شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
رعب الاعتقال... أو لماذا لا أشارك في الثورة السودانيّة؟

رعب الاعتقال... أو لماذا لا أشارك في الثورة السودانيّة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 14 فبراير 201910:53 ص

عندما نويت أن أكتب هذا المقال لم يكن ببالي أن تصاحبه حادثة مقتل معلم في معتقل. أجلت الموضوع لانشغالي وترددت بينه وبين عناوين أخرى، ثم وقع عليه اختيار التحرير، ثم طالعت أخبار الثورة بعد يومين لأجد وجه المعلم أحمد خير ونعيه، انضم المعلم للمهندس والطبيب كرموز لاحتجاجات سلمية تعرضك للقتل. أصبح المقال بمثابة اعتذار أواسي به نفسي التي تصارعني ودعوتي للتظاهر.

خطر الموت في مظاهرة

تهتف المواكب "الطقلة ما بتقتل.. بتقل سكات الزول"، إلا أن طلقة الرصاص تقتل في الحقيقة كما فعلت وهي تتوجه نحو صدر الطبيب الشاب أبو بكر وهو يحاول إقناع العساكر بأنه يعالج مصابين في منزل أرادوا مداهمته. هي حتماً تقتل روح المهندس الذي سار نحو رجال الأمن رافعًا يديه فقابلوه برصاصة. القتل المجازي المذكور في الهتاف يعاني منه الشعب لمدة ثلاثة عقود وهم يصمتون عن ظلم البشير، "سكات الزول" مرض عضال يفتك بمستقبله ويجعل يومياته خانقة.

أنا لا أخشى الموت بالذات، أعرف تماماً أن خروجي في مظاهرة مطالبة بسقوط النظام قد تعرضني لرصاص قناصة البشير، أو كما يسمونها أحياناً عبر إعلام الدولة: "مجهولين". المدة التي تستغرقها رصاصة في قتلي سيمضيها عقلي في سرد أمور جيدة، أحبّ أن أفكر أنه سيجعلني أشعر بقيمة حياتي، سأموت بشكل جيد. والموت لا يؤلم الأحياء، ولذلك ربما أتذكر في تلك الثواني والدتي بشكل خاص وأسرتي وأصدقائي عموماً وأحزن قليلاً لما قد يسببه غيابي من ألم مؤقت.

الموت بالنسبة لي موعد نهاية، ورغم أن حديثي عن نهاية في سن الخمسين أو بعدها ببعض سنوات يغضب المستمع ويزعجه، إلا أنه رغبة عميقة داخلي، ولو أتت الخاتمة بأسرع من ذلك فلتكن جميلة ولأغادر بكرامة واعتزاز. لذلك عزيزي القارئ، أؤكد لك أنني لا أشارك في المظاهرات لأسباب بعيدة عن غريزة البقاء، لو ضمن لي وحوش النظام رصاصة ساعة قبضهم عليّ لخرجت بسرور.

التعذيب في المعتقلات

من لي بضمان موتي قبل اعتقالي؟ صدقاً أفضل الموت على الاعتقال، فهم يضربون المقبوض عليه ويشتمونه وينقضون عليه باستعار وجنون. يتفاوت العنف اللفظي والجسدي حسب المهنة والجنس والخلفية الثقافية والسكن ومكان الاعتقال. الأكثر عرضة للتعذيب هم الأطباء، النظام لن يغفر لهم إضراباتهم المتكررة والناجحة ولا أنهم إحدى المجموعات الأساسية في تجمع المهنيين السودانيين القائد للثورة. نصيب الرجال يفوق النساء في العنف الجسدي بينما يتم إرهابهن بالكلمات والتهديد، هذا لا يعني أن الضرب لا يطال المرأة بل إنهم زيادة عليه يبتدعون أساليب أخرى لردع المتظاهرات كقصّ الشعر وكلكم يعلم كم تهتم النساء بشعورهن.

عندما اعتقل الأمنجية "رجال الأمن السوداني" أخي قبل أعوام، لم يكن الشعب منخرطاً كهذه الأيام في حالة ثورية، فقط القليل من السياسيين والناشطين، أمام العموم فقد عادوا لممارسة حياتهم بشكل طبيعي بعد إخماد انتفاضة 2012 القصيرة. كنت أمضي ساعات طويلة بحثاً عن خبر، تسريب، معلومة، شائعة تدلني على خبر عنه.

أذكر صورة أفزعتني لرجل على ظهره آثار السياط، لون بشرته كلون بشرة أخي وكتفاه بعرض كتفيه وله نفس الطول، بدون وجه بدون إثباتات أو نفي، حسبته هو. تخيّل البؤس وقلة الحيلة: كيف أساعده، إن ذهبت إليهم، فسيعتقلونني أيضاً. إذن بمن أستجير؟ ماذا أفعل؟ هل يعود أخي وكيف يكون حاله؟

حلمت به تلك الفترة كثيراً، أضمه لصدري مستقبلة له فيبعدني برفق متألماً. التعذيب يعني القهر، إنه مزيج من الألم الجسدي والروحي. مشاعر الذل والعجز والهوان تغمرني بمجرد التفكير في ما مرّ به أخي وما يتعرض له الآلاف من المعتقلين يومياً منذ بدء الاحتجاجات السودانية الحالية والسابقة.

تابع تويتر والهاشتاق الثورة (#مدن_السودان_تنتفض) أو المغردين السودانيين، وانظر للصور. ينشر المطلق سراحهم صور أجسادهم الدامية والمليئة بالكدمات والجروح مع رؤوسهم الحليقة ويشهرون علامة النصر كدلالة على استمرار الثورة  وصمودهم. قال لي أخي بعد خروجه من زنزانة ضيقة غير آدمية أمضى فيها شهوراً:" كنت أخاف المعتقل الآن، ما حدث هو أنهم بحبسي أزالوا تلك العقبة من أمامي". هل يمكن أن يكون هذا ما أحدثته تجربة الاعتقال في نفوس الشباب الثائر؟ هل تلاشت فوبيا الاعتقال أم أن هذا شأن يختلف باختلاف الأشخاص؟

تهتف المواكب "الطقلة ما بتقتل.. بتقل سكات الزول"، إلا أن طلقة الرصاص تقتل في الحقيقة. القتل المجازي المذكور في الهتاف يعاني منه الشعب لمدة ثلاثة عقود وهم يصمتون عن ظلم البشير، "سكات الزول" مرض عضال يفتك بمستقبله ويجعل يومياته خانقة.
أفضل الموت على الاعتقال، فهم يضربون المقبوض عليه ويشتمونه وينقضون عليه باستعار وجنون. يتفاوت العنف اللفظي والجسدي حسب المهنة والجنس والخلفية الثقافية والسكن ومكان الاعتقال.
نصيب الرجال يفوق النساء في العنف الجسدي بينما يتم إرهابهن بالكلمات والتهديد، هذا لا يعني أن الضرب لا يطال المرأة بل إنهم زيادة عليه يبتدعون أساليب أخرى لردع المتظاهرات كقصّ الشعر وكلكم يعلم كم تهتم النساء بشعورهن.
هنالك أيضاً أمور صغيرة وتفاصيل تافهة تجعلني أخشى المعتقل، كنظافة الزنزانة ونوع الطعام وتوفّر مساحة خصوصية. تلك المعتقلات ليست سجوناً، إنها أماكن بنيت خصيصاً لتهزم الإرادة الإنسانية.

خوفي من المعتقل

أعلم يقيناً، بتركيبتي النفسية، أنني هشة من الداخل، ولن أتماسك وأصمد إن اعتقلت. بالكاد نجوت من الاكتئاب خلال حبس أخي، كنت أفرغ حزني بالبكاء، أستمع لأغاني مطربه المفضل، أمرّ بغرفته، أو فقط أغرق في ظلام غرفتي وأتخيّل ما يحدث له وأشرع في نوبة بكاء صامت.

هنالك أيضاً أمور صغيرة وتفاصيل تافهة تجعلني أخشى المعتقل، كنظافة الزنزانة ونوع الطعام وتوفّر مساحة خصوصية. تلك المعتقلات ليست سجوناً، وإن كان بعض المعتقلين يحبسون في السجون. إنها أماكن بنيت خصيصاً لتهزم الإرادة الإنسانية، وجودك فيها حتى دون الأذى الجسدي يؤلمك نفسياً.

سُميّت معتقلات نظام البشير في التسعينات ببيوت الأشباح، وسمعنا عنها قصصاً مرعبة وتوفي فيها معارضون سلميون بلا محاكمة وتحت التعذيب.

أنا أخاف هذه المعتقلات لدرجة أنني لا أملك الشجاعة الكافية لأعرف التفاصيل. مثلاً، عندما خرج أخي سألته إن كان بخير، تفحصته لكنني لم ألح ليخبرني بكل ما حدث له. كان قد روى عن تجربته باقتضاب ليخفف عنا ويطمئن قلوبنا. حتى الكتاب "بيت العنكبوت/ أسرار الجهاز السري للحركة الإسلاموية السودانية" الشهير الذي يحكي عن بيوت الأشباح والذي منعت السلطات تداوله، لم أبحث عنه في الإنترنت كعادتي عندما أريد كتاباً حُظر في السودان. قلبي لا يتحمل كل ذلك العنف.

ها هو المعلم يموت داخل معتقلهم، لم يكن الأول وأرجو أن يكون الأخير. ما يؤلم في موته أنها ليست رصاصة تدخل بين الأعضاء  لتحدث ضررها القاتل بسرعة بل مجموعة من الركلات وخراطيم المياه والله يعلم ماذا بعد... إنها ساعات من الذل والغضب لا تدري وأنت تصبر عليها متى تفقد وعيك فترتاح، ومتى يتعب هؤلاء المجرمون... إنها ميتة بشعة.

وإن خرجت من المعتقل ولم تمت، فمتى تنسى؟ متى تُشفى جراح روحك وكيف تسامح الحياة؟ لذلك أنا لا أستطيع أن أشارك في أمر قد يجرني للمعتقل. أخشى ألّا أتحمل الذل والألم معاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image