وهويتهن، رغم رفض العائلة والجيران، ووصول الأمر أحياناً إلى المقاطعة الاجتماعيّة، مثل أسرة لبنى الهتار، التي تنتمي لعائلةٍ دينيّةٍ متشدّدة، ينتمي معظم رجالها إلى السلك القضائي، حيث قرّرت أسرتها مقاطعتها حتى الآن بسبب رفضها ارتداء النقاب.
لم يتمكّن العثمانيّون من البقاء في اليمن لفترةٍ طويلةٍ، ولكنهم نقلوا بعض العادات والمظاهر الثقافيّة لهذه البلاد، ومنها ظاهرة النقاب.
تقول لبنى: "البعض من أسرتي للآن مقاطعين لي، بسبب خلع النقاب، ويعتبرونه جرماً عظيماً وخارجاً عن الدين".
ولا ترى لبنى فيما تفعله مخالفةً دينيّة، بل تعتبر النقاب ينبع من الأعراف والتقاليد، تقول: "لا توجد آيةٌ قرآنيّةٌ واحدة أو حديثٌ نبوي، ينصُّ على وجوب ارتداء النقاب، فأنا مقتنعة أن الحجاب ليس فريضةً، وأن كشف الوجه والكفّين ليس حراماً. إجبار الفتيات على ارتدائه ليس لسببٍ ديني، فنحن في مجتمعٍ يقدّس العيب والعرف ويبتعد عن الدين".
ولا تزال المرأة اليمنيّة حبيسة المنزل، ليس لها حريّة فرديّة، يقرّر الرجل أشياء كثيرة في حياتها، متى تخرج، وماذا ترتدي، وكيف توزّع وقتها الذي تمضيه في خدمة زوجها وأسرتها، وتتعرّض كاشفات الوجه "الجريئات" إلى التصوير من بعض الشباب، ونشر صورهن على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يدفع فتياتٍ كثيرات للتراجع، وارتداء النقاب.
حتى وإن تعرّضن للتحرّش، أو المضايقات، فيقع اللوم عليهن، إلى درجة أن بعض الفتيات اللاتي تعرّضن للتحرّش يلقين باللوم على طريقة لبس المرأة، في حالة تماهٍ كاملة مع النظرة الذكوريّة.
المتحرّشون يخافون من "المنفتحات"
لفتت الفنّانة التشكيليّة اليمنيّة رقية الواسعي، 29عاماً، إلى تغيّر نظرة الناس إلى النقاب والحجاب، حيث بات المجتمع يخشى من كاشفات الوجه، باعتبارهن مستقلّات وجريئات، ما دفعها في النهاية إلى عدم ارتدائه.
تقول الواسعي: " كنت أحسُّ أن النقاب ملفتٌ للنظر، بالذات حين أمشي في منطقة الحصبة بالعاصمة صنعاء، يا الله على معاكسات". تقول الواسعي.
وتضيف في حديثها لـ"رصيف22": "فقط حين أكون فاتشه، (بدون نقاب)، في بالهم يمكن أنه ممكن أكون جريئة وأبهذل بهم، (في إشارة للشباب الذين كانوا يضايقونها)، فمافيش مضايقات الحمد لله لي الآن ثلاث سنوات مرّتين وقعت لي معاكسات فقط".
"أنا أعبد الله وحده، وأريد أن أعبد الله بطريقتي، فأنا لا أعبد المجتمع، ولا العادات والتقاليد، ولا قطع القماش (النقاب)" الفنانة التشكيلية اليمنية رقية الواسعي.
تؤكّد رقية أن أسرتها "مع لبس النقاب وبقوّة، ويحبّون النقاب، ويظنّون أنه شرف وعفّة وجمال للمرأة، لكن الآن بدأوا أخواني يحترموا قراري، ويشوفوا راحتي، وأيضاً أبي كبير في السنّ كان رافضاً تماماً والآن أشوفهم مرتاحين".
"أنا أعبد الله وحده، وأريد أن أعبد الله بطريقتي، فأنا لا أعبد المجتمع، ولا العادات والتقاليد، ولا قطع القماش (النقاب)" تشدّد الواسعي.
كانت رقية تكشف عن وجهها في الأماكن العامة، وعندما تقترب من الحي الذي تسكن فيه ترتديه، خوفاً من ردود فعل جيرانها، والأسئلة التي ستواجهها هي وأفراد أسرتها، لكنها قبل عام تحرّرت من ذلك.
أما عبير العامري 27عاماً، فترى أن الفتيات المنقّبات يتعرّضن للمضايقات والتحرّش أكثر من غيرهن، فالفضول يدفع الشباب إلى معرفة ما يخفيه من وجه المرأة.
رويداً رويداً أقنعت عبير أسرتها بعدم رغبتها بارتداء النقاب (الغماق)، فبعد أن أقنعتهم بأن العمل التلفزيوني يتطلّب نزع النقاب، فلا يسمح لمذيعةٍ أن تظهر وهي منتقبة، ثم أكّدت لهم أنها ستلتزم به أثناء الدخول إلى الحي، ولن تنزعه عن وجهها إلا في مقرِّ عملها أو في الأماكن العامة.
من الخلافة العثمانيّة حتى الاختلاط بـ"الخليج"
وصفت أستاذة اللغة العربيّة بجامعة صنعاء، الدكتورة هدى الصيادي، النقاب بأنه "عادة" للقبيلة اليمنيّة، وليس "عبادة"، وجزء من التفكير الجمعي.
وأشارت إلى أن الأشكال الحديثة للنقاب، وهو حتى بلغة المتديّنين يلفت النظر أكثر من غيره، ظهر بعد "التمازج الحضاري" بين اليمن ودول الخليج.
أما فاطمة مشهور، مديرة المركز اليمني للدراسات الاجتماعيّة وبحوث العمل، ورئيسة شبكة النساء المستقلّات، فتُرجع ظهور النقاب إلى الخلافة العثمانيّة، التي حكمت بعض البلدان العربيّة ودخلت اليمن.
توضح: "لم يتمكّن العثمانيّون من البقاء فيها لفترةٍ طويلةٍ، ولكنهم نقلوا بعض العادات والمظاهر الثقافيّة لهذه البلاد، ومنها النقاب".
وشدّدت فاطمة على أن "النقاب يحتاج لدراسةٍ تحليليّةٍ لبداية ظهوره في البلدان العربيّة والإسلاميّة ومنها اليمن، التي كانت متأثّرة إلى حدٍّ كبير ببعض هذه المظاهر، باعتبار أن النقاب يرمز إلى حشمة المرأة".
وتؤكّد فاطمة أن النقاب بشكله الجديد ارتبط بالمناطق الحضريّة أكثر من المناطق الريفيّة التي كانت فيها النساء يذهبن للعمل في زراعة أراضي أسرهن جنباً إلى جنب مع الرجل، ولم تكن النساء يخفين وجوههن عن الرجال.
واستدركت مشهور، "لكن عندما تنتقل الفتيات والنساء من الريف إلى الحضر يبدأن بارتداء النقاب".
وبينت "أن النقاب ارتبط بعاداتٍ وموروثاتٍ ثقافيّة مجتمعيّة كانت نتاجاً للمنظومة الاجتماعيّة التي اقتضت ظهور أنماطٍ من السلوك الاجتماعي المرغوب والمقبول اجتماعيّاً، الذي لقي وما يزال يلقى استحساناً أسريّاً واجتماعيّاً حتى من النساء أنفسهن، وتظلّ المعايير الاجتماعيّة، هي التي تشدّهن وتجعلهن يتمسّكن به".
وبينما يعتبر الحجاب شكلا محافظا في دول عربية أخرى، كسوريا ومصر والمغرب، وتوصف كاشفات الرأس في تلك الدول بالمنفتحات، إلا أن مجرد نزع "قطعة القماش" عن الرأس يدخل المرأة اليمنية في منطقة تتهم فيها بالفسوق، والعهر، والكفر، ووصل الأمر إلى ربطها بمخططات خارجية لهدم الأخلاق.
في أواخر مايو 2014 قررت الناشطة اليمنية شيماء جمال التي تترأس منظمة البيسمنت الثقافية، نزع الحجاب عن رأسها، في صورة نشرتها على صفحتها بموقع فيس بوك، وتلقت انتقادات من نشطاء السوشيال ميديا، بين من رؤوا ذلك انحطاطاً أخلاقيا، ومن رأى أنها نشرتها للشهرة، ومن الناحية الأخرى رأى البعض أنها حرية فردية، وأن اليمن تعاني من غياب الثقافة المدنية، في ظل الفقر والجوع والحرب.
مؤخرا، ظهرت بعض الممثلات اليمنيات كإشراق، وسالي حمادة، وأفنان الوصابي، في مسلسل "غربة البن" نازعات الحجاب، مجسدات اليمنيات في حقبة السبعينات من القرن الماضي في المسلسل، ولاقى انتقادات واسعة على السوشيال ميديا، ووصف بـ"التبرج"، والفسوق.
خلال سلسلة صور "أم، طفلة، دمية" لبشرى المتوكل تظهر الأم مع ابنتها ودمية، إذ ترتدي الأم الحجاب بألوانه الزاهية وبشكلٍ تدريجي يسيطر الغطاء الأسود أكثر فأكثر عليهن، حتى يتحوّل الحجاب إلى نقابٍ، ويختفي الفرق بينهن وبين الجدار الأسود من خلفهن، وفي آخر صورةٍ لا يبقى أيّ أثر لهن داخل الإطار.
توضّح بشرى في تعليقها بمنصّة "تيد"، كيف يمكن للمرأة اليمنيّة أن تتلاشى في الظلام، خطوةً خطوة، تحت ضغط العادات والتقاليد والنقاب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...