نفّذت وزارة الداخليّة السعوديّة 23 إبريل الماضي حكم الإعدام على 37 شخصاً بتهمٍ تتعلّق بالإرهاب، وسرعان ما طالبت اللجنة الأمريكيّة للحريات الدينيّة (USCIRF)، باتخاذ إجراءاتٍ ضدّ السعوديّة، مرجعة ذلك إلى أن الأحكام ذات دوافع دينيّة.
وشدَّدت «الداخليّة» السعوديّة على أن المُنفَّذ بحقِّهم الحكم "جُناةٌ" تبنّوا "الفكر الإرهابي المتطرّف"، بينما أشارت اللجنة إلى أنَّ "أحكام الإعدام السعوديّة جاءت لشيعةٍ من الأقليّة على أساس هويّتهم الدينيّة وحراكهم السلمي".
وراء تلك الخلافات نرى رجلاً خرج صباحاً وهو يعلم أنَّ هناك من سيفقد حياته على يديه، يسمونه في مصر بـ"عشماوي"، يؤدّي هذا الرجل عمله بالسيف في السعوديّة، وفي بلادٍ أخرى بحبل المشنقة، وفي أخرى رمياً بالرصاص، ثم يعودون جميعاً بعد ذلك إلى أصدقائهم، وزوجاتهم، وأبنائهم، إلى حياتهم.
الرغبة في "المهنة" سادية
في السعودية يسمون الإعدام "قصاصاً" وجذرها اللغوي "قصّ" و "اقتصَّ" يدور مشتقاته حول معاني متعلقة بالثأر العادل من ظالم أومجرم، أو قاتل، وللمملكة 6 سيّافين، يعمل على تدريبهم السيّاف عبدالله بن سعيد البيشي، كما كشف في حوارٍ سابقٍ له، موزّعون في عددٍ من مناطق البلاد، وهم على جاهزيّةٍ تامّة لتنفيذ الأحكام «إذا ما لزم الأمر».
يقول البيشي كاشفاً بعض ما يحدث في كواليس مهنته: "كلّما زاد عدد المحكوم عليهم بالقصاص من أربعة إلى خمسة أشخاص، فإنّ الضرورة تقضي الاستعانة بسيّافين من المتعاونين، مِمَّن أمضوا ستة أشهر تدريبٍ كاملة، وحصلوا على تقرير اللجنة بجاهزيّتهم وأهليّتهم لأن يكونوا سيّافين".
ترجع شهرة «البيشي» إلى أنه ابن السياف سعيد بن عبدالله بن مبروك البيشي، الذي أعدم جهيمان العتيبي، مقتحم الحرم المكّي الشريف في ديسمبر 1979، ما يعني اكتسابه للمهنة بالوراثة عن طريق والده، والذي كان يذهب لمساعدته في ساحة القصاص، منذ صغره «كنا نحضر ونشاهد عملية التنفيذ، لنتعلّم كيف ننفّذ أحكام القصاص مستقبلاً إذا رغبنا في دخول هذه المهنة».
«كنا (أنا وأبي) نحضر ونشاهد عملية التنفيذ، لنتعلّم كيف ننفّذ أحكام القصاص (الإعدام) مستقبلاً إذا رغبنا في دخول هذه المهنة».
في دولة أخرى، أكثر "تحضّراً" لم يقتصر العمل بتلك المهنة على الوراثة فقط، كثيراً ما يسعى آخرون للعمل بها، ففي تقرير نشر بمجلة «الهلال» المصريّة عدد شهر مارس من العام 1964، جاء أنه بمجرّد إعلان الصحف بأمريكا عام 1926 أن جلاد سجن "سينج سينج" الرهيب استقال من عمله، تلقّى مأمور السجن 700 طلب للالتحاق بالوظيفة، معظمهم ليست لهم خبرة في القتل أو الإعدام بالكرسي الكهربائي، بل وعرض بعضهم العمل بأجرٍ منخفض.
البعض لم ينتظروا أن تصبح الوظيفة شاغرة، فبحسب تقرير مجلة «الهلال»، أنه في عام 1953 كشفت لجنة ملكيّة في بريطانيا عن حقيقةٍ مذهلة: "كانت السلطات تتلقّى طلباتٍ من أشخاص يريدون شغل وظيفة جلّاد، بالرغم من عدم وجود وظائف شاغرة، وكانت الطلبات بمعدّل خمسة في الأسبوع".
تلك الرغبة من الناس في العمل بمهنة الجلّاد، اضطرّت اللجنة إلى إصدار بيانٍ جاء فيه "إنّ الطموح الذي يشجّع على هذه الطلبات يكشف عن صفاتٍ سيكولوجيّة من نوعٍ لا ترغب أيّة دولة أن تشجّعه في مواطنيها". وبعبارة أخرى، "خشيت اللجنة أن يكون عدد من أصحاب هذه الطلبات مدفوعين بشكلٍ خطير من أشكال الساديّة".
أرق وعزلة وقراءة قرآن
إذا كانت تلك المهنة مدفوعة برغبة ما "لا ترغب الدول في أن تشجعها بمواطنيها" أو أنها ترغب ولكن لقلة تطلب منهم أن يفعلوا ذلك، إلا أن تلك التجربة تطرح سؤالاً: هل هناك ثمن يدفعه هؤلاء لإشباعهم تلك الرغبة؟ بل هل هناك في الأصل ثمناً يُدفع؟
تروي زوجة أحد "القصاصين" منفذي أحكام الإعدام، في حوارٍ صحفي لها: «عندما يكون لدى زوجي تنفيذ حكم بالقصاص، يفارقه النوم في الليلة التي تسبقها، فيسهر طوال الليل يقرأ القرآن ويفكّر، عندها نكون جميعاً حذرين من الاحتكاك به أو التصرّف بأيّ طريقةٍ قد تستفزّه، وهو ما يعيه أبنائي جيداً".
أيضا تستعرض السيّدة حالة زوجها بعد عودته من عمله، مضيفةً: «ولكن عندما يعود من تنفيذ الحكم، يبدو شكله وكأن همّ الدنيا بطولها وعرضها على كتفيه، فيستلقي وينام وكأنه لم ينم لسنوات، لدرجة قد تجعلنا نعتقد أنه فاقد وعيه، وربما لأنه يود أن يهرب من المشهد والموقف المهول برمّته».
كما يشير البيشي إلى جانب آخر من معاناته، تلك المتمثّلة في تلقيه تهديدات من بعض الأشخاص بعد تنفيذ الإعدام وقبله، مضيفاً: "أن التهديدات تأتي عن طريق إرسال رسائل بريديّة أجدها في صندوق البريد، لكن لا أعير اهتماماً لمثل هذه التهديدات لكثرة تكرارها، وقد عرضت عليّ وزارة الداخليّة تأمين حراسةٍ أمنيّةٍ لي فرفضت، لأنني لا أخشى شيئاً".
يعلق الدكتور جمال فرويز، أستاذ جامعي في علم النفس، على الحالة النفسية لمنفذي حكم الإعدام، أنَّها ذات وجهين: من ناحية، القائم بعمل "عشماوي" مهما اختلفت أداته يتعامل مع الأمر باعتباره عمل، كأية وظيفة لا شيء أكثر من ذلك، مثله مثل "طبيب النِّساء" أو "الجرَّاح"، على حدِّ تشبيهات فرويز، الجميع يُنفِّذ المطلوب منه، لذلك يفتقد إلى الشعور بالذنب، وبعد أن ينتهوا من وظائفهم، يعودون إلى بيوتهم كـ"أيّ شخص عادي".
ومن ناحية أخرى، يضيف فرويز، يتعرَّض إلى أضعف اللحظات الإنسانية "وهي عندما يتعرض الإنسان للموت" مضيفا: "لذلك قد يضره نفسيا ردود أفعال البعض المبالغ فيها، أو بعض كلمات من يدعي البراءة، لذلك يرى أستاذ علم النفس ضرورة عرض هؤلاء الجلادين على إخصائيين نفسيين بشكل دوري، فالإنسان بطبيعته عندما يتعرض لضغط مستمر فإن طبيعته النفسية تختل".
خوف، وكراهية، وتهديدات
توضح مجلة «الهلال» في تقريرها أن معاناة بعض الجلّادين جرّاء عملهم، ليست حديثة العهد، بل راحت تستعرض تلك المشاكل القاسية في علاقاتهم مع الناس، مؤكّدةً أنه في أوروبا قديماً كان من التقاليد أن يلقي المشاهدون الأحجار على الجلّاد الذي لا يعجبهم، "وفي جميع العصور كان بعض الجلادين يتلقون تهديداتٍ بالموت من أصدقاء المحكوم عليهم بالإعدام وأقاربهم، وكان أحد هؤلاء في سجن سينج سينج يتلقّى التهديدات بالبريد والتليفون، وذات ليلة في مايو 1928 نجا بأعجوبة من الموت بسبب قنبلةٍ زمنيةٍ وضعت في بيته".
"منفذو أحكام الإعدام يتعاملون مع مهمتهم كعمل، مثل أي وظيفة، الجميع ينفذ المطلوب منه، ثم يعودون إلى بيوتهم كأي شخص عادي"
أستاذ جامعي في "علم النفس"
تذهب «الهلال» إلى ما هو أشدّ قسوة من التهديدات، فقد يصل الأمر في بعض المجتمعات إلى تطبيق مبدأ "العزل" على الجلادين، مشيرة إلى أن الكنائس في اسكوتلاندا كانت تجلسهم في مقاعد خاصّةٍ بهم، بل كانوا يرغمونهم في بعض أجزاء من أوروبا على السكن بعيداً عن الجيران.
وأكملت أنه "قد بلغ من قسوة الأمر أن الجلّاد الإنجليزي جيمس بيري كان يقيم في أحد الأحياء، فلما علم الجيران بمهنته أرغموا صاحب المنزل على طرده، فما كان منه إلا أن انتقل إلى جزء آخر من المدينة، واشترى عدداً من البيوت الصغيرة وسكن في أحدها، وبذلك أصبح صاحب البيوت التي يقيم فيها جيرانه وتحدّاهم أن يخرجوه منها، وبالطبع لم يفعل أحد منهم ذلك".
"افعلها بمهارة يا بني كما علمتك"
تذكر «الهلال» في التقرير الذي جاء بعنوان «بلاد تختار عشماوي من العرسان الجدد وبلاد تحاكمه بعد التنفيذ» أنه في إسبانيا كانت هناك عادة تقضي بمحاكمة الجلاد بعد كلّ عملية ينفذها، فيقدّم إلى محكمةٍ خاصّةٍ ويوجّه إليه القاضي تهمة ارتكاب جريمة قتل النفس، ثم يسأله عن دفاعه، فيردّ المتهم "لقد فعلتها باسم العدالة وطبقاً للقانون كما هو مفروض عليّ بحكم وظيفتي". وهنا يعلن القاضي أن " المتهم برئ ويُخلى سبيله"، إلا أن هناك عدداً من الجلادين نُفِّذ فيهم حكم الإعدام بنفس الأدوات التي كانوا يستخدمونها مع ضحاياهم.
ويضيف التقرير: "في مستعمرة جزيرة الشيطان بغويّانا الفرنسية كان الجلاد يساعد المسجونين الذين يحاولون الهرب عبر الحدود إلى غويّانا الهولنديّة. والواقع أنه لم يكن يساعدهم، وإنما يغري الواحد منهم ويسوقه إلى مكانٍ منعزلٍ ثمّ يتناول سكيناً يبقر بها بطن المسكين. وكان يهتمّ اهتماماً خاصّاً بهذا الجزء من الجسم لأن بعض المساكين كانوا يخفون النقود في أمعائهم بعد ابتلاعها. ولما اكتشف أمره سيق إلى المقصلة".
وتشير المجلة إلى أنه قبيل التنفيذ التفت إلى الشخص الموكل به وقال: "اعملها بدقّة يا بني كما سبق أن علّمتك".
ويحكي التقرير أنه كان في انجلترا جلادا أدمن الخمر، ومعاشرة النساء، وغرق في الدين، ففُصل من عمله وسُجن، كما كانت العادة في حالة عدم سداد الديون، "ولكنه تمكّن من الفرار بعد أن أحدث فجوة في جدار السجن، ولم تمض بضعة أشهر حتى قُبض عليه في حالة سكرٍ شديدٍ وهو يحاول اغتصاب بائعةٍ في الشارع، فلما قاومته كسر ذراعها وفقأ إحدى عينيها فماتت بعد أيام، وكان جزاؤه الشنق في نفس المكان الذي ارتكب فيه جريمته".
الصين، وإيران، والسعودية.. أكثر البلدان تنفيذا للإعدام
تنظر منظمة «العفو الدولية» إلى عقوبة الإعدام باعتبارها انتهاكاً لمبادئ الإعلان العالمي حقوق الإنسان، الذي اعتمدته الأمم المتحدة في 1948، لذلك جاءت الكثير من الصكوك التي عملت على إلغاء تلك العقوبة، وكان من بينها: البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي يهدف إلى إلغاء عقوبة الإعدام. وأيضاً البروتوكول رقم 6 الملحق بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، والمتعلق بإلغاء عقوبة الإعدام، والبروتوكول رقم 13 الملحق بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، فيما يتعلق بإلغاء عقوبة الإعدام في جميع الظروف. كذلك بروتوكول الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان لإلغاء عقوبة الإعدام.
كان لتلك البنود أثراً بالغاً في إلغاء عقوبة الإعدام في الكثير من دول العالم، فحسبما نشر بموقع "BBC" في نسختها العربية، كشف تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الذي قُدّم إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الدولية في سبتمبر 2018، عن نحو 170 دولة أبطلت عقوبة الإعدام أو أوقفت تنفيذها سواءً بالقانون أو الممارسة أو علَّقت تطبيقها لمدة 10 سنوات.
"العفو الدولية": غالباً ما تقع عقوبة الإعدام على من ينحدرون من أصول اجتماعية أو اقتصادية أشد حرماناً
مشيرا إلى أنه نظرا لوجود 193 دولة في الأمم المتحدة، فإن ذلك يعني ضمنيا أن 23 دولة نفذت حكما واحدا، على الأقل، للإعدام خلال السنوات العشر الماضية. موضحا هذه الأرقام حصلت عليها الأمم المتحدة من الدول الأعضاء أو منظمات المجتمع المدني.
وبشأن ترتيب الدول التي ما زالت تنفذ عقوبة الإعدام تشير منظمة العفو الدولية في تقريرها إلى أنه "في 2018، نُفّذت معظم عمليات الإعدام المعروفة في الصين وإيران والمملكة العربية السعودية والعراق وفيتنام – على هذا الترتيب".
أما عن أعداد تلك الأحكام فتؤكد أنه في 2018، سجّلت ما لا يقل عن 690 عملية إعدام في 20 بلداً. علما بأن الصين لا تزال هي أكبر البلدان تنفيذا لأحكام الإعدام في العالم، بحجم غير معروف حقيقته، حيث تصنف الصين هذه البيانات على أنها "سر من أسرار الدولة". فباستثناء الصين، تم تنفيذ 78٪ من جميع عمليات الإعدام المبلغ عنها في أربع دول فقط -إيران، والمملكة العربية السعودية، والعراق، وفيتنام.
وترجع منظمة العفو الدولية سعيها إلى إلغاء عقوبة الإعدام إلى عدة أسباب منها أنها عقوبة لا رجعة فيها، وقد تقع أخطاء في الأحكام، وأيضا أنها عقوبة تنطوي على التمييز، حيث غالبا ما تقع على من ينحدرون من أصول اجتماعية أو اقتصادية أشد حرماناً، وكذلك تستخدم بعض الدول عقوبة الإعدام كأداة سياسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين