أوّل سؤالٍ منطقي يتبادر إلى ذهن المتابع للشأن المحلّي المغربي مؤخّراً هو: هل فعلاً يستحقّ نقاش إلزام بنك المغرب بطبع حروف التيفيناغ على الأوراق النقديّة كلّ الضجيج الذي صاحبه، أم أنه لا يتعدّى كونه جعجعةً دون طحين؟
هل فعلاً يستحقّ نقاش إلزام بنك المغرب بطبع حروف التيفيناغ على الأوراق النقديّة كلّ الضجيج الذي صاحبه، أم أنه لا يتعدّى كونه جعجعةً دون طحين؟
كلّ الصراعات بين الأحزاب، التدوينات والخرجات الإعلاميّة لمناصري الأمازيغيّة ومناهضيها، ثمّ التصريحات المستفزّة لشيوخ السلفيّة التي زادت الطين بلّةً، مؤشّراتٌ تصوّر طباعة حروف التيفيناغ في الأوراق النقديّة كأنها الحلّ السحري لمشكلة الشرخ الهويّاتي الحاصل بين مكوّنات الشعب الواحد، والصراع الحاد الذي تعرفه الساحة المغربيّة بشأن اللغة الأمازيغيّة.
رغم أن حروف التيفيناغ هذه التي يتحدّث عنها المدافعون والمهاجمون على حدٍّ سواء، وتكسيها الآلة الإعلاميّة هالةً ضخمة تجعلك تظن أنها مقدّسة لدى أمازيغ شمال إفريقيا جميعهم، في الحقيقة لا يحسن رسمها إلا 3% من المغاربة الناطقين بالأمازيغيّة، وسيتضاءل الرقم أكثر حين تعرف أن المغاربة الناطقين بالأمازيغيّة لا يتجاوز عددهم هم أيضاً 30%، وأغلبهم متواجدون في قرى وبوادٍ تعاني من الهدر المدرسي والهشاشة، لكن الفرق البرلمانيّة كالعادة تفضّل، بدل مناقشة مستقبل هذه الشريحة التي تحتاج إلى التعليم بأيّ لغة كانت، أو مواجهة تناقص القدرة الشرائيّة للمواطن الذي نادراً ما يتسنّى له قراءة الكتابة الموجودة على ورقةٍ نقديّةٍ، بسبب قصر المدة الزمنيّة التي تفصل بين حصوله عليها وصرفها، أن تحوّل أنظار الجمهور إلى مشاكل بسيطةٍ تمنحه إحساس مواطنٍ إسكندنافي، لا هواجس حقيقيّة له إلا اللغة التي سيُلزم بها بنك المغرب.
وحتى إن ذهبنا مع المتعصّبين لهذا الموضوع، الذين تثور ثائرتهم ما إن تنعت قضيّتهم بالهامشيّة في ظلّ الواقع المعاش، والمنادين بالمساواة بين اللغة العربيّة والأمازيغيّة إلى أبعد حد. ألا يكفي أن الدستور المغربي، أسمى قانون في البلاد قد أقرّ في الفصل الخامس أن اللغة الأمازيغيّة هي لغةٌ رسميّة، وأكّد على إحداث قانونٍ تنظيمي من أجل تنزيلها؟ أليس الأوْلَى بالأحزاب والفرق البرلمانيّة اليوم، إن كانت تبتغي فعلاً مصلحة اللغة موضوع النقاش، أن تعمل على تفعيل الطابع الرسمي لهذه اللغة، ما سيجعلها أتوماتيكيّاً، ودون أي صراعات، لغةَ دولةٍ ومؤسّسات، ويفرض رغماً عن أنف الرافضين طباعتها على الأوراق النقديّة، جوازات السفر، البطاقات الوطنيّة، الأوراق والوثائق الرسميّة... شأنها شأن أيّ لغةٍ رسميّةٍ أخرى، والتوقّف عن إحداث صراعاتٍ جانبيّة لأجل الاختباء خلفها من مواضيع أهمّ؟
في حين أن هذا الشعب يقاسي الأميّة، الهشاشة، البطالة، المرض... ولن تحسّن حروف التيفيناغ من وضعيته
المشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة بالمغرب في الآونة الأخير أعمق من طباعة حروف التيفيناغ على الأوراق النقديّة، أو تخصيص بضع ساعات من أجل تدريسها في بعض المناطق دوناً عن غيرها، أو اعتماد لغةٍ ما في المؤسّسات العموميّة، لأنه إن كان الهدف الحقيقي من هذا النقاش هو فكّ العزلة عن المغاربة غير الناطقين بالعربيّة، وهو ما يعتبر حقاً مشروعاً ومطلباً عاجلاً، من الأفضل أن نبدأ أوّلاً بتنزيل الأمازيغيّة في المحاكم والإدارات العموميّة من أجل تسهيل معاملاتهم، ثم تعميم تدريسها في التعليمين العام والخاص، على صعيد كلّ التراب الوطني لاحقاً.
وإن كان الهدف منه هو الحفاظ على الموروث الثقافي فيجب علينا أن نحمي هذا الموروث بلهجاته المختلفة، ونكلّف المختصّين بذلك دون أن ندمج الشعب كلّه، وهو الدور الذي يقوم به المعهد الملكي للغات على أكمل وجه. والهدفان معاً يتحقّقان ببساطة إذا التزمنا بالقانون التنظيمي وقمنا بتفعيله دون الدخول في صراعات إثنيّةٍ وإيديولوجيّة، نحن بغنى عنها!
لكنه الاسترزاق، الاسترزاق بهُويّة شعب بأكمله، والرغبة في تحقيق المآرب والأطماع الشخصيّة فقط، ما يدفع جميع المتحدّثين باسم الأمازيغ إلى افتعال هذه الجنازات الكبيرة التي دائماً ما يكون فيها الميت فأراً.
أغلب المغاربة الناطقين بالأمازيغيّة متواجدون في قرى تعاني من الهدر المدرسي، لكن الأحزاب كالعادة تفضّل، بدل مناقشة مستقبل هذه الشريحة التعليميّ، أن تحوّل أنظار الجمهور إلى مشاكل بسيطةٍ، لا هواجس حقيقيّة له إلا اللغة التي سيُلزم بها بنك المغرب.
أقرّ الدستور المغربي أن الأمازيغيّة هي لغةٌ رسميّة. أليس الأوْلَى بالأحزاب، إن كانت تبتغي فعلاً مصلحة اللغة الأمازيغيّة، أن تعمل على تفعيل الطابع الرسمي لها، ما سيجعلها أتوماتيكيّاً، ودون أي صراعات، لغةَ دولةٍ ومؤسّسات؟
نجد أيضاً التيّار السلفي الذي دائماً ما يجد الفرصة مواتية ليحلّل ويحرّم كيفما شاء، كأن الإسلام أُنزل للمتعرّبين دوناً عن غيرهم، أو كأن اللكنة الأمازيغيّة سَتَحُوْلُ بين الجنّة وصاحبها!
لا أحد يستفيد من هذه الصراعات إلا الأحزاب والحركات التي تحبُّ الظهور بمظهر المُنقذ لشريحةٍ مستضعفةٍ منسيّة، حسب الصورة المسوّق لها، وثلّة الأكاديميّين الذين لا همّ لهم إلا ملئ جيوبهم باسم الدراسات والأبحاث والندوات التي تُقام تحت شعار الدفاع عن لغة الشعب الأمازيغي، في حين أن هذا الشعب يقاسي الأميّة، الهشاشة، البطالة، المرض... ولن تحسّن حروف التيفيناغ من وضعيته، في الجهة المقابلة أيضاً، التيّار السلفي الذي دائماً ما يجد الفرصة مواتية في مثل هذه المواضيع، ليحلّل ويحرّم كيفما شاء، دون حسيب أو رقيب، كأن الإسلام أُنزل للمتعرّبين دوناً عن غيرهم، أو كأن اللكنة الأمازيغيّة سَتَحُوْلُ بين الجنّة وصاحبها، أو كأن الله سيستشير ملتحياً ما قبل أن يجازي أحداً من المؤمنين به. الموضوع بأكمله يتحوّل إلى ساحة قتالٍ وتحدٍ بين أطرافٍ مختلفة، يحاول كلّ منها التفوّق سياسياً بالدرجة الأولى على الآخر، في حين يظلّ الطرف المعني مغموراً، ولا يستفيد شيئاّ.
لا أحد يستفيد من هذه الصراعات إلا الأحزاب التي تحبُّ الظهور بمظهر المُنقذ لشريحةٍ مستضعفةٍ منسيّة.
المغاربة، عرباً وأمازيغ، لو سألتهم لأخبروك فرداً فرداً، أنهم متنازلون عن جميع الحروف التي يريدون طبعها على الأوراق النقديّة أو تعليقها في الطريق السيار، وأنهم يفضّلون لو كانت قبّة البرلمان التي صوّتوا للجالسين فيها تهتمّ بقدرتهم الشرائيّة، تعليمهم، صحّتهم، سكنهم، كما تهتمّ بالمزايدة على بعضها البعض في مواضيع الهوية، لو كانوا يتباحثون كيفية الرفع من حجم الاقتصاد المغربي بحيث تصبح قرارات بنك المغرب أكثر تأثيراً وأهميةً، بدل إلزامه أو لا، بطبع حروفٍ لن تغيّر الحصيلة الحكومية الفاشلة التي تحاول الحكومة تجاهلها وتوجيه النقاش للأمازيغيّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...