البدانة، الخصوبة، الوفرة
في معرضها، تنتقد الفنانة الإيرانية صفا قاساي غياب البدناء من الفضاء العام، وبالتالي تهميشهم من المشهد البصري، لذلك تحاول في لوحاتها تدريب عين المشاهد، على رؤية كثافة من الأجساد البدينة المتجاورة والموزّعة قرب بعضها البعض، على كامل إطار اللوحة.
تحتفي لوحات الفنانة الإيرانيّة (صفا قاساي)، والتي تُعرض حالياً في غاليري آرت لاب – بيروت، بالبدانة. في البيان الخاص بمعرضها، تنتقد الفنانة مجلات الأزياء والموضة التي فرضت مقاييس للجمال تمجّد النحول، فقد أجبرت الإعلاناتُ ودورُ الأزياء النساءَ على إتباع أنظمة الحمية الغذائيّة، ودفعوهن للظهور بقوامٍ جسديٍّ محدّدٍ وفق ما يناسب معايير صارمة من قبلهم.
تكتب الفنانة: (ليس بعيداً في التاريخ، كان الامتلاء مرغوباً، كان النظام الصحّي الأفضل هو ذلك الذي يمنح جسد المرأة الوفرة والخصوبة).
ما يؤكّد هذ الرأي أنه يمكن رؤية العديد من اللوحات والأعمال النحتيّة التي تجسّد آلهة الجمال والخصب فينوس، على أنها ممتلئة التكاوير عند الأكتاف، النهدين، وعند الأفخاذ والقدمين، وكذلك حضر الامتلاء كجماليةٍ للجسد الأنثوي في المرحلة الكلاسيكيّة من الفن.
لكن لوحات الرسّامة (صفا قاساي) لا تكتفي بتجسيداتٍ أنثويّةٍ ممتلئة، كالذي كان مرغوباً في الأعمال الكلاسيكيّة، وإنما تتجه إلى الاحتفاء بالبدانة، فشخصياتها النسائيّة لا يشكل الامتلاء جزءاً من تجسيدهن تشكيليّاً، بل هن يقتصرن على حضورهن السمين أو البدين، كغايةٍ مقصودةٍ من قبل الفنانة.
في اللوحة رقم 1، وهي أكثر اللوحات تلويناً، ترسم الفنانة أجساد نسائها بالألوان الحمراء والزرقاء في وضعياتٍ مختلفة، كلهن يرتدين ملابس السباحة. تبالغ الفنانة في رسم النهود بأحجامٍ كبيرةٍ، وكذلك المؤخّرات المكتنزة بوضوح، حتى أنها تكتفي بتجسيد بعض النساء برسم نهودهن فقط، أو الحضور المكتنز لمؤخراتهن، للتأكيد على أن ما ترغب بمعالجته بصرياً عبر لوحتها هو البدانة، وليس فقط قوام الجسد الأنثوي الممتلئ.
في إطار الحديث عن البدانة، والوفرة والخصوبة، يجدر ذكر بعض القراءات الأنثروبولوجيّة التي تثبت أنه في بعض الثقافات كانت البدانة دليلاً على الثروة والسلطة، لذلك، وفي الأنظمة الاقتصاديّة القديمة، كانت الزوجة البدينة تُفَضَّل على الأخريات، لأن ذلك يرمز إلى الطبقة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تنتمي إليها المرأة.
يمكن رؤية العديد من اللوحات والأعمال النحتيّة التي تجسّد آلهة الجمال والخصب فينوس، على أنها ممتلئة التكاوير عند الأكتاف، والنهدين، وعند الأفخاذ والقدمين، فكيف اختفت البدانة من معايير الجمال العامة؟
"ليس بعيداً في التاريخ، كان الامتلاء مرغوباً، كان النظام الصحّي الأفضل هو ذلك الذي يمنح جسد المرأة الوفرة والخصوبة"، فلم لا نحتفي اليوم بالبدانة؟
حضور البدانة في الفضاء العام
تنتقد (صفا قاساي) إقصاء البدناء من الفضاء العام، وبالتالي تهميشهم من المشهد البصري العام، لذلك تحاول في لوحاتها تدريب عين المشاهد، على رؤية كثافة من الأجساد البدينة المتجاورة والموزّعة قرب بعضها البعض، على كامل إطار اللوحة.
في اللوحة رقم 2، ترسم الفنانة باللون الأبيض على خلفيةٍ رماديّةٍ، أجسادَ النساء وهن في وضعياتٍ متنوّعةٍ، بعضهن مضطجعات لكن الكثيرات منهن يمارسن الرياضة، وهذا تحدٍّ جديد لعين المتلقّي، برؤية أجسادٍ بدينةٍ تقوم بتمريناتٍ رياضيّة، ما يخالف السائد في الميديا والإعلام، حيث ترتبط الممارسات الرياضيّة حصراً بالأجساد النحيلة أو الممشوقة.
أما اللوحة رقم 3، فهي نسخةٌ ملونةٌ من سابقتها، أيضاً تُظهر أجساداً نسائيّةً بدينةً على كامل سطح اللوحة، بلونين مختلفين هذه المرّة، الأرضية ملوّنة بالأخضر، الأجساد مرسومة بخطوطٍ سوداء. أيضاً، في هذه النسخة الملوّنة من اللوحة ذاتها، تظهر رغبة الفنانة بإدخال المتلقّي في تجربة الاعتياد على حضور أجسادٍ بدينةٍ وسمينةٍ أمام مدّ النظر، كأنها تدريبات على حضور البدانة أمام منظور العين، ما تعتبره الفنانة محجوباً بحكم العادات والمقاييس الجمالية الحديثة عن الفضاء البصري العام.
جماليات البدانة
في بداية القرن العشرين، حين سأم الرسّام الفرنسي (بول غوغان 1848 - 1903) الثقافة التي يعيش في ظلّ معاييرها، أي باريس، انتقل إلى جزر (تاهيتي) بحثاً عن الاكتشاف الثقافي، رسم في لوحاته النساء التاهيتيّات ببشرةٍ سمراء وأجسادٍ مكتنزة، سلسلة لوحات غوغان (نساء من تاهيتي) حملت الجديد لإحضار الجسد الأنثوي في الفن التشكيلي، أي البشرة السمراء والقوام المكتنز، تالياً، تأتي تجربة النحّات الروماني الفرنسي (كونستانتين برانكونزي 1876 - 1957)، والذي لم يركّز في أعماله النحتيّة على البدانة، لكنه اعتمد على أسلوبيّةٍ تجسّد التكاوير، فنصف الدائرة المكوّرة والملساء هي الكتلة الأكثر حضوراً في أعمال برانكونزي، والتي تبدو أعماله وكأنها تنويعات على التكاوير.
كذلك لا يمكن القول إن أعمال النحّات (هنري مور 1898 – 1986) المتميّزة قدّمت موضوعة البدانة، لكنها تذكّر في تشكيلاتها للجسد الأنثوي، بالأعمال الفخّاريّة والمنحوتات الحجريّة والطينيّة، حيث كانت الآلهة الأنثى تُجَسَّد بالامتلاءات المنسابة، أو التكاوير الممتدّة.
في النصف الثاني من القرن العشرين، ستكون لوحات الفنان الإنكليزي (لوسيان فرويد 1922 – 2011) الأشهر والأكثر طليعيّة، في تقديم موضوعة البدانة كظهور جمالي للجسد الإنساني. رسم (لوسيان فرويد) أجساد شخصيّاتٍ بدينةٍ مضطجعةٍ على السرير، على الكنبة، أو واقفة في غرفٍ معزولة. لوحاته هذه لم تكتف برسم البدانة كحضورٍ جمالي كما في لوحات المرحلة الكلاسيكيّة، بل حاول أن يُضفي أجواء وعوالم نفسيّة وذهنيّة على هذه الأجساد، مع لوحاته يحضر الجسد البشري محمّلاً بشحناته النفسيّة والجوانيّة، أكثر مما هو مجرّد مظهر تشكيلي.
البدانة الهزليّة
في الأدب، وفي القرن الخامس عشر، قدّم الفرنسي (فرانسوا رابليه 1949 – 1553) في رواياته، الجسد المتضخّم، الغروتسكي، المبالغ في حجمه وبدانته، وذلك في إطار الكوميديا. لا تخجل شخصيّاته من بدانتها، أو شراهتها، بل هي خواص تستدعي المفاخرة والاعتزاز. عالم (رابليه) الروائي يحتفي بالجسد الدنيوي، ليحرّره من قيود الروحانيّات والمثاليّات. في اللوحة رقم 4 في معرض الفنانة (صفا قاساي)، ترسم النساء باللون الزيتي الأحمر، يوحي لحضورهن بالحيوية، بحسٍّ هزلي للشخصيّات، أو للحضور المرسوم في اللوحة.
ترتبط البدانة في تاريخ المسرح بالشخصيّات الكوميديّة، وكذلك تستعمل إنتاجات ديزني السينمائيّة من الرسوم المتحرّكة، البدانةَ للدلالة على شخصياتٍ طيبةٍ ومرحةٍ بشكل استثنائي. في عروض (Stand - up comédie) تحضر السخرية كتقنيةٍ أساسيّةٍ في الخطاب الذي يوجّهه الفنان الكوميدي لإضحاك الجمهور. يلجأ فنان الستاند آب كوميدي إلى السخرية من الذات، من الخواص الشخصيّة، من الصور النمطيّة، والسخرية من الجسد. هنا أيضاً يتمُّ التعامل مع البدانة كموضوعةٍ مناسبةٍ للكوميديا الهزليّة. لا يعني الهزل من الخواص الجسديّة القدرة على إدراكها فحسب، بل أيضاً القدرة على النقاش حولها، التحدّث عنها، والهزل عن طريقها.
البدانة والحرية
توضّح الفنانة الإيرانيّة (صفا قاساي) غاياتها الفنيّة في معرضها الحالي: (أردت أن أرسم أجساداً أنثويةً واثقةً بقوامها، متصالحةً مع أجسادها، يستعرضنها تحت أشعّة الشمس، كأنهن يردن أن يقلن بأن للبدانة حقّ الظهور أيضاً)
يمكن رؤية اللوحات رقم (5 – 6 – 7) من أعمال الفنانة (صفا قاساي) على أنها ثلاثيّة. في اللوحة 5، مجموعة من النساء البدينات باللون الزيتي الأسود، يجلسن على شكل دائرةٍ، مقيّدات بسلسلةٍ تحيط بحضورهن. إنها تجسّد منع أو حجب البدانة عن الحضور في الفضاء العام، تسود في اللوحة أجواء من الحزن وعوالم من اليأس.
في اللوحة التالية (رقم 6)، نجدهن وقد تحرّرن من القيد الحديدي، يقمن بوضعياتٍ وممارساتٍ رياضيّة، هذا يُحيل لما أرادت الفنانة إيصاله من فكرة تصالح النساء مع أجسادهن. أما في اللوحة الأخيرة من الثلاثية، اللوحة رقم 7، فنجد المجموعة نفسها من النساء وهن في وضعياتٍ هزليّة، إنهن يقفن بطرائق مرحة، بعضهن يحملن أصص النباتات على رؤوسهن، يقمن بحركاتٍ بهلوانيّةٍ، كالتوازن على قدمٍ واحدة، ما يوحي أنهن في حضور هزلي مع أجسادهن.
في هذه الثلاثية الزيتيّة تتجسّد الأفكار الثلاث الرئيسيّة التي كتبت عنها الفنانة في البيان الخاص بالمعرض، وهي ضرورة كسر القيود المفروضة على الجمال الأنثوي من قبل عالم الميديا وصنّاع التجميل، إن على النساء التصالح مع أجسادهن بأكثر مما يتوجّب عليهن بذل الجهود ليظهرن وفق النظم والمعايير المفروضة، وأخيراً تمتّع الجسد بحضوره الذاتي دون إيلاء الأهمية للمظهر والمعايير المفروضة ثقافياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...