شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الكتابة بـ

الكتابة بـ"الدارجة": رسائل سريعة على ثلاجة المطبخ لا غير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 19 أبريل 201908:12 م

لم يعد الخشوع يتملّكني كلما ذُكر أمامي في إحدى الحلقات التي أنتمي إليها، سواء مهنيّة أو اجتماعيّة، اسم "كتاب" أو "معرض الكتاب" أو حتى كلمة كاتب، على رغم انتمائي لهذا الصنف من الحقول المعرفيّة، بشكلٍ أو بآخر، بحكم مهنتي. لقد أضحى أمر الكتابة معي فاتراً تماماً، كفتور زوج في أواسط الأربعينيات من العمر، بعد اثني عشر عاماً من الزواج، حيث يُصدم أحدهما بقابلية خيانة الطرف المقابل.

لقد انتابني هذا الشعور إزاء لغة النشر مؤخّراً، حيث بدأت نقاط موجةٍ جديدةٍ للنشر بـ"الكلام الدارج المحلي" في الإضاءة هنا وهناك، وحينها أحسست أن العربيّة "الأدبيّة" قد تراجعت، وأضحت لغة النشر للعموم أكثر قابلية لخيانة تاريخها.
عندما أزور فرنسا أو إيطاليا أو ألمانيا مباشرة أتحدّث لغتهم التي درستها في المدرسة، ليفهموني وأفهمهم دون عناء؟ هل يأتينا اليوم أحد السوّاح من كوكب بلوتونيوم ويتحدّث معنا العربية الفصحى على أنها لغة التفاهم بينه وبيننا ويقول مثلاً "لقد أعجبتني العجّة بالسجق".. هل سنفهم سريعاً وبديهياً بأن السجق هو "المرقاز"؟

أن يكون للناس لغة للتواصل محليّة ودارجة وأخرى رسميّة وأدبيّة فهذا أمر أراه مُثري، لكن أن تصبح الكتابة الإبداعيّة والصحفيّة والفنيّة دارجة أيضاً، فهذا أمر أرى فيه وفرة في الإشكالات وعبث كبير.

تاريخياً

لم يَعرف ما يُعرف بالتونسيين على مدى آلاف السنين إن دونوا ما أرادوه بلغة دارجة محليّة، فما هو المقياس اللغوي الذي كان سائداً للتمكّن من المقارنة بين ما هو دارج ومحلّي، وبين ما هو رسمي أو قومي؟ فإذا اعتبرنا أن أولى الحضارات التي سكنت تونس منذ ما يقرب الـ10.000 آلاف عام وهي الحضارة القبصيّة (قفصة حالياً) كانت حضارة كاملة الأركان، في عيشها وصيدها وأوانيها وأدواتها وفنونها ومعتقداتها، فإنه بالضرورة كانت لهذه الحضارة لغة، اللغة هنا في هذا المستوى أمرٌ ضروري جدّاً من الناحية العلميّة، فلولاها لما استطعنا، علمياً، من إطلاق صفة حضارة على تلك المجموعة البدائيّة من الإنسان العاقل، بل لما كانت هناك حضارة أصلاً تسمى الـ"قبصيّة" فهل كان هؤلاء يتكلّمون الدارجة في مستوى محلّي ولغة أخرى قوميّة، رسميّة، إداريّة، أو سمّها ما شئت؟ عن نفسي لا أعتقد ذلك.

لماذا تحدّثنا عن القبصيّين؟ الواضح أنه مثال نموذجي على صفاء حضاري متكامل، يمكن الحديث عنه في سياق البحث عن اللغة داخل "حدودنا الجغرافيّة"، فالحضارات المتكاملة والمتينة والتي تملك سرديّةً واضحةً عن نفسها والآخر والعالم، هي حضارات نادراً ما تتصادم في طريقها مع أسئلةٍ رئيسيّةٍ مثل سؤال لغتها، فالقبصيّون منذ آلاف السنين كانوا يملكون لغة واحدة للحديث بها في كلّ المستويات مع النفس، مع العائلة، مع الأصدقاء، مع السلطة، ومع الآخرين، قسْ على ذلك حضارات أخرى جاءت من بعد، كالأمازيغ والقرطاجيّين والرومان والوندال وغيرهم كثر... فهل هذا موجود في بلدٍ مثل تونس اليوم؟ لماذا؟

مثلاً، عندما أزور فرنسا أو إيطاليا أو ألمانيا مباشرة أتحدّث لغتهم التي درستها في المدرسة، ليفهموني وأفهمهم دون عناء؟ هل يأتينا اليوم أحد السوّاح من كوكب بلوتونيوم ويتحدّث معنا العربية الفصحى على أنها لغة التفاهم بينه وبيننا ويقول مثلاً "لقد أعجبتني العجّة بالسجق".. هل سنفهم سريعاً وبديهياً بأن السجق هو "المرقاز"؟

العالميّة

لا يعني كلامي أعلاه أننا "مجبرون" على الحديث فيما بيننا كتونسيّين بالعربيّة الفصحى مثلاً أو بالأمازيغيّة الفصحى أو الفرنسيّة أو الإيطاليّة أو غيرها، بالعكس، أن يكون للناس لغة للتواصل محليّة ودارجة وأخرى رسميّة وأدبيّة فهذا أمر أراه مُثري، لكن أن تصبح الكتابة الإبداعيّة والصحفيّة والفنيّة دارجة أيضاً، فهذا أمر أرى فيه وفرة في الإشكالات وعبث كبير.

يقول صديقي الذي يدافع عن الدارجة أن هذه اللهجة عمرها آلاف السنين. أقول له ربما في بعض الكلمات المدرجة فيها، لكن هل كان هنبعل مثلاً يكتب بالدارجة التونسيّة الحاليّة؟ هل كان يخاطب الرومان مثلما نتخاطب اليوم؟ لقد كان قائداً لقوّة الجنوب القرطاجي في مواجهة قوّة الشمال الروماني، ربما قاتلهم باللغة اللاتينيّة أو البونيقيّة لكنه لم يخاطبهم بـ"لغة دارجة"، بل ربما كان هذا القائد الفذّ يرى أن البلد الذي نطلق عليه اليوم اسم فرنسا كان مجرّد أمة تابعة، مليئة بالخونة الغال، الذين باعوا وطنهم لقيصر وأصبحوا يتحدّثون اللاتينيّة.

لغة الكتابة والنشر للعموم هي لغة الفكر، ولا يوجد فكر دون أن يكون عالمياً. كل دارجات العالم ليست سوى معاول لفظيّة لتسيير الحياة اليوميّة للناس، ولا يمكن أن تكون اللهجة الدارجة وعاءً لغويّاً للفكر، وبالتالي لا يمكن لها أن تكون عالميّة، بل على العكس، الكثير من التونسيين اليوم يفهمون الدارجات العربيّة فهماً جيداً، بل يوجد من يتكلّم بها مع صاحب الجنسيّة العربيّة الأخرى ويتندّرون بنكاتها ويقلّدونها بإتقان، مثل ما حدث مع صديقي الذي يدافع على اللهجة التونسيّة عندما التقى بأحد المصريين فكرّر له مسرحيّة "مدرسة المشاغبين" كاملةً تقريباً.

إذا فقدنا لغة الفكر فقدنا عالميّتنا، وهو مؤشّر على أننا فقدنا التفكير أصلاً. لست هنا في موضع الدفاع عن معقلٍ لغويٍّ بعينه، بالرغم من إعجابي الشديد باللغة العربيّة، إلا أنني أدافع عن نسقٍ حضاريٍّ واضحٍ يمكن أن نلتقي به الآخرين. سوف أفهم أفكار أحدهم إذا كتب بالفرنسيّة أو الإنجليزيّة أو الإيطاليّة أو العربيّة أو غيرها وبسهولة، لكنني لن أفهم جيداً مقصد أحدهم حين يسرد أحداث رواية بلغة دارجةٍ، مهما كانت جنسيّة هذه الدارجة، مكسيكيّة أم كاميرونيّة أم تونسيّة، لأن الدارجات قد تحمل همّاً شعريّاً أو عاطفيّاً أو وجدانيّاً أو موسيقيّاً لكنها لا تحمل همّاً حضاريّاً وفكريّاً ينقد التاريخ، أو يشخّص حاضراً أو ينظر إلى مستقبل.

هل توقفنا على التفكير؟

أتذكّر أنني استعملت الدارجة في العديد من المرّات (أقصد في الكتابة) وجلّها كانت لإخبار أمي، بنصف ورقةٍ ألصقتها على الثلاجة، بأنني سرقت من حقيبتها ديناراً لأشتري بسكويت وقت الراحة في المدرسة، وكنت، باللهجة التونسيّة، أطلب منها الاعتذار.

لقد سرى الكسل الذهني في أرجاء أجسامنا الاجتماعيّة المختلفة، لقد أضحى البعض كسولاً وبخيلاً على اللغة بشكلٍ يُعيد في أنفسنا طرح أسئلةٍ خطيرةٍ وموجعةٍ وضخمةٍ، مقارنةً بوعينا الحاضر: أسئلة من نوع "من نحن؟" و"ماذا نريد؟" و"إلى أين نحن ذاهبون"؟ ولا أرى أن كتّاب الدارجة بقادرين على الإجابة، ففهم التاريخ واجب لنقده أو حتى تدميره، ولا يمكن فهم التاريخ إلا باللغة المتوارثة والمتواصلة، ولا يمكن تشخيص الحاضر بأمراضه وعيوبه وتخلّفه، سوى بالتقاط مواطن الوهن والتي أراها تسكن محلّاً لغويّاً خطابيّاً شديد الخطورة، بارتكاز جلِّ عللها إلى النصّ الديني، وقد لا نرى المستقبل بشكلٍ واضحٍ إلا إذا امتلأت أفكارنا بالرغبة في التطوّر "كما نحن" وليس كما في مجتمع آخر.

أتذكّر أنني استعملت الدارجة في العديد من المرّات (أقصد في الكتابة) وجلّها كانت لإخبار أمي، بنصف ورقةٍ ألصقتها على الثلاجة، بأنني سرقت من حقيبتها ديناراً لأشتري بسكويت وقت الراحة في المدرسة، وكنت، باللهجة التونسيّة، أطلب منها الاعتذار.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard