يأتي الاهتمام بالأفلام العربيّة المشاركة في مهرجان أيام بيروت السينمائيّة هذا العام، من الرغبة بالاطلاع على الفنون التي يُنتجها المجتمع العربي في المرحلة الحاليّة، فمهما كانت المتغيّرات والتحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة قاسية أو معقّدة، فإن وجود فنون تواكبها، يبشّر بمجتمعٍ قادرٍ على التعبير، أقلّه فنياً، عن أفكاره وتجاربه، وممارسة التحليل والنقد الذاتي.
تتعدّد الإنتاجات السينمائيّة المشاركة في المهرجان من دول عربيّة مختلفة، وكذلك تتعدّد الأنواع الفيلميّة المشاركة: الفيلم القصير، التجريبي، التسجيلي، والتخييلي، ويحضر طيفٌ واسعٌ من الموضوعات والقضايا التي تتناولها التجارب السينمائيّة العربيّة المعاصرة.
وصايا العنف والتشدّد بين جيلين: سورية
فيلم الافتتاح في المهرجان للمخرج السوري طلال ديركي (عن الآباء والأبناء، 2018). الفيلم تسجيلي، وقد كُتبت عنه العديد من المقالات النقديّة والصحفيّة، ورُشّح لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم وثائقي هذا العام، وشعل حيّزاً من النقاش على صفحات السوشال ميديا. تتابع الكاميرا حياة عائلة جهاديّة مسلّحة في سورية، تركّز الحكاية على الحياة اليوميّة، وتأثير ثقافة العنف على حياة العائلة، وبشكلٍ خاصٍّ على الأبناء فيها (أسامة وأيمن). نلمح تفاصيل حياة طفولة منذورة للموت، يمتزج الدين والعنف في الثقافة التي يتلقونها، وتقودهم إلى حمل السلاح، الحروب والموت. اعتبر العديد من النقّاد أن الفيلم يقدّم إضاءة سوسيولوجيّة لتأثير الفكر الجهادي للآباء على مصير الأبناء، ويحوّل مآلهم، من الميول الطبيعيّة للطفولة، إلى مستقبلٍ مرسومٍ ومحدّدٍ لهم من قبل الآباء.
تريلر الفيلم: عن الآباء والأبناء:
الجنة معكوسة من الأسفل: مصر
تدور أحداث فيلم (الحلم البعيد، إخراج مروان عمارة ويوهانا دومكي)، في مدينة شرم الشيخ – مصر، المَعْلَم السياحي الفاخر الذي يتوافد إليه الزائرون من كلّ العالم. لقد اختار المخرج والمخرجة في معالجتهما لهذه المدينة، أن يلاحقا تفاصيل حياة الأشخاص الذي تقوم عليهم الوظيفة الخدميّة في المدينة.
إنه عالم الرفاهية والسياحة والمتعة معكوساً، مروي بلسان حال الشخصيّات التي تَخدم هذه المدينة السياحيّة وليس من يُخدم بها. منظّفة الغرف، منقذ المسبح، منشّطة الرقص والرياضة الصباحيّة، منسّق الموسيقى "D.J" لحفلات الفندق، هؤلاء هم الشخصيّات التي تعمل كاميرا الفيلم على تسجيل حياتهم، شخصيات كلّما اقتربنا من حكاياتهم كلّما لمسنا مقدار الاغتراب والهوّة التي تفصلهم عن المكان الذي يعملون فيه. إضافة إلى المنظور المقلوب في رؤية هذه المدينة السياحيّة الفارهة، شرم الشيخ، فإن السنوات التي صُوّر فيها الفيلم تشكّل منعطفاً في واقع المدينة. فقد أدّت الأحداث الإرهابيّة التي شهدتها وحادثة وقوع طائرة ركاب روسيّة، إلى انخفاض معدّل السياح من 8 مليون إلى 500 ألف سائح في العام.
هذه الضائقة الاقتصادّية التي شهدتها مدينة تحوي 300 فندق، تظهر أيضاً بوضوح أمام عدسة كاميرا الفيلم. لقد تمّ الاستغناء عن عدد من الخدمات في الفنادق وبالتالي تفقد بعض شخصيات الفيلم وظيفتها، بينما تخفّض المعاشات الخاصّة بشخصيات أخرى، لذلك نلمح تحوّلاً في أحلامهم ومشاريعهم وأفكارهم. بمقدار خصوصية أحلام الشخصيات الثماني في الفيلم، بمقدار ما هي مؤشّر لواقع شريحة كبيرة من الشباب المصري والعربي، وهكذا نتابع عبر الحكايات محاولات كلّ منهم للتأقلم مع واقعه. شخصيات تتلمّس مقدار المسافة الكبيرة التي تفصلها عن أحلامها.
في اللقاء الذي تمّ مع المخرج بعد عرض الفيلم، بيّن مروان عمارة محاولته المقاربة ما أمكن، بين نوعي الفيلم التسجيلي والفيلم الروائي. يتلمّس المشاهد ذلك حين يتابع كاميرا تسجيليّة إلا أنها تصوّر لقطات قد تمّ التحضير لها من قبل صانعي الفيلم، أو يلتقط حوارات تمّ الاتفاق على الموضوعات التي يمكن التركيز عليها، كما أن اختيار المشاهد التي ستظهر في الفيلم بعد ساعات طويلة من التسجيل، وبعد عملية مونتاج، حاولت ما أمكنها خلق حكايات متسلسلة أو قصص متتابعة، زاد من شعور المتلقي بالتقارب بين أسلوب الفيلم التسجيلي والروائي، حسب إرادة صانعي الفيلم.
يقدّم الفيلم مشهديّة بصريّة أنيقة وكادرات مرتبة بعناية، يختار المونتاج لقطات عديدة تبيّن الأماكن والزوايا الجميلة في الفنادق والمنتجعات السياحيّة وكامل المدينة، وهناك العديد من اللقطات التأمّليّة التي تصوّر الأماكن الخالية، الفنادق الفارغة، الممرّات الفاقدة للحركة، ما يمنح الفيلم مسحةً من الشاعريّة المرهفة.
تريلر الفيلم: أحلام بعيدة:
اليوميات الأخيرة لثنائي انتحاري: الجزائر
يشارك المخرج الجزائري المخضرم مرزاق علواش في مهرجان أيام بيروت السينمائية 2019 بفيلمه الروائي الجديد (ريح رباني)، الذي يقارب موضوعة الفكر الجهادي، وتحديداً الانتحاري، عبر حكاية الثنائي أمين وشريكته نور
يشارك المخرج الجزائري المخضرم مرزاق علواش في المهرجان بفيلمه الروائي الجديد (ريح رباني). منذ السبعينيات يركّز مرزاق علواش في سينماه على معالجة القضايا السياسيّة والاجتماعيّة الراهنة للمغرب العربي، منها الوضع الاقتصادي في فيلم (عمر قتلاتو، 1976)، والهجرة عبر البحر إلى أوربا في فيلم (الحراقة، 2010)، ويتناول شخصية الإرهابي التائب في فيلم (التائب، 2012).
في فيلمه الحالي (ريح رباني) يعاود المخرج مقاربة موضوعة الفكر الجهادي، وتحديداً الانتحاري، عبر حكاية ثنائي، (أمين) شاب عشريني متخفٍ في الصحراء الجزائريّة، يمضي أيامه في قراءة القرآن، وانتظار حضور نور، شريكته في عمليّة هجوميّة تستهدف أحد مصافي البترول في الجزائر. وحين تصل نور إلى المكان، نجدنا أمام شخصية امرأة شديدة البأس، متشدّدة، ومتسلّطة. أحدهما لا يعرف شيئاً عن ماضي الآخر، لكن نور تتلفّظ في كوابيسها ما يلتقطه أمين، فيعرف بأنها عائدة للتوّ من سورية، حيث كانت في خدمة الدعوة والجهاديين. من هنا تأتي راهنيّة القصة، حيث نتابع حياة امرأة عائدة من الجهاد في سورية إلى الجزائر. نعرف عنها فيما بعد بأنها نور الفرنسيّة التي كانت تقطن في غرونوبل فرنسا والتحقت بالمقاتلين الجهاديين في سورية وجنّدت 12 امرأة معها.
ينشأ تقارب جسدي بين أمين ونور، ولكن الأوضاع تتأزّم حين يدركان أن العملية التي جُنِّدوا للقيام بها لم تعد عمليةً هجوميّةً بل انتحاريّة، وحين يصل إلى نور خبر موت أختها في الحرب في سورية، تزداد إصراراً على تنفيذ العمليّة، في المشهد الأخير، يعرض عليها أمين التخلّص من العملية والهروب إلى إيطاليا، تجيب نور: "هناك مكان واحد يجب الذهاب إليه الآن، وهو الجنّة". تنكشف العملية ويهرب الثنائي إلى الصحراء، وحين تصلهما الأحزمة الناسفة، وبينما تجرّب نور إحداها، يبلغ أمين ذروة التردّد والقلق، يكرّر: "لا أريد أن أموت"، بينما تتابع الكاميرا النشوة التي تشعرها نور وهي تتلمّس وترتدي الحزام الناسف. لم يعد هناك من خيار أمام أمين إلا أن يحضنها بقوة، يطرحها على الأرض، ويضغط على زرّ المفجّر لينهي حياة كليهما، بين الحب، الخوف، والهستيريا.
يستحضر فيلم (ريح رباني) جماليات الأسلوب السينمائي الخاص بتيّار (الموجة الجديدة الفرنسيّة) الذي برز في الستينيات، حيث الكاميرا الواقعيّة بالأبيض والأسود، الكادرات الثابتة التي تروي الحدث عبر أداء الممثلين، الحوارات القصيرة المتقطّعة بالصمت. تجربة بصريّة جديدة للمتلقّي أن يتابع تقنيات تيّار الموجة الفرنسيّة الجديدة التي ارتبطت بالمدن، في مناطق وعوالم الصحراء الجزائريّة. يبقى الإشارة إلى أداء الممثل (عبد اللطيف بن أحمد، أمين) و (لطيفة بنزراري، نور)، أداء أبديا فيه تفهّماً دقيقاً لرؤية المخرج السينمائيّة، وتقنين المشاعر والانفعالات لتقارب الشخصيات التي كتبت في السيناريو.
تريلر الفيلم: ريح رباني:
كرة القدم النسائية بين التشدّد والنزاع المسلّح: ليبيا
بعد فيلم (17، إخراج وداد شفقوج، 2017) الذي تناول حكاية فريق كرة القدم النسائي الأردني، يأتينا هذا العام الفيلم الليبي (حقول الحريّة) الذي تتابع فيه المخرجة نزيهة العريبي، على مدى خمس سنوات، جهود شابات ليبيات لتشكيل فريق كرة قدم نسائي، في ليبيا ما بعد الثورة، في وقت تنزلق فيه البلاد إلى حرب أهليّة ويسود العنف والتشدّد الديني. بوضوح، تسمح الموضوعة التي تتابعها المخرجة في هذا الفيلم بمعالجة موضوعتين إضافيتين: التمييز ضدّ المرأة في الثقافة الليبيّة والعربيّة، وتأثير مرحلة العنف التي تمرّ بها المنطقة على أنشطة وأحلام الشباب.
يبدأ الفيلم مع استعداد الفريق النسائي الليبي للمشاركة في بطولة لكرة القدم في ألمانيا، تتابع الكاميرا تدريبات المشاركات، حماسهن وشغفهن بتمثيل بلادهن في هذه المسابقة الدوليّة، ولخطورة الأوضاع تجري التدريبات بحماية عسكر من الجيش الليبي، إلا أن حملة من قبل مشايخ بعض الجوامع، وبياناً تصدره قوّة مسلّحة في ليبيا تدعى أنصار الشريعة، يدفع بالإتحاد الليبي لكرة القدم لإلغاء مشاركة الفريق الليبي بالمسابقة الدوليّة، وإيقاف التدريبات بما يُشبه إنهاء للفريق. بلا جدوى، تدافع اللاعبات ما أمكن عن حقهن في المشاركة، وعن طموحهن ورغبتهن باللعب، وعبر نقاشات حامية وعديدة، يظهر التمييز الممارس في حقّ المرأة في مجال الرياضة وغيرها من الأنشطة، في أحد مشاهد الفيلم تتابع اللاعبات ارتباط الجمهور الليبي وتعلّقه بالمباريات التي يخوضها منتخب كرة القدم الذكوري، ويتلمّسن الحرمان الذي يمنعهن من أن يمنحن الشعب الليبي الشعور ذاته بالنصر والفخر، بمقارنة بين ماهو مسموح للذكور وما هو ممنوع عن النساء.
يأتينا هذا العام الفيلم الليبي (حقول الحريّة) الذي تتابع فيه المخرجة نزيهة العريبي، على مدى خمس سنوات، جهود شابات ليبيات لتشكيل فريق كرة قدم نسائي، في ليبيا ما بعد الثورة، في وقت تنزلق فيه البلاد إلى حرب أهليّة ويسود العنف والتشدّد الديني
في القسم الأقسى من الفيلم نتابع حياة الشابات بعد تلاشي الآمال بمتابعة ممارسة كرة القدم، نتابع حياتهن التي تحوّلت إلى الطبخ، العناية بالأطفال، والتحلّق أمام التلفاز لمتابعة أخبار العنف والصراع المسلّح في البلاد. يخسر المجتمع مهارتهن في مجال كرة القدم ليتحوّلن إلى ربّات منزل. مصير يؤثّر بالمتلقّي الذي يعي عبر الفيلم، سبب تراجع المجتمعات العربيّة بسبب غياب وتهميش دور المرأة وقدراتها. بصيص من الأمل يحمله الثلث الأخير من الفيلم، فبعد ثلاث سنوات من توقّف التدريب، يتمكّن الفريق النسائي من المشاركة في مسابقة على مستوى كرة القدم العربيّة في لبنان، وفي نهاية الفيلم نجد أن الشابات أنشأن جمعيات مدنيّة أهليّة تعنى بتنمية النشاط الرياضي بين الفتيات.
على المستوى الإخراجي لهذا الفيلم التسجيلي، نتلمّس الجهد الكبير المبذول من قبل المخرجة في متابعة حكايات هذا العدد من الشابات، وعلى مدار يقارب الخمس سنوات. ترافق الكاميرا الشخصيات الأساسيّة في تفاصيل حياتيّة ومواقف تتعلّق بحياتهن الخاصّة في المنزل والتدريب والنقاشات الجارية بينهن، ويهتمّ الفيلم بمنح الشابات المشاركات الفرصة للتعبير عن آرائهن وردود أفعالهن، حيال ما يجري معهن وحولهن، في المحيط الاجتماعي والسياسي. يبدو الحرص الواضح في عملية المونتاج على إيجاد فيلم ديناميكي، وانتقالات كثيفة من موضع إلى آخر ومن حكاية إلى أخرى، ما يمنح الفيلم إيقاعاً ديناميكيّاً مكثّفاً، على طول دقائقه التي تقارب المائة دقيقة.
المهرّج المعزول خارج المخيم: لبنان
ترافق المخرجة سينتيا شقير في فيلمها التسجيلي (بمشي وبعد)، رحلة يقوم بها أعضاء من منظمة (مهرّجون لا حدود) إلى جزية ليسبوس اليونانيّة، في محاولتهم لتقديم العروض الترفيهيّة وأنشطة الدعم النفسي لعائلات اللاجئين وأطفالهم، الذين يصلون إلى شواطئ الجزيرة في رحلة لجوء عبر البحر، يخاطرون فيها بأرواحهم ويفقدون ممتلكاتهم.
لكن الحال تبدّلت عن الرحلة الأولى التي قام بها أفراد هذا الفريق من المهرجين في العام 2015، حيث كان يسمح لهم بالتواجد بقرب اللاجئين وتقدم العروض لهم بحرية، أما الآن، 2018، فقد تحوّلت الجزيرة إلى مخيمٍ كبيرٍ يحظر فيه على اللاجئين الخروج من الأماكن المخصّصة لهم، والمعزولة بالحراسة والأسيجة الإسمنتيّة.
عن الأفلام التي شاركت بها سوريا ومصر وليبيا والجزائر ولبنان في مهرجان أيام بيروت السينمائيّة 2019
لقد تغيّرت الحال وأصبحت السلطات تعثر على قوارب اللاجئين في عرض البحر، وتقودهم إلى مخيمات اللجوء هذه، حيث نتابع محاولات أفراد منظمة (مهرّجون بلا حدود) للحصول على الموافقات الرسميّة اللازمة للدخول إلى المخيمات، وتقديم العرض للعائلات والأطفال، لكن كل ذلك دون جدوى، يتحوّل الفيلم إلى رواية الحكايات الذاتيّة للشخصيات الحاضرة، وتدور النقاشات حول دور العروض الضاحكة وأداء المهرّجين على حال العائلات اللاجئة، وتفتح الكاميرا المساحة لكل شخصية مشاركة في فرقة المهرّجين، للحديث عن نفسها، ينتقل الفيلم إذن، من معالجة قضية عامّة إلى الحكايات الشخصية والذاتية الحميمة للمشاركين في الرحلة إلى الجزيرة اليونانيّة.
تريلر الفيلم: بمشي وبعد:
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون