شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
قصة البشرية مع الحليب والجدل الذي لا ينتهي: سمّ قاتل أم سرّ وجود الكون وتطور البشرية؟

قصة البشرية مع الحليب والجدل الذي لا ينتهي: سمّ قاتل أم سرّ وجود الكون وتطور البشرية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 26 مارس 201904:08 م

قصة البشرية مع الحليب والجدل الذي لا ينتهي: سمّ قاتل أم سرّ وجود الكون وتطور البشرية؟

استمع-ـي إلى المقال هنا

في مايو 1858، نشرت صحيفة "فرانك ليزلي" المصوّرة مقالاً فاضحاً تتناول فيه موضوعاً لطالما اعتُبر بريئاً وحميداً: الحليب.

أطلقت الصحيفة على مجموعةٍ من معامل التقطير في بروكلين ونيويورك اسم "قتلة الحليب"، بعد أن قامت هذه المصانع بتوزيع "السمّ السائل" إلى الجماهير، وقد جاء في التقرير:"بالنسبة إلى القتلة في منتصف الليل، لدينا الحبل والمشانق، وبالنسبة للسارقين لدينا السجن، ولكن بالنسبة لأولئك الذين يقتلون أطفالنا ليس لدينا أي استنكارٍ أو عقابٍ"، وأضاف التقرير:" إنهم ليسوا اشراراً فوق القانون، بل تجار مرخص لهم، وبالرغم من أنهم يتاجرون حرفياً في الحياة البشرية، إلا أن الحكومة تبدو عاجزة أو غير راغبة في التدخل".

في هذا الصدد أوضح موقع Smithsonian أنه من أجل زيادة أرباحها، قامت بعض الشركات ببيع "swill milk" الذي يأتي من حليب الأبقار المغذاة من بقايا حبوب التقطير، والتي عاشت في الاسطبلات وسط ظروفٍ بائسةٍ: معظم هذه الأبقار بقيت على قيد الحياة لبضعة أشهر وأنتجت حليباً فاسداً وذا لون أزرق، وبهدف اخفاء لونه المروّع، أضافت المعامل البيض، والطحين، والماء، والدبس وغيرها من المواد، ومن ثم قام المزارعون بشراء هذا "الخليط السام" وبيعه على أساس أنه "حليب نقي"، الأمر الذي أودى بحياة آلاف الأطفال بعد شربه.

غير أن هذه "الفضحية" ما هي إلا مجرد فصل واحد من فصول الجدل الدائر حول تاريخ البشرية مع الحليب.


علاقة البشرية بحليب الحيوان

لا شك أن الحليب يضم أهم العناصر الغذائية التي يحتاجها الجسم، فهذا السائل الأبيض المتعارف عليها عالمياً، هو مكوّن رئيسي يرافق وجبات الفطور على أنواعها وموائد الناس خاصة عند الصباح الباكر.

وفي حين أن البعض يحب مذاق الحليب الأصلي ويفضل أن يكون "سادة" من دون اي إضافات، فإن البعض الآخر "يتفنن" في إضافة بعض النكهات عليه: العسل، الشوكولا، الشاي، القهوة....

وبمعزل عن محاولات "طمس" النكهة الأصلية، فإن فكرة اقدام البشر على تناول الحليب الحيواني تبدو غريبة نوعاً ما، فالحليب هو في نهاية المطاف عبارة عن سائل تصنعه البقرة أو بعض الحيوانات الأخرى لإطعام صغارها، وقد اعتاد الناس على استخراجه من أجسام هذه الحيوانات لتلبية حاجاتهم الغذائية.

واللافت أن علاقة البشرية بحليب الحيوان تعود إلى آلاف السنين، وقد شهت الكثير من التقلبات، وفي حين أن "بدائل الحليب" المصنوعة من بعض النباتات مثل الصويا أو اللوز، باتت تحظى في الآونة الأخيرة بشعبيةٍ متزايدةٍ نظراً لكونها صديقة للنباتيين ويمكن أن تكون مناسبة للاشخاص الذين لديهم حساسية تجاه الحليب العادي، فإن البشرية لا تزال مهتمة بالحليب "الصافي" المستخرج من الحيوانات.


الحليب هو في نهاية المطاف عبارة عن سائل تصنعه البقرة أو بعض الحيوانات الأخرى لإطعام صغارها

فكيف كانت الشعوب القديمة تنظر إلى الحليب؟

قبل حوالي 10 آلاف سنة، بالكاد كان البشر يشربون الحليب في المناسبات النادرة، ويقتصر الإستهلاك بشكلٍ خاص على فئة المزارعين الأوائل والرعاة في أوروبا الغربية، إلا أن بعض الحضارات القديمة قد عززت فكرة استهلاك الحليب، الذي اعتبر رمزاً حيوياً في أساطير السومريين والإغريق والمصريين.

ففي مصر القديمة مثلاً كان الحليب ومشتقاته مخصصاً فقط للملوك والكهنة والأثرياء، وكان معروفاً بفوائده الصحية وخصائصه الجمالية، فمن أجل الحفاظ على حيوية وجمال بشرتها، يُقال أن ملكة مصر الفرعونية "كليوبترا" كانت تستحم دوماً بحليب الحمير، مع العلم أن حمامها اليومي كان يتطلب حليب قطيع مؤلف من حوالي 700 حمار.

في سياقٍ متصل، ربطت بعض الشعوب الحليب بتشكيل الكون، فقد اعتبر الشعب الفولاني في غرب أفريقيا أن العالم قد بدأ بنقطةٍ واحدةٍ من الحليب، وفي الأسطورة الاسكندينافية يُقال إن البقرة حافظت على العالم في الأيام الأولى.


كان حمام كليوبترا اليومي يتطلب حليب قطيع مؤلف من حوالي 700 حمار

وتم ادراج الحليب في قصص نشوء الكون، ولعلّ مجرتنا درب التبانة (Milky Way) التي تعني "الطريق اللبني"، هي خير دليلٍ على ذلك، اذ تتحدث الأسطورة الإغريقية أن "هرقل" وهو نصف إله ونصف انسان، كان نائماً في حضن الإلهة "هيرا" يرضع من ثديها، وعندما استيقظت مذعورة رمت بطفلها بعيداً عنها، فتدفق حليبها ليكوّن "درب التبانة".

تطور العلاقة مع السائل الأبيض

اعتبر موقع "بي بي سي" أن هناك سبباً بيولوجياً يجعل من شرب الحليب الحيواني أمراً غريباً.

ففي الواقع، يحتوي الحليب على نوع من السكر يسمّى "اللاكتوز"، وهو يختلف عن السكر الموجود في الفاكهة وغيرها من الحلويات.

وفي مرحلة الطفولة، تفرز أجسامنا أنزيماً خاصاً يعرف ب"لاكتاز" الذي يسمح بهضم اللاكتوز في حليب الأم، ولكن الفطام في سنٍّ مبكرة يوقف انتاج اللاكتاز، ومن دونه يصبح من الصعب هضم اللاكتوز الموجود في الحليب العادي، وعليه عندما يقوم الشخص البالغ بشرب الكثير من الحليب قد يعاني من انتفاخ البطن والتشنجات المؤلمة وحتى الاسهال.

ولكن هذا الوضع لم يبق على حاله إذ حدث التطور في الجينات البشرية: من خلال التغيّر في قسمٍ موجود في الحمض النووي يتحكم في نشاط جين اللاكتاز، نجح الناس في ابقاء انزيمات اللاكتاز نشطة خلال مرحلة البلوغ، مما سمح لهم بشرب الحليب من دون آثارٍ جانبيةٍ، وهو أمر ميّزهم عن سائر الثدييات.

واللافت أن ابقاء عمل أنزيمات اللاكتاز يختلف بحسب الشعوب والسكان، وفي هذا الصدد شرح استاذ علم الوراثة "دالاس سوالو" أن الاشخاص الذين يملكون هذه السمة كانوا في الغالب الرعاة الذين يربون الماشية، في حين أن الصيادين لم يطوروا هذه الميزة.

اعتبر الشعب الفولاني في غرب أفريقيا أن العالم قد بدأ بنقطةٍ واحدةٍ من الحليب

وعليه من المنطقي القول إن الأشخاص الذين لم يكن باستطاعتهم الحصول على حليبٍ حيواني لم يجدوا أنفسهم تحت ضغطٍ تطوري كبير للتكيّف مع طريقة شربه.

ولكن في حال سلّمنا جدلاً في هذه النظرية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا اكتسب بعض الرعاة ميزة تحمل اللاكتوز دون سواهم؟

قد يكون السبب ببساطة هو سوء الحظ، إذ تتحدث "سيغورال" عن الشعوب التي تعيش على الرعي في شرق آسيا، مثل تلك الموجودة في مانغوليا، والتي لديها أدنى معدلات تحمل اللاكتوز رغم أنها تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على الحليب الحيواني، وفي حين أن التغيير الوراثي كان شائعاً بين السكان في أوروبا وغرب آسيا، فإنه كان من المحتمل أن يشمل مجموعات شرق آسيا، إلا أن هذا الأمر لم يحصل:" وهذا هو اللغز الكبير"، كما تصفه "لور سيغورال".

الحليب الحيواني في تراجع؟

على مدى السنوات القليلة الماضية، انتشر العديد من الأخبار التي تتحدث عن تراجع استهلاك الحليب الحيواني بعد مزاعم تفيد بأن الناس قد قرروا التّخلي عنه.

ففي نوفمبر 2018، نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية، قصةً بعنوان:" كيف تخلّينا عن حبنا للحليب"، شارحةً من خلاله بروز ظاهرة الشركات التي تبيع بديل الحليب (حليب الشوفان وحليب اللوز...)، وتسوّق له تحت شعار:" الحليب المُعدّ للبشر"، الأمر الذي يجعل الحليب العادي يواجه معركة ضارية من أجل الصمود، خاصة أن حوالي ثلث الكوكب لديه قدرة منخفضة على هضم اللاكتوز بعد الطفولة، هذا بالإضافة إلى هاجس الشباب وقلقهم تجاه تغيّر المناخ، ورفاهية الحيوان وعملية انتاج الغذاء تحت مظلة أخلاقية.

وفي حين أن "مارك كورلنسكي"، صاحب كتاب Milk!: A 10,000-Year Food Fracas  يعتبر أن العديد من البالغين يشربون الحليب من باب "التحدي لقاعدةٍ أساسيةٍ موجودة في الطبيعة"، فإن الإحصاءات تروي قصصاً أخرى مختلفة تماماً: فبحسب تقريرٍ صادرٍ في العام 2018 عن شبكة IFCN، اتّضح أن انتاج الحليب العالمي يرتفع باستمرارٍ منذ العام 1998، وذلك من باب الاستجابة للطلب المتزايد على هذا المنتج.

واللافت أنه في العام 2017، تم انتاج 864 مليون طن من الحليب في جميع أنحاء العالم، مما يعني غياب اي علامة على التباطؤ، خاصة أن IFCN تتوقع ارتفاع الطلب على الحليب بنسبة 35% بحلول العام 2030.

وعليه يمكن القول إن قصة البشرية مع الحليب لا تزال تثير الكثير من الجدل والأقاويل، إذ لا يزال الناس يتقاتلون على هذا السائل الأبيض لأنه من أهم الركائز في تاريخ البشرية، والواضح أن ارقام المبيعات تؤكد أن استهلاك الحليب الحيواني ليس في تراجعٍ، حتى لو توقفت أجسادنا عن التطور.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image