إعادةُ القراءة، تعني قراءة ما رفضني في المرّة الأولى، تعني القراءة دون القفز فوق بعض المقاطع، تعني القراءة من منظورٍ جديدٍ، تعني القراءة للتأكّد... نعم إننا نمنح أنفسنا كلَّ هذه الحقوق، لكننا نُعيد القراءة قبل كلّ شيءٍ بلا هدف، لمجرّد متعة التكرار، ولفرح اللُقيا، ولوضع الحميميّة على المحك.
"أيضاً، أيضاً، مرّة أخرى، تاني، كمان مرّة"، هكذا كان يهتف الطفل الذي كنّاه حين يحبّ شيئاً، ولكن إعادتنا لبعض القراءات ونحن بالغون، تشكّل جزءاً من هذه المتعة: الافتتان بديمومة الأشياء، وأن نجدها كلّ مرّة مفعمة باندهاشات جديدة، يقول دانيال بناك في كتابه "متعة القراءة".
ما قاله بناك قد ينطبق على فيلمٍ، مسرحيّةٍ، أغنيةٍ، موسيقى، على أيّ وسيط معرفي أو إبداعي، فكلّها من صنع اللغة، وإلا فما تفسير المشاهدات المليونّية على المنصّات الرقميّة، لمسلسلاتٍ قديمةٍ مثل "ليالي الحلمية" أو "صحّ النوم"؟ ما سرّ الضحك الذي ينتابنا دائماً ونحن نشاهد مسرحيّة "مدرسة المشاغبين"، رغم أننا شاهدناها كثيراً ونعرف كل ما سيحدث فيها.
نعلم تماماً أن الرسالة التي تلقّتها فيروز من حبيبها، وهي تقف تحت المطر كانت مكتوبة "بالدمع الحزين"، وأنها حين فتحتها وجدت "حروفها ضايعين"، ومع ذلك لا زلنا نشتاق ونلتاع ونستمع إلى فيروز وهي تحبّ بالصيف والشتاء، وكأننا سنعرف "حروف الرسالة التي محاها الشتي".
لا زلنا نقف لنتأمّل بشغفٍ ونحبس أنفاسنا، لمعرفة ماذا سيحدث بين أم كلثوم وحبيبها، بعد أن هلّ في ليلتها خيال الندامى، والنواسي عانق الخيام... لا زلنا ننتظر، رغم أن زمن القصّة توقّف منذ عام 1968، منذ قالت له ثومة: "هذه ليلتي فقف يا زمان".
تأكّدنا بما لا يدع مجالاً للشكِّ، أن الحركة الرابعة من السمفونيّة التاسعة لبتهوفن هي "نشيد الفرح"، وحفظنا كلّ جملة فيها، ولكننا لا زلنا نتفاجأ بالسعادة التي تنتابنا معها.
علمنا أن فريدة (بوسي) تموت في نهاية فيلم "حبيبي دائماً"، ورغم ذلك لا زلنا نشاهد النهاية ونبكي، وقد نتساءل عن مصير القصر العالي الذي وعدها به إبراهيم (نور الشريف)، بل ومصير إبراهيم نفسه بعدها.
لماذا نُعيد الاستماع إلى موسيقى أو أغنية، أو نعيد مشاهدة فيلم، أو نعيد قراءة رواية أكثر من مرّة، أو مجرّد مقطع، أو جملة واحدة من هذه الأشياء، ونستمتع في كلّ مرّة، سواء كانت الإعادة في نفس الساعة أو اليوم أو حتى بعد سنوات، رغم أن المفترض أننا نملّ لأننا افتقدنا عنصر المفاجأة؟ لماذا يرتعش جسدنا من جديد؟ لماذا نضحك من جديد؟ لماذا نبكي من جديد؟ لماذا نفكر من جديد؟ لماذا...؟
التكرار ناموس كوني
الإجابة على السؤال قد تجد منطقاً في فلسفة الحياة نفسها، فالنواميس الكونيّة نفسها تتكرّر، بين شروق الشمس وغروبها، الشتاء والصيف، أمواج البحار، نسمات الهواء، وغيرها من ظواهر تكرّر نفسها في نُظُمٍ زمنيّةٍ يتلقّاها الإنسان دائماً بأحاسيس متغيّرة أو متكرّرة.
الفنّ نفسه أساسه التكرار؛ فالرواية، الفيلم، الأغنية، الشعر، النحت، أو الرسم، هي استيحاء أو بناء أو انعكاس لواقعٍ موجودٍ مسبقاً، فهي مهما كانت خياليّة فيها تكرار بشكل ما، لما عاشه إنسان أو أيّ كائن كان قبل ذلك، ولو بشكلٍ جزئي.
فالتكرار يعني صلاتنا الإدراكيّة والأخلاقيّة بما حدث، ليس من خلال الحثّ على تذكّر الحدث، ولكن بشكلٍ غير متوقّعٍ تماماً، حيث يأتي التكرار كهِبَةٍ من المجهول، بوصفه وحياً من المستقبل، فالتكرار هو التجلّي الذي يمنح القديم في بعض الأحيان، صفةَ الجديد ولو لثانيةٍ، ويمنحنا في أحيان أخرى شيئاً جديداً تماماً، بحسب الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيجارد (1813: 1855م)، في كتابه "التكرار: مغامرة في علم النفس التجريبي".
ويعتبِر كيركيجارد أن حبّ التذكّر هو الحبّ الوحيد السعيد، فهو يدفع التفكير نحو الحدود المتطرّفة، حتى أنه إذا لم يجرِ استيعاب هذه الحدود بالحميميّة نفسها، فإنها تكشف عن ذاتها في اللحظة التالية على أنها شيء آخر.
بل ويذهب كيركيجارد إلى أبعد من ذلك ويقول إن الحياة بدون التكرار تتحوّل إلى فراغٍ أو ضوضاء بلا معنى، لأننا كمستقبلين للشيء الجديد، نستقبله بنصف معرفةٍ مسبقةٍ، تقودنا لمعرفة النصف الجديد علينا، فلا معرفة جديدة دون معرفة قديمة، فالخيال نفسه يُبنى على معارف قديمة.
"التكرار" لذّة أم محاولة فهم؟
القراءة، المشاهدة، أو الاستماع، تُنتج أحاسيس بداخلنا، وتتحوّل في زمن بسيط إلى إدراكٍ متمثّلٍ داخل نفوسنا، لأن الإدراك هو تحويل الانطباعات الحسّيّة إلى تمثيلات عقليّة، من خلال تفسيرها وإعطائها الانطباعات الخاصّة بها، فهو مرحلة لاحقة على الإحساس بالشيء واستقباله، بحسب محاضرة بعنوان "الإدراك" للدكتورة سمية النجاشي، الباحثة في علم النفس المعرفي.
فنحن نشعر بسعادةٍ ما حين نقرأ بيتَ شعرٍ غزلي، ولكن بعد هذا الإحساس بجزءٍ من الثانية قد يُدرك العاشق/ة أن هذا الإحساس يعبّر عن شعوره بمعشوقته أو معشوقها.
ومن سمات الإدراك أنه يعتمد على المعرفة والخبرات السابقة لدينا، حيث يصنِّف العقلُ الشيءَ الجديد الذي يتلقّاه من الحواس، وفقاً لتلك المعرفة وهذه الخبرات، بربطها بالحبيب/ة، ثم نتكيّف مع هذا المعنى الجديد بشكل لا شعوري، ويصبح جزءاً من قناعاتنا، بحسب النجاشي.
فإذا تناول الشِّعر وصفاً لشفتي أو قوام فتاة جميلة، قد يُصبح هذا الوصف وهذا التعبير اللفظي وصفاً للحبيبة التي لدينا صورة مسبقة عنها، أو بعض صورة.
ويتأثّر الإدراك بعوامل خارجيّة قد تسبّب خطأ في فهمه، بسبب عدم وضوح المؤثّرات (الكلمة، الجملة، الصورة...)، أو بسبب عوامل داخل الإنسان مثل التوتر والتعب.
ووفقاً لما سبق، قد نضطرّ إلى إعادة قراءة بيت الشِّعر، إما تلذّذاً به لأنه يرتبط بمن نحبّ، أو لأجل استيضاحه إذا كان غير مفهوم. ونفس الأمر ينطبق على قصّة أو روايّة أو أغنية أو فيلم... إلخ، لأن تجارب التدوير العقلي أثبتت أننا نعمل على إعادة تكييف صورة الشيء الخارجي، ليأخذ الوضع المُدرك سابقاً لهذا الشكل، بحسب النجاشي.
تكرار بوعي جديد = سعادة جديدة
في الإدراك سعادة، حسبما يتفق الكثير من الفلاسفة، وفي التكرار إدراك كما ذكرنا، ويقسم ابن خلدون، في "المقدّمة"، السعادة الناتجة عن الإدراك إلى قسمين، أوّلهما: السعادة الناتجة عن الإدراك الحسّي، وهو مذهب العقلانيّين من الفلاسفة، وعلى رأسهم أرسطو، ومن تبعه من العرب كالفارابي وابن رشد وابن سينا، حيث البهجة التي يشعر بها الإنسان حين يصل إلى علمٍ ما، هذا العلم الذي يجعله متصلاً بـ"العقل الفعّال"، الذي يُعدُّ الاتصال به هو عين السعادة، لأنه العقل الجامع للعقول البشريّة كلها، أو بصيغة تقريبيّة هو عقل الله.
أما القسم الثاني، فيمثل السعادة الناتجة عن الإدراك الروحاني، وهو مذهب المتصوّفة والروحانيين عموماً.
ويقسم ابن خلدون الإنسان إلى جسمٍ وروحٍ، ولكلّ قسم من القسمين مدارك تخصّه، ولكن المُدرِك فيهما واحد، وهو القسم الروحاني، إما بشكل مباشر، أو بواسطة الحواس الجسمانيّة، ولكن ابن خلدون ينتصر للإدراك الروحاني، ويرى أنه أشد لذّة، حيث يقول:
"فالنفس الروحانيّة إذا شعرت بإدراكها الذي لها من ذاتها بغير واسطة، حصل لها ابتهاج ولذّة لا يُعبَّر عنها، وهذا الابتهاج لا يحصل بنظرٍ ولا بعلمٍ وإنما يحصل بكشفِ حجابِ الحسِّ ونسيانِ المداركِ الجسمانيّة بالجملة".
بعيداً عن الجدل حول أيّ الإدراكات يجلب السعادة أكثر، فالأكيد أن السعادة تنبع من إدراكٍ ووعيٍ جديدين، وهو ما يمكن تطبيقه على الوسائط المعرفيّة التي نشعر بسعادة حين نكرّر مشاهدتها أو التعامل معها، حيث نصل إلى جديد فيها كان مختبئاً وراء السطور.
لنتأمّل مثلا رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ وكيف حظيت ولازالت تحظى بمزيدٍ من البحث، في محاولةٍ لتفسير رموزها، فمثلاً اعتبر بعض الباحثين، خاصّة من ذوي الميول الإسلاميّة، أنها تعطّل قدرات الذات الإلهيّة، حيث تُبَيّن أن الله غير عادل، ومنهم من اعتبرها إسقاطاً على نظام جمال عبد الناصر. وآخرون اعتبروا أنها تتناول كلّ مقدّسٍ أو كلّ صاحب سلطة...
وقد يفسّرها كلّ قارئ غير ناقد على أبعاد أفكاره ومداركه هو، وقد يضطرّ إلى إعادة قراءتها ليستوعب مالم يستوعبه، وكلما بان له كشف جديد أحسّ بسعادة جديدة.
سعد نبيهة؟ أم "سعدنا بيها"؟
الأغنية أو الفيلم أو الرواية أو الشعر أو حتى الموسيقى، هي لغة، واللغة تزداد وثوقاً واستيعاباً في المخِّ بتكرار كلماتها، ففي التكرار حثٌّ على الاستجابة العصبيّة لتلك الكلمات، ومع التكرار يعمل المخّ على إنشاء ذاكرةٍ لتتبعها. وربما لا يحدث اتساق مع ما نتعرّض له من قراءةٍ أو مشاهدةٍ أو سماعٍ للمرّة الأولى، فنحتاج إلى الإعادة، حسبما أكّدت دراسة أجراها باحثون من جامعة هلنسكي الفنلنديّة.
مَن مِن أطفال الثمانينيات في مصر لم يُخطئ في سماع عبارة "سعدنا بيها" في أغنية "العيد فرحة" لصفاء أبو السعود، ونطقها "سعد نبيهة"؟ ومن منا يستطيع استيعاب قصيدة شعر جاهلي بمجرّد سماعها لأوّل مرّة؟ مَن مِن الجمهور اللبناني (مثلاً) يستطيع فهم أغنية عامية مصريّة أو خليجيّة أو مغاربيّة للوهلة الأولى، أو العكس؟
لكلّ كلمة في ذهن الإنسان ما يسمى بـ logogen - لوجوجن، وهي معلومات متوفرة ومتراكمة في الدماغ عن الكلمة، تقود إلى فهمنا للفظها، وترتبط "اللوجوجنات" بخلايا عصبيّة خاصّة داخل شبكةٍ ضخمةٍ من الخلايا العصبيّة بالمخّ، بحسب ما يوضّح توماس سكوفل في كتابه "علم اللغة النفسي".
وإذا ما تمّ تنشيط تلك "اللوجوجنات" بأيّ طريقة (كسماع الكلمة أو قراءتها أو نطقها من جديد)، فإنها تعمل بالتوافق وبالتوازي مع لوجوجنات وخلايا عصبيّة أخرى موجودة مسبقاً داخل مخّ الإنسان، فيتحقّق الفهم أو المزيد من الفهم والإحساس.
وكلما كانت الكلمة كثيرة التكرار، حمل لها المخّ أزنِدة (كزِناد البندقية) أكثر حساسية، فتنشط الكلمة وتنطلق بعد ذلك بشكلٍ سريعٍ، على عكس الكلمات قليلة التكرار، والتي تحتاج إلى عتبات تنشيطٍ عصبيّةٍ عاليةٍ، وتأخذ وقتاً حتى نتفاعل معها، حسبما يرى الخبير في علم نفس اللغة.
هل من سماتنا كبشر أننا حالمون ونوستالجيون؟ وجدت دراسة أنّ 80% من البشر يحنّون إلى الماضي مرّة على الأقل أسبوعياً.
لماذا نُعيد الاستماع إلى أغنية، أو نعيد مشاهدة فيلم، أو قراءة رواية أكثر من مرّة، وكيف نستمتع في كلّ مرّة، سواء كانت الإعادة في نفس الساعة أو اليوم أو حتى بعد سنوات، رغم أن المفترض أننا نملّ لأننا افتقدنا عنصر المفاجأة؟ لماذا يرتعش جسدنا من جديد؟
من أين يأتي ميلنا للتكرار؟ والافتتان بديمومة الأشياء؟ وأن نجدها كلّ مرّة مفعمة باندهاشات جديدة؟
النوستالجيا والحنين إلى الإحساس الأول
مَن مِن مواليد الثمانينيات أو حتى السبعينيات لا يحنّ أو صادف من لا يحنّ إلى أغاني التسعينيات؟ ولنقس على ذلك أموراً كثيرة... نحن لا نستطيع استبعاد النوستالجيا من أسباب استعادة أو تكرار ما قرأناه أو شاهدناه أو سمعناه مسبقاً، خاصّة وأنها ظاهرة سيكولوجيّة شائعة، حيث أثبتت دراسة لأساتذة من جامعتي ساوثمبتون البريطانيّة، وميسوري الأمريكيّة، أن 80% من البشر يحنّون إلى الماضي ""Nostalgia مرّة على الأقل أسبوعياً.
وأوضحت الدراسة، أن من يشعرون بالوحدة أو الاكتئاب أو الملل لديهم ميول دائمة إلى النوستالجيا، خصوصاً كبار السن، فهي آلية دفاعٍ يستخدمها العقل لتحسين المزاج، باستدعاء ماضٍ جميلٍ دافئ، فيتحسّن المزاج ويقوى على مواجهة الحاضر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع