إنه المشهد الذي اعتادت العين على رؤيته في معظم مراكز التسوّق: رجلٌ يقف خارج المتجر بانتظار أن تنتهي زوجته من عملية التبضّع، ونتيجة مكوثها الطويل في الداخل يضيق ذرعاً ويحاول أن يستعجلها بين الحين والآخر، فيجدها منغمسةً في تجربة كلّ زوجٍ من الأحذية وكلّ قطعة ملابس موجودة على الرف، أما هو فهمّه الأوّل والأخير الخروج من المتجر بأسرع وقتٍ ممكن، وبأقلّ "الخسائر".
في مجتمعاتنا التقليديّة، تبرز صورةٌ نمطيّة مفادها أن المرأة تميل للتسوّق أكثر من الرجل، ولكن يبدو أن المسألة ليست عبثيّةً وعشوائيّة، إذ تبيَّن أن هناك حقيقةً علميّةً كامنة وراء "الهوس" النسائي بعملية الشراء.
بين ملل الرجال وشغف النساء
"ليس لديّ قطعة ملابس مناسبة، لا بدّ من الذهاب إلى السوق لشراء ملابس جديدة"، هذه هي العبارة التي تردّدها معظم النساء أثناء وقوفهنّ كلّ صباحٍ أمام الخزانة التي يصعب أحياناً إغلاقها بسبب "كومة" الملابس المكدّسة، ومع ذلك يقرّرن الذهاب إلى السوق حيث يمضين "دهراً" وهنّ يبحثن عن آخر صيحات الموضة، الأمر الذي يثير غضب الرجال، كونهم يعجزون عن فهم حقيقة ما يدور في رأس المرأة و"شهيّتها" المفرطة لصرف الأموال على الملابس.
فقد وجدت دراسة استقصائيّة أُجريت في العام 2013 على 2000 شخصٍ بريطاني أن الرجال يشعرون بالملل بعد مرور أقلّ من 26 دقيقة على التسوّق، في حين أن الملل قد يتسلّل إلى النساء بعد إنقضاء ساعتين كاملتين في السوق، وذلك في حال لم يجدن أيّ شيء يثير إعجابهنّ.
وقد وجد الاستطلاع أن 80% من الرجال لا يحبّون التسوّق مع شريكاتهم في حين أن 45% من الرجال يتفادون التسوّق بالإجمال، هذا وقد اتضح أن حوالي نصف "رحلات التسوّق" تنتهي بمشاكل بين الأزواج، لكون الرجل يميل إلى شراء ما يحتاجه على الفور، فيُصاب بالإحباط حين يلاحظ أن شريكته تستغرق وقتاً طويلاً قبل اتخاذ أيّ قرارٍ متعلّقٍ بعملية الشراء.
تحكّم "الغريزة" في كيفيّة التسوّق
يبدو أن اللوم لا يقع على النساء بشأن الشغف المفرط في التسوّق، لكون المسألة كلّها عبارة عن غريزةٍ قديمةٍ تتحكّم بالجنس البشري ونضالٍ طويلٍ من أجل الحرية.
في الواقع من الطبيعي أن تحبّ المرأة التسوّق ويكرهه الرجل، وذلك بسبب ماضيهما وأدوارهما التقليديّة، وفق ما أكّده الأخصّائي في علم النفس التطوّري في جامعة ميشيغان "دانيال كروجر".
يبدو أن اللوم لا يقع على النساء بشأن الشغف المفرط في التسوّق، لكون المسألة كلّها عبارة عن غريزةٍ قديمةٍ تتحكّم بالجنس البشري ونضالٍ طويلٍ من أجل الحرية
فبالعودة إلى آلاف السنين كانت مهمّة الرجال تقوم على الخروج باكراً من المنزل لصيد الحيوانات وجمع الثمار، وعندما يحالفه الحظ ويجد "عيّنةً مُرضيةً" يبسط سيطرته عليها قبل أن تفلت من بين أيديه، فيحضرها فوراً إلى زوجته التي تتولّى التحقّق من كلِّ ثمرةٍ للتأكّد من حصولها على أفضل "صفقة" لها ولعائلتها.
ولكن ما هي العلاقة بين التطوّر البشري والتسوّق؟
لطالما اهتمّ "دانيال كروجر" بدراسة الاختلافات بين الجنسين، خاصّة في مسألة التسوّق، فقد سبق وأعدّ دراسةً علميّةً بعنوان: Evolved Foraging Psychology Underlies Sex Differences in Shopping Experiences and Behaviors وذلك بعدما كان شاهداً على الفرق الكبير بين الرجال والنساء في موضوع التسوّق أثناء رحلته عبر أوروبا: "كنا نزور قرىً صغيرةً في منتصف الشتاء حيث لم يكن هناك الكثير من السيّاح، وعندما وصلنا إلى براغ السياحيّة، أراد الرجال الذهاب لرؤية المعالم التاريخيّة، في حين أن النساء أصرّين على الذهاب للتسوّق".
وعندما عاد "كروجر" من رحلته، غاص مع مساعده "درايسون بيكر" في علم الأنثروبولوجيا، لمعرفة ما إذا كان بإمكانهما العثور على أوجه تشابهٍ بين ثقافات الأسلاف و"قلعة" المجتمع الحديث: مراكز التسوّق.
وبعد القيام بالعديد من الأبحاث وجد "كروجر" و"بيكر" أن الصيّادين الأوائل والذين كانوا عادةً من الرجال، استعانوا بالشمس لتحديد الاتجاهات، مثل الشرق والغرب، كما أنهم اتّبعوا الملاحة الإقليديّة، بمعنى آخر فإن هؤلاء الرجال كانوا على اطلاعٍ بمجريات العالم من حولهم، بشكلٍ يمكّنهم من الذهاب بسرعةٍ إلى "فريستهم" والقضاء عليها والعودة إلى منازلهم بأقصر طريق، في حين أن النساء، وبالرغم من عدم قدرتهنّ على التفريق بين الشرق والغرب، إلا أنهنّ تمكّن من جمع الأطعمة ومعرفة أي بقعةٍ من الأرض تحمل ثماراً جيداً، وهذا النمط الحياتي الذي كان سائداً في العصور القديمة يمكن تطبيقه على عملية التسوّق التي تحدث في العصر الحديث: حين يجد الرجل غرضاً يعجبه فإنه يشتريه على الفور، في حين أن المرأة تتأكّد مراراً وتكراراً من البضاعة قبل إقدامها على الشراء.
وفي معرض الحديث عن اختلاف السلوك بين الجنسين في عملية الشراء، كشفت الأبحاث أن رجال اليوم يحبّذون فكرة التسوّق بمفردهم، بعكس النساء اللواتي يفضلن الذهاب إلى السوق مع نساءٍ أخريات، مما يجعل هذا النمط يتلاءم أيضاً مع نمط حياة الأسلاف: بالرغم من أن الصيّادين الرجال كانوا يذهبون أحياناً ضمن مجموعاتٍ إلا أن هذا النشاط لم يكن اجتماعياً، بحيث كان يتعيّن عليهم التحلّي بالهدوء لتجنّب إخافة فريستهم، أما النساء فكنّ يجمعن الطعام مع نساءٍ أخريات ويجرين محادثاتٍ لطيفةٍ في نفس الوقت، تماماً كما يفعلن اليوم عند التسوّق.
وعليه توصّل الباحثون إلى القول إن هناك أوجه شبهٍ قويةٍ على طول خط النوع الاجتماعي، بين المهارات التي كان يتمتّع بها الأسلاف وبين المتسوّقين في العصر الحديث، بعبارةٍ أخرى، تقوم النساء في وقتنا هذا باستخدام نفس المهارات القديمة أثناء عملية التسوّق من حيث التدقيق في كلّ غرضٍ، في حين أن الرجل لا يزال يرى نفسه كصيّادٍ عليه أن يقبض بسرعة على "فريسته" دون إضاعة الوقت.
التسوّق يحرّر المرأة
بمعزلٍ عن التطوّر البشري وتأثير الغريزة على التسوّق، هناك نظرية أخرى تحاول شرح شغف النساء بالتسوّق انطلاقاً من نضالهنّ الطويل في سبيل تذوّق طعم الحرية.
فقد اعتبرت "بولي يونغ-إيسيندراث"، أستاذة الطبّ النفسي في جامعة "فيرمونت"، أن أسلوب التسوّق الحديث الذي يقوم بشكلٍ خاص على الإعلانات التجاريّة هو الذي يشجّع النساء على شراء الكثير من الأغراض.
واللافت أن هذه الظاهرة بدأت في أواخر العصر الفيكتوري قبل أن تتمتع النساء بحقّ التصويت، ومن خلال عملية التسوّق تمّ منح المرأة فرصة المشاركة في الأنشطة الاقتصاديّة والتي كانت حكراً على الرجال فقط.
فمع نموّ التجارة، استمرّ المعلنون في إخبار المرأة بأن التسوّق ما هو إلا وسيلة لتحريرها وجعلها تتحكّم بمصيرها، وهكذا تمّ تشجيع النساء على الذهاب إلى المتاجر للمتعة والدردشة والاستفادة من مجموعة من الملابس الجاهزة، وبالتالي فإن التسوّق لم يكن مجرّد شراء أشياء جديدة، بل مدخلاً لحثِّ النساء على اتخاذ خياراتهنّ الخاصّة، وللشعور بأنه لديهنّ كيان خاص وشخصيّة مستقلّة قادرة على تحديد ما تريد.
فكيف هزّ التسوّق الروح النسويّة؟
تحدّثت صحيفة "واشنطن بوست" عن التاريخ النسوي السرّي للتسوّق، مشيرةً إلى أنه وبهدف حثِّ الناس على النهوض عن أريكتهم، حاول القيّمون على المراكز التجاريّة أن يعيدوا التشديد على مفهوم التسوّق كنشاطٍ اجتماعي.
التسوّق لم يكن مجرّد شراء أشياء جديدة، بل مدخلاً لحثِّ النساء على اتخاذ خياراتهنّ الخاصّة، وللشعور بأنه لديهنّ كيان خاص وشخصيّة مستقلّة قادرة على تحديد ما تريد
واعتبرت الصحيفة أنه من المستحيل الحديث عن حقوق المرأة دون الإتيان على ذكر مسألة صعود المراكز التجاريّة، والتي مكّنت النساء من وضع أقدامهنّ في المدن الحديثة.
فبالنسبة للعديد من ربّات البيوت اللواتي ينتمين إلى الطبقة الوسطى، كان التسوّق هو المذاق الأوّل لطعم الحرية الحقيقيّ، ونقطة التحوّل نحو الحياة العامة التي كان يطغى عليها الطابع الذكوري: ففي السابق، كانت المرأة بحاجةٍ لوصيٍّ ذكرٍ لمرافقتها إلى الخارج، بحيث كان يُنظر للسيّدة التي تسير لوحدها في الشارع نظرةً دونيّة، ولكن خلال القرن التاسع عشر وبعد الثورة الصناعيّة، تغيّر الوضع العام وباتت السلع الاستهلاكيّة متوفّرةً بأسعارٍ معقولة، ما جعل الطبقة المتوسطة تقبل على عملية الشراء من أجل "المتعة"، وباتت المرأة "تتسكّع" في الشوارع بحريةٍ تامّة.
وعليه ليس من المبالغة القول إن التسوّق قد أعطى النساء موطئ قدمٍ في "المدينة الحديثة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...