لأننا في مصر فقط، ولأن الدولة بهيئاتها وأحزابها تدعو الناس لأن تصوّت بنعم، على التعديلات الدستوريّة التي بموجبها سيبقى الرئيس في الحكم حتى عام 2030، لذلك اختاروا فرقة "مسار إجباري" من أجل حشد الناس للتصويت، نعم يا سادة، استفتاءٌ يحمل علامتين، إما الموافقة وإما الرفض صوريّاً، لكن الحقيقة "المسار إجباري".
"انزل..شارك" هي الأغنية التي طرحتها فرقة "مسار إجباري" خلال الساعات الماضية، بالتعاون مع المطرب الشعبي أحمد شيبة، من أجل دعوة المواطنين للمشاركة والتصويت بـ"نعم"، ولم تمض إلا دقائق حتى اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي تعليقات تساؤليّة أكثر من أي شيء آخر: كيف تورّطت فرقة تحمل أفكار ثورة 25 يناير في ذلك؟ هل هناك إجبار؟ هل غيّروا جلدهم وساروا هم أيضاً في "المسار الإجباري"؟
تلك التساؤلات أنهاها هاني الدقاق، مطرب الفرقة، حين كتب على صفحته الشخصيّة بموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، منشوراً يحمل اعتذاراً لابنته عن أي شيء من أجل أن يوفّر لها الأمان، يعترف إنه بعد إنجابها صار هناك ما يخاف عليه، وهي الرسالة التي فهمها الجميع، بأن الفرقة تعرّضت لضغوطٍ من أجل الغناء، ولكن أيضاً هو عذرٌ أقبحُ من ذنبٍ في رأي آخرين، فمن أجل ابنته يساهم في إهدار مستقبل الملايين، ثم من أدراه أن الديكتاتوريّة يمكن أن توفّر لابنته مناخاً آمناً.
كيف تورّطت فرقة تحمل أفكار ثورة 25 يناير في ذلك؟ هل هناك إجبار؟
المعركة التي تابعتها، بالنسبة لي لم تكن حلقةً مفرغةً، منذ ثلاثة أعوام وفي مؤتمر الشباب الأوّل بشرم الشيخ 2016، استعانت الدولة أيضاً بفرقة "بلاك تيما" لإحياء حفلة في ختام المؤتمر، وسرعان ما تكرّر الأمر من جمهور الفرقة، فالهجوم تَمَحْوَر حول كيف يمكن لفرقة فنٍّ مستقلٍّ أن تتورّط في مؤتمر كهذا؟ أما فرقة "كايروكي"، والتي تبدو حتى الآن خارج هذا السياق، فقد واجهت الكثير من المشكلات، لعلّ أبرزها عدم منحهم تصاريح أمنيّة لإقامة حفلاتهم.
وبالعودة إلى الوراء قليلاً، يمكن القول إن فرق الفنِّ المستقلِّ "أندر جراوند" والتي ظهرت بوضوح في 25 يناير، وكانوا وقوداً لميدان التحرير، مثّلوا مشكلةً حقيقيّةً أمام النظام الجديد في مصر، فتلك الفرق التي غنّت الممنوع ورفضت الانسياق، التفَّ حولها الكثير من جيل الثورة، مؤمنين بأفكارها وبما يغنّونه، ما يقوله الشباب في الشوارع والميادين يغنّيه أعضاء الفرقة، والعكس صحيح.
لكن بوادر ذلك ظهرت جليّاً حين تمّ إلغاء حفلة "الفنّ ميدان" في عام 2015، تلك الحفلة التي كانت تُقام بميدان عابدين مجّاناً للجمهور، وفيها يغنّي أعضاء فرق الأندر جرواند، تنطلق الحناجر وتصدح بالغناء ويتنسّمون نسيم الحرية، لكن كل ذلك ألُغي، ثم بدأت عملية "القصقصة" من خلال التضييق، وأخيراً إجبار بعض الفرق كما حدث مع "مسار إجباري" وكما أشار منشور هاني الدقاق، على الغناء للدولة وإلّا، وذلك كله جاء مكمّلاً لمنظومة الديكتاتوريّة: إلغاء الصحافة الحرّة من خلال حجب المواقع الإلكترونيّة، إقصاء أصحاب الرأي المختلف، واستبعاد فنانين أصحاب توجّهات معارضة، كما حدث مع عمرو واكد وخالد أبو النجا.
لا أطلب من أحدٍ أن يكون بطلاً، ولا ألوم الخائفين من السجن أو ضائقة العيش، كلّ أعلم بظروفه وبما يستطيع أن يتحمّل، وبصفتي كاتب أدرك أن "اللي إيده في الميّه مش زي اللي إيده في النار" وكثيرٌ ممن يهاجمون "مسار إجباري" قد يصوّتون بـ"نعم" من أجل "كرتونة" بها سكر وزيت وشاي.
لكن وإن كان "المسار الإجباري" هو الطريق المفروض حاليّاً، فلماذا لم يتمّ ذلك بأقلّ قدر من الوقاحة، فقبل ثورة 25 يناير، حين أراد عمرو دياب الغناء للرئيس الأسبق حسني مبارك قدّم أغنية "واحد مننا" وخلت الأغنية من أي إشارة صريحة لـ"مبارك" لكنها عبّرت عنه، وباتت تصلح لكل زمان، هذا ما تعلّمه عمرو دياب من أخطائه، بعد أن تورّط قبل ذلك في أغنيةٍ صريحةٍ لمبارك، لا تزال تمثّل سُبّة له حتى الآن.
المنشور الذي كتبه المغني، يُفهم منه بأن الفرقة تعرّضت لضغوطٍ، ولكن أيضاً هو عذرٌ أقبحُ من ذنبٍ في رأي آخرين، فمن أجل ابنته يساهم في إهدار مستقبل الملايين، ثم منذ متى توفّر الديكتاتوريّة آمنًا للأطفال؟
خلال مؤتمر الشباب الأوّل، استعانت الدولة بفرقة "بلاك تيما" لإحياء حفلة في الختام، وسرعان ما تكرّر الأمر من جمهور الفرقة، فالهجوم تَمَحْوَر حول كيف يمكن لفرقة فنٍّ مستقلٍّ أن تتورّط في مؤتمر كهذا؟
يمكن القول إن فرق الفنِّ المستقلِّ "أندر جراوند" والتي ظهرت بوضوح في 25 يناير، وكانوا وقوداً لميدان التحرير، مثّلوا مشكلةً حقيقيّةً أمام النظام الجديد في مصر، فتلك الفرق التي غنّت الممنوع ورفضت الانسياق، التفَّ حولها الكثير من جيل الثورة.
الأغنية التي تمّ تقديمها "انزل ..شارك".. في الحقيقة نوعٌ من التدليس، فالتعديلات الدستوريّة لم تتطرّق لمعيشة المواطنين، التغيير في هيكل نظام الحكم، مُدَد رئاسيّة مفتوحة، استحداث مجلس الشيوخ بجانب مجلس النواب ليعاونه في دراسة القوانين، كوتة أكبر للمرأة، وهكذا، لكن الأغنية جاءت لتعلن أن التعديلات ستغيّر حياة المواطنين للأفضل، ستجعلهم يعبرون لبرِّ الأمان، يُكملون البناء، يحمون الوطن، وكلها كلمات تربط الوطن بشخص واحد، رغم أن الوطن باق والأشخاص زائلون!
من هناك فقط انتقد "مسار إجباري"، فصحيح أن هناك أوامر كما أعتقد، لكن هناك مساحة للمراوغة، للغناء من أجل المشاركة بعيدًا عن الوقوع في مستنقع التدليس، كأن تحمل الأغنية كلمات على شاكلة المشاركة الإيجابية هي الحل حتى لو بالرفض، قول لا أو آه المهم تشارك، أي شيء من هذا بدلًا من هذا الانبطاح، ووقتها كان يمكن لهاني الدقاق أن يحمي ابنته أيضًا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين