هل نتخيّل عشق الأوطان، أليس الحب بعض من تخيلنا كما يقول نزار قباني؟ وإن كان فمتى يتحول وهم الوطنية لحب حقيقي؟ سمعت عن بلادي قصصاً تميل للمثالية، روايات أمي وأبي برومانسية مشاعر الغربة نقلت لي الجيد وجمّلت القبيح. حتى بداية الشباب كنت أزوره سائحةً، استمتع بمزاج أبناء خالاتي وأعمامي المبتهج في عطلتهم الدراسية والطقس الخريفي الممطر واحتفاء الجدات وحنانهن.
أحببته دون معرفة، لكنن حالما تحوّلت لأحد السكان، حتى تبعثر عشقي له وانقلبت انطباعاتي الإيجابية لامتعاضات. فقد تصادم اختلافي مع قيود الصيغة العامة النمطية والمفضلة، بالإضافة لعين القادم من ثقافة أخرى، رغمًا عني أشاهد بدقة الرديء والحسن وأبدي ملاحظاتي بصراحة وقد قبولت برفض متوقع. الآن ومنذ بداية ثورة التاسع عشر من ديسمبر 2018، أتارجح بين ميل قلبي لوطن قادم يعجبني وخوفي من الخذلان.
موكب التكفير عن ذنب الصمت
خصص الموكب المتزامن مع عيد الحبّ الماضي لضحايا الحروب والانتهاكات، لعله يكون تكفيرًا عن سنوات من تجاهل سودان الوسط لحرب الغرب والجنوب. هؤلاء الضحايا من لاجئين ونازحين، كيف لهم أن يحبوا هذه البلاد؟ مجرد إدراكي بصمتنا المتكرر يجعلني أبتعد عن جنسيتي قليلاً. حادثة تلو الأخرى، تثقل عبء العار الجماعي على كاهلي، حتى الآن وبينما يجابه النظام ثورة شعبية في مدن الخرطوم ومدني وبورسودان، فإنه يختار مدينة في الغرب بعيدة عن مواكب الثوار ليغتصب 5 نساء، يضرب في الخرطوم لكنه يشدد الظلم في الأطراف.
كيف يطلب منك أن تحب بلاداً تصمت وإنت تضطهد ألف عام وعام؟ أدهشني شباب من دافور قاموا أخيراً بتوثيق أحد قيادي الحزب الحاكم وهو يهدد بقتل المتظاهرين والذهاب بالفيديو إلى محكمة لاهاي لتتم إضافته لقضية النظام، وقد جددوا فتح ملف الجنائية الدولية. فكرت لمَ لا يزالون يهتمون بالسودان، هم هنالك خرجوا من المأساة، نجوا دون مساعدة من أبناء وطنهم، وربما لم يعد لهم أهل ولا أصدقاء في الداخل، هذا الحب للوطن أهو تخيّل أم أمل؟
موكب عيد الحب
اللافتات المصاحبة للإعلان وللتحفيز لموكب الرابع عشر من فبراير قالت: "ما جانا عشقك من فراغ.. لا نحن غنيناك... عبط"، وهو مقطع من قصيدة للشاعر الوطني حميد وغناها الفنان مصطفى سيد أحمد، كلاهما مارس النضال عبر الفن وكلاهما غادر عالمنا وخلف وراءه أجيالاً من عشاق السودان. مع الكلمات ترى رسوماً تتشكل على هيئة قلوب ويتلون الخط والريشة بالأحمر. هكذا هي استعدادات موكب تجديد عهد الوطنية.
شعرت بحيرة من حبهم الصارخ هذا، لا بدّ أنه تصور ذهني، مجموعة من الذكريات ممزوجة برغبة الانتماء، يحتاج المرء لوطن ويحتاج لأن يحبه مغمض العينين، كي يرتاح.
عشاق الثورة
استرجع رواد مواقع التواصل الاجتماعي صورة الجميلة والثائر، القصة كالآتي، كانا مخطوبين قبيل بدء الأحداث الحالية، في إحدى التظاهرات أصيب هو في عينه إصابة بالغة، فعجلت هي موعد الزواج لتذهب معه في رحلة علاج لا تعلم نتيجتها. تم عقد قرانهما في المستشفى بحضور ثوار كثر لا يعرفونهما بل جمعهم بهما تعاطف وحبور. عادت الصورة بعد أسابيع لتزين صفحات السوشيال ميديا وترافق الناس في ربط عيد الحب بالثورة والوطن.
خصص الموكب المتزامن مع عيد الحبّ الماضي لضحايا الحروب والانتهاكات، لعله يكون تكفيرًا عن سنوات من تجاهل سودان الوسط لحرب الغرب والجنوب. هؤلاء الضحايا من لاجئين ونازحين، كيف لهم أن يحبوا هذه البلاد؟
المطلوب من المواطن هنا أن يحب بلاده بلا شروط، كحبّ الأمهات الغريزي. يطلب منك ذلك الحاكم لتسهيل عملية السيطرة وكي تقبل ظروفاً معيشية لا تروقك، فهذا حظك وهذه حدود تطور الدولة. ويطلب بنفس إلحاح المجتمع منك أن تحب وطنك على علّاته كي تصبح شخصًا نبيلًا.
على الثورة أن تكون تمردًا جماعيًا على وطن يحتاج لعلاج وإصلاح، أما أن ننظر له بعيون "حالمة" كما لو كنا ملائكة ومشكلتنا تختصر في النظام، فذلك لن يمنحنا دولة ناجحة وقوية وتحترم مواطنيها. سندور في فلك عشق ساذج ومضر لوطن ما زال يؤذينا.
ألا ينبغي أن تعجبنا الأوطان؟
المطلوب من المواطن هنا أن يحب بلاده بلا شروط، كحبّ الأمهات الغريزي. يطلب منك ذلك الحاكم لتسهيل عملية السيطرة وكي تقبل ظروفاً معيشية لا تروقك، فهذا حظك وهذه حدود تطور الدولة. ويطلب بنفس إلحاح المجتمع منك أن تحب وطنك على علّاته كي تصبح شخصًا نبيلًا. متى يتسنى للمواطن العربي - حيث أنني أظنها مشكلة شرق أوسطية - أن تعجبه بلاده، فيحبها؟
أول من يتمرد على سطوة الحاكم والمجتمع ويلعن الأرض التي أنجبته هم الأدباء والمفكرون ثم يلحقهم الشباب، أذكر كيف أعجبت بكتابات علاء الأسواني قبل الثورة المصرية التى انتقد فيها الشخصية المصرية بجرأة. رفض المصري صورته عند الأسواني وكره أفلام أظهرت العشوائيات و لم تتجمل.
على الثورة أن تكون تمردًا جماعيًا على وطن يحتاج لعلاج وإصلاح، أما أن ننظر له بعيون "حالمة" كما لو كنا ملائكة ومشكلتنا تختصر في النظام، فذلك لن يمنحنا دولة ناجحة وقوية وتحترم مواطنيها. سندور في فلك عشق ساذج ومضر لوطن ما زال يؤذينا.
حب قادم.. حب حقيقي لبلاد أجمل
أمنيتي مع عيد الحب الأخير، هي أن اعشق بلادي بعينين مفتوحتين. أريد وطنًا لا يفرق بين وسط وغرب وجنوب، أرض تسامح ترحب بالغريب حقاً، وطنًا أفتخر فيه بشفافية عالية، سقف حريات مرتفعاً... بالأخص يهمني الإنسان السوي المتحضر الذي تجاوز مشاكل الماضي وتعلم منها، لأنني أقلق بشأن أن نعود للأخطاء في حال التشبث بعيوب عميقة ليس المجال هنا لذكرها. الحب القائم على عطاء وانتظار مقابل، أحسبه صحيًا بعكس تضحيات مرسلة. لنا حقوق كما هي واجبات المواطنة. أتخيل أن يأتي اليوم الذي أرى فيه أرضًا يحبها أبنائي بسهولة وصدق، بلا إجبار على حبّ العلّة أيضًا في البلاد. أمنيتي أن يعيش نضال الشعب السوداني، وليصبح السودان أكثر جدارة بالعشق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...