تقتفي الكاتبة اللبنانيّة "جمانة حداد" في روايتها الأخيرة "بنت الخيّاطة" أثر أربع نساء ينتمين لعائلة واحدة، لتسرد وقائع أكثر من مئة عامٍ من حيواتهنّ غير المنفصلة عما يجري في المنطقة من مجازر وحروب.
تبدأ الرواية مع "سيرون" الجدّة الكبرى، التي وُلدت في عنتاب سنة 1912، وشهدت وهي طفلة بعد، المجازر التي ارتكبها الأتراك بحقِّ الأرمن، رأت مقتل والدها وأخيها، واغتصاب أمّها وأختها، وحمل أمّها بطفلٍ من جندي تركي، وكيف أخذوه عنوةً منها حين وُلد، ليكبر في تركيا بعيداً عنها.
السرد في رواية "بنت الخيّاطة" لا يتمّ كلّه على لسان الراوي العليم، بل تترك الكاتبة المجال مفتوحاً لبطلاتها كي تكتب كلّ منهنّ بلسانها، فتتداخل مروياتهن المطبوعة بحرفٍ غامقٍ مع صوت الراوي.
تقتفي الكاتبة اللبنانيّة "جمانة حداد" في روايتها الأخيرة "بنت الخيّاطة" أثر أربع نساء ينتمين لعائلة واحدة، لتسرد وقائع أكثر من مئة عامٍ من حيواتهنّ غير المنفصلة عما يجري في المنطقة من مجازر وحروب.
حملت "سيرون" في ذاكرتها وشوم الفَقْدِ والألم، كمثل لعنةٍ لا تنفكّ تطاردها حتى بعد أن وجدها رجلٌ أرمني طيّبٌ وحيدةً أمام جثّة أمها، فأخذها وتبنّاها هو وزوجته، واصطحباها معهما إلى القدس.
"ليس في ذاكرتي إلا أعمار التيه والإهانة والانحلال والموت. لو استطعت، لجعلت من هذه الأعمار بلاداً سمّيتها أناي المتشظّيّة في الرمل والليل والمتاهة (...) عندما قتلوني وبقيت على قيد الحياة، رأيت أنه ينبغي لي أن أتقمّص شروط اللعبة حتى آخر حذافيرها، وأن أؤدّي مراسمها، وأجسّد في جثّة حياتي شخصية المرأة التي شاءت أن تتحدّى ما لا يمكن تحديه، ومواجهة ما لا يمكن مواجهته إلا بالرضوخ".
لا تنتقل الكاتبة في الفصل التالي إلى الابنة، بل إلى الحفيدة، قافزة فوق الزمن، لتروي حكاية "شيرين"، التي ولدت في بيروت، وعاشت فصول الحرب الأهليّة اللبنانيّة بكل دمويّتها وقسوتها، وعانت من مشاكل والديها، ثم تزوّجت من شابٍ سوري، ورحلت معه إلى اللاذقيّة، لتكتشف خواء روحها وكم أنها لا تشعر بأي نوع من المشاعر تجاه زوجها.
تنثر الابنة هنا وهناك بعض النتف من حكاية والديها، ولكننا نبقى لا نعرف كلّ شيء، ثمّ في الفصل الثالث تعود بنا الحبكة إلى الوراء، إلى "ميسان" الفلسطينيّة، والدة "شيرين" وابنة "سيرون"، لتملأ بما سترويه فراغات الحكاية، وتُكمل فصول الحروب والمآسي، فهي التي ولدت في فلسطين ورحلت عنها إلى لبنان بعد احتلال فلسطين عام 1948.
تخفي "ميسان" أسراراً تقضّ مضجعها، سرّاً يتعلّق بأختها "فاطمة" وبموتها وهي طفلة، وسرّاً آخر عن تحرّشٍ جنسي تعرّضت له وهي طفلة، واضطرّت بسبب إلحاح زوجها إلى وضع أختها في مستشفى للأمراض العصبيّة، لتنهي الأخيرة حياتها منتحرةً. هكذا، تكوّمت الهموم في قلب "ميسان" وصارت ترى حياتها كمثل سلّة مهملاتٍ كبيرةٍ تدفن فيها كل ما تهرب من البوح به.
"بين الحين والآخر، تظهر الأجوبة فعلاً، على حين غرّة. يبدأ هطول المطر. إنه مطر غزير، أكثر مما يمكن لأعيننا أن تمتصّه، فيغمرنا فيضٌ من المشاعر، وقد أيقنا أن درب عودتنا إلى البراءة اضمحلّ إلى الأبد. كنت أعتقد أن الوسيلة الوحيدة للعيش هي أن نكون سريعين... أي سريعين بما يكفي لالتقاط تلك الكرة التي لا ينفكّ العالم يرميها ناحيتنا، ثم أن نكون سريعين في رميها من جديد. لكني الآن أعرف أنه من الأفضل لنا أن نتظاهر بعدم رؤية الكرة على الإطلاق، وإلا، فإن اللعبة ستستمرّ حتى يوم مماتنا".
يبدأ كل فصل من فصول الرواية بصورةِ ورقةٍ من أوراق اللعب: "ملكة الديناري"، "ملكة الكوبّة"، "البستوني"، "السباتي"، وتعدّد بعدها الكاتبةُ صفات هذه المرأة وهي صفات البطلة التي يحمل الفصل اسمها، كما أنها تضع في بداية كلّ فصلٍ مقطعاً من قصيدةٍ لشاعرةٍ تنتمي جغرافياً إلى المكان الذي تنتمي إليه بطلة الفصل، وهذا المقطع يمكن اعتباره مفتاحاً لفهم الشخصيّة أكثر ومعاناتها وحكايتها... ففصل "سيرون" يبدأ بمقطع للشاعرة الأرمنيّة "زابل خاندجيان"، وفصل "شيرين" بمقطع للشاعرة اللبنانيّة "إيتيل عدنان"، وفصل "ميسان" بمقطع للشاعرة الفلسطينيّة "فدوى طوقان"، وفصل "جميلة" بمقطع للشاعرة السوريّة "سنية صالح".
كما أن السرد في رواية "بنت الخيّاطة" لا يتمّ كلّه على لسان الراوي العليم، بل تترك الكاتبة المجال مفتوحاً لبطلاتها كي تكتب كلّ منهنّ بلسانها، فتتداخل مروياتهن المطبوعة بحرفٍ غامقٍ مع صوت الراوي.
تُختتم حلقة النساء في العائلة بالحفيدة "جميلة" التي تولد في حلب، وتكتمل بحكايتها وحكاية الحرب السوريّة "حلقةَ نارٍ مثاليّةٍ بمحيطٍ من مئة عام"، وهذا الفصل يحفل بالكثير من المفاجآت والروابط مع ما قرأناه في الفصول السابقة، ويتمّم الملحمة العائليّة التي تروي سيرة أربع نساء مناضلات ولدن في بلدان مشتعلة بالعنف والدم، فحقّ لهن التساؤل: "كم من ميتات بعد عليّ أن أحصي، كم من حيوات عليّ أن أرثي قبل أن أستحقَّ الضوء؟"
"ليس في ذاكرتي إلا أعمار التيه والإهانة والانحلال والموت. لو استطعت، لجعلت من هذه الأعمار بلاداً سمّيتها أناي المتشظّيّة في الرمل والليل والمتاهة"من رواية " بنت الخياطة"
جمانة حداد: شاعرة وكاتبة لبنانيّة حازت جوائز عربيّة وعالميّة عدّة، فضلاً عن كونها صحافيّة ومترجمة وأستاذة جامعيّة. شغلت منصب المسؤولة عن الصفحة الثقافيّة في جريدة "النهار" لأكثر من عشر سنوات، وعلّمت الكتابة الإبداعيّة في الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة في بيروت. وهي ناشطة في مجال المساواة وحرية التعبير وحقوق الإنسان. اختارتها مجلة "آرابيان بيزنس" للسنوات الأربع الأخيرة على التوالي واحدة من مئة امرأة عربيّة الأكثر نفوذاً في العالم، بسبب نشاطها الثقافي والاجتماعي.
للكاتبة 15 كتاباً منشوراً، ما بين شعر ومسرح ورواية وترجمة وحوارات، من أبرز هذه الكتب: "عودة ليليت"، "هكذا قتلت شهرزاد"، "سوبرمان عربي"، "الجنس الثالث"، "سيجيئ الموت وستكون له عيناك"، "صحبة لصوص النار: حوارات مع كتاب عالميين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...