الحنين إلى الماضي وسيلة تلجأ إليها الشعوب للهروب من سوء واقعها وضغوط الحياة وصعوباتها. فالماضي دائماً في نظر الناس أفضل من الحاضر. ويرى الشباب المولودون في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي أن زمن الخمسينيات والستينيات يمثل فترة ذهبية.
وتعمّ هذه الظاهرة أغلب الدول العربية. فعلى مواقع التواصل الاجتماعي، أنشأ شباب من مصر والعراق وسوريا، على سبيل المثال لا الحصر، صفحات تتحدث عن أوضاع قديمة وزمن مضى وتنشر ذكريات عن جمال لم يعد موجوداً. نرى صوراً لشوارع نظيفة وخالية من الزحمة ونقرأ كتابات عن لغة حوار متحضرة وسلوك راقٍ كان سائداً آنذاك.
بين التثقيف ونقد الحاضر
ويختلف نهج هذه الصفحات، فمنها ما يتحدث عن ذلك الوقت بغرض التثقيف ولمزيد من التعرف على ذلك الزمن، كصفحة "أهل مصر زمان" التي تهتم بتاريخ مصر وتراثها وتعرضهما بالصور والفيديوهات، ومنها ما يسعى إلى إجراء مقارنات مع الحاضر لإبراز سوئه كصفحة "الملك فاروق" التي تنشر صوراً مع تعليقات تتحسّر على زمن الملَكية وتعقد مقارنات مصوّرة بين أماكن ومعالم في ماضيها وفي حاضرها.
وهنالك صفحات مختلفة مثل "أفيون" و"كلاسيك" تهتم بالفن وبفناني "الزمن الجميل" وتؤكد أن الدافع إلى تأسيسها هو الاهتمام بكل ما هو ذو قيمة وجميل وسامٍ في جميع العصور والأزمنة، ولتحقيق هدفها نراها تندفع إلى إبراز الفرق الكبير بين فناني الماضي والحاضر.
وتنشر صفحة "مصر زمان مش الآن" صوراً لميادين مثل ميدان العتبة الخضراء، الذي كان من أجمل ميادين القاهرة وصار الآن يعجّ بالباعة المتجوّلين، وكذلك ميدان المنشية في الإسكندرية الذي انتقد أحد الناشطين على الصفحة تخريب جدرانه الأثرية برغم أن منطقة المنشية ومحطة الرمل تعدّان من الأماكن الأثرية التي يجب الحفاظ عليهما.
حب "الكلاسيك"
وقالت لرصيف22 يارا، مؤسسة صفحة "نوستالجيا" ومشرفة على صفحة "كلاسيك" أيضاً، إنها تحب كل ما هو كلاسيك وقديم لأنه يساعدها على الابتعاد عن كآبة الواقع.
وأضافت: "أتمنى أن أعيش في الزمن القديم ولا سيما فترة الخمسينيات من القرن الماضي، لأنها من أرقى الفترات في مصر سواء في الأزياء أو المباني كما أن هذه الفترة شهدت رخاءً نسبياً، وكانت الشوارع نظيفة وكان الناس يتحلون بالأخلاق".
وعن نظرة البعض إلى هذا الحنين باعتباره نوعاً من اليأس، أكّدت أنه ليس يأساً، ولكن تدهور الأخلاق انعكس على أشياء كثيرة أبسطها نظافة الشوارع. القائمون على الصفحات، بحسب يارا، متعايشون مع الواقع ولكنهم يريدون أن تعتاد عيون الناس الجمال. وتابعت أنهم يحاولون من خلالها تعريف الناس بالرقي الذي كان سائداً في الماضي لعل وعسى ذلك ينعكس على سلوكهم.
مقالات أخرى:
الثقافة العربية الأصيلة في صُوَر
متحف سرسق أو الهرم اللبناني المعاصر
وعن اهتمام "نوستالجيا" بالفن فقط بعكس "كلاسيك"، أكّدت أن التنوع في "كلاسيك" نابع من زيادة عدد الأدمنز، ولكن للصفحتين اهتمامات متنوّعة. وحول مصدر الصور التي يتم نشرها على الصفحة، رفضت الإفصاح عن مصادرها الخاصة. ورأت يارا أن زيادة عدد هذا النوع من الصفحات في الفترة الأخيرة قد تساهم في عودة مصر إلى ما كانت تتمتع به في الماضي من جمال، خاصةً أن نسبة كبيرة من مؤسسيها هي من شباب.
إلى ماذا يحنّ السوريون والعراقيون؟
في سوريا والعراق، غيّرت الحرب الدائرة في الدولتين من طبيعة الحنين. فمعاناة أبنائهما تختلف ولذلك تراهم يتحسرون على وضع البلاد ويأسفون لحجم الدمار والخراب الذي حل عليهم، ويتمنّون عودة بلديهما إلى ما كانتا عليه.
وتهدف صفحة "سوريا أيام زمان" التي أسسها مواطنون سوريون إلى استرجاع الذكريات القديمة التي يتمنون عودتها مجدداً رافعين شعار "لا للسياسة نعم للإنسانية". كما يؤكد مؤسسو صفحة "الماضي الجميل (العراق أيام زمان)" أنهم يهدفون إلى تذكّر ماضي العراق الجميل.
كل فترة لها ما يميّزها
وقال الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ المعاصر ومستشار جامعة عين شمس للشؤون السياسية والاستراتيجية، إن هذه الظاهرة تسمى "نوستالجيا" وتعني أن ينتشر الشعور بالحنين إلى الماضي على المستوى الفردي وعلى مستوى العقل الجمعي. وأضاف أن الفرد عندما يتقدم به العمر فجأة ويشعر بضغوط الزمن يحنّ إلى مراحل طفولته ومراهقته، وكذلك الأمر على مستوى الشعوب والأمم إذ يرتبط الحنين إلى الماضي بعوامل ومؤثرات عدّة في مقدمتها الإحباطات.
ولفت إلى أن هذا الميل يدفع الإنسان إلى الحنين إلى الماضي ومن هنا ينشأ اعتقاده بأن الماضي كان أفضل، منبهاً إلى أن "بعض القوى السياسية التي لها امتداد يعود إلى الماضي، تستغل هذه الفكرة لعزل الشباب وإبعادهم عن المستقبل تحقيقاً لأغراض سياسية"، في إشارة منه إلى القوى الإسلامية والسلفية بالتحديد.
وتابع شقرة: "الحنين إلى الماضي مرتبط برسم صور زائفة لما يسمونه العصر الذهبي وهو غير صحيح، فلكل مرحلة إيجابياتها وسلبياتها".
وعن رأيه في مَن يعتقدون أن التذكير بالماضي قد يساعد على تحسين سلبيات الحاضر، أكّد أنه "يجب حقاً غربلة الماضي والاستفادة من أفضل ما فيه والمواءمة بين ما نأخذة منه وبين التغيّرات التي حدثت في الحاضر، لأنه لا بد من فهم الظروف التي نعيشها الآن".
وختم شقرة بالدعوة إلى قراءة التاريخ قراءة علمية و"ألا نهرب إلى الماضي وأن نفكر في المستقبل، فنحن نرث من آبائنا إيجابيات كثيرة، ولكننا نرث أيضاً أخطاءً وسلبيات. لذا يجب على هذا الجيل ألا يرمي نفسه في أحضان جهل اسمه الماضي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...