أمام كتابٍ لا أعرف محتواه، وكاتبٍ مجهول بالنسبة لي، وأمام كمٍّ كبير من الكتب التي تصدر كل يوم، فإن نقطة الجذب الأقوى لي كي أختار كتاباً لأشتريه تصبح الغلاف.
اليوم، هناك اهتمام متزايد من قبل الناشرين العرب بأغلفة كتبهم، خاصة مع تطور الطباعة والثورة التي أحدثتها برامج التصميم. وفي سوق الكتاب نرى الكثير من الأنماط في التفكير بكيف يجب أن يكون شكل الكتاب، بعضها ينجح في اجتذابنا وبعضها الآخر لا يفعل.
اليوم، هناك اهتمام متزايد من قبل الناشرين العرب بأغلفة كتبهم، خاصة مع تطور الطباعة والثورة التي أحدثتها برامج التصميم. وفي سوق الكتاب نرى الكثير من الأنماط في التفكير بكيف يجب أن يكون شكل الكتاب، بعضها ينجح في اجتذابنا وبعضها الآخر لا يفعل.
كان لدي أسئلة كثيرة حول "غلاف الكتاب". حملت أسئلتي تلك وذهبت إلى "الزاوية" حيث تعمل "نجاح طاهر"، الفنانة ومصممة الأغلفة اللبنانية، لأفهم أكثر عن فلسفتها في العمل، وعن سر تميّز أغلفتها، وعن رؤيتها للعلاقة بين النص المكتوب والصورة المرئية، فكان هذا الحوار.
من يقرأ الكتب التي صممت أغلفتها يدرك فوراً أن الغلاف نابعٌ من روح النص، أنه نتيجة قراءة متأنية وحوار عميق بينك وبينه. حدثيني بداية عن علاقتك بالكتاب وبالقراءة بشكل عام، وكيف بدأت عملك في تصميم الأغلفة.
في طفولتي عشت في بيت متزمت، حيث كان الخروج من هذا البيت له مئة حساب، كان الكتاب هو وسيلتي كي أطير خارج الجدران، خلاصي، وحريتي، والنافذة التي يمكن لي رسمها كي أخرج وأعرف وأتعلم. في ذلك الوقت اكتشفت ما الذي يمكن أن يفعله الكتاب في حياتك. إنه بمعنى ما يمكن أن ينقذك من الموت والاختناق.
عملت بعد تخرجي من الجامعة في دار نشر، وكنت مسؤولة عن صناعة الكتاب، تنسيقه الداخلي والخارجي، حينها شعرت أن الغلاف يمنحني مساحة أكبر، وأن بإمكاني التعبير من خلاله عن الفن والتوق الذي بداخلي، هكذا بدأت وواجهتني مصاعب وتحديات، لكن دوماً ما كان يغريني بالمتابعة أنني أقدّم فناً، لا ليوضع في متحف أو صالة عرض، بل ليكون دائماً بين الناس ويعيش معهم وبهم. ولهذا أسعد بتفاعل الناس مع عملي، سواء أكان التفاعل إيجابياً أم سلبياً.
أحب أن يمنح الناس عملي وقتاً ليروه، ليتحاوروا معه ثم يقولوا رأيهم، وأحب وجود الرأيين، هناك من تستفزه تصاميم أغلفتي وتوتّره وهناك من يرى أنها تفتح له عوالم من الجمال والمعاني.
حديثك عن رأي الناس، يدفعني إلى نقطةٍ أساسية، لاحظتها مؤخراً، وأرى أنها ظاهرة خطيرة. بعض دور النشر تتوجه إلى أغلفة سطحية، مبتذلة، تعتمد على العنوان وحده لتصميم الغلاف، محوّلةً الكتاب الذي هو في الأساس مصدر المعرفة، ومثير التفكير، ومفتاح التساؤل، إلى منتج استهلاكي مفرّغ من أي قدرة على الفعل.
هذا يعتمد على مرجعية المصمم، أي الأرضية الفكرية والنفسية والجمالية التي ينطلق منها. فكرت في الأيام الماضية بمرجعية هذا النوع من الأغلفة المباشرة التي تتكلم عنها، فلم أجد إلا قوائم مطاعم الوجبات السريعة، حيث تضع لك هنا كلمة "هامبرغر" وأمامها صورة للهامبرغر، كي لا تضيع أو تحتار. مفهوم واحد معنى واحد. لا وجود لأي دلالة أخرى، وأنت كمتلقي لا يمكنك أن تتوه، هناك من يخبرك أن هذه هامبرغر، ولا يمكن لها أن تكون إلا هامبرغر، لذلك لا تفكر ولا تتعب نفسك، هناك من فكر عنك ويعطيك الجواب جاهزاً والوجبة السريعة جاهزة.
شخصياً، مرجعيتي مختلفة، أعود لإرث بدأ مع أغلفة الكتب المقدسة، ومع أغلفة الكتب المهمة ذات القيمة، ولذلك فإن غلافها كان يجب أن يكون له قيمة. الكتاب ليس سلعة للبيع فقط، بل هو كيان له قيمة ودلالات وحمّال أوجه.
كان في فترة من الفترات في الولايات المتحدة كتب أُطلق عليها اسم "روايات الفلس Dime novels"، كانت رائجة في محطات القطارات، يشتري الشخص الكتاب ليقرأه في القطار ثم يرميه مع انتهاء الرحلة. ولذلك كان غلافه صورة لامرأة مثيرة مثلاً، تغري الشخص بشراء الكتاب، والقارئ والمصمم يعلمان أن الكتاب سيرمى في محطة وصول القطار.
أحاول أن أرى الكتاب كمنتج له قيمة. هو منتج اقرؤه وأحتفظ به. الكتاب القيّم له أبعاد وطبقات متعددة من الفهم، ويحتاج مني أن أعود إليه مرات عديدة، إنه ليس منتجاً لاستعمال واحد، يخبرني بأمرٍ ما، معلومة ما، ثم أرميه عند انتهاء الرحلة.
أعتقد أن هذه هي نقطة الخلاف الجوهرية بين هذين النوعين من الأغلفة، وهي مسألة لا تشير إلى نمطٍ من التفكير فحسب، بل تشير إلى نمط في الحياة وفي الموقف السياسي والاجتماعي والنفسي، أيضاً هي سلم من القيم والرؤى المختلفة للحياة.
هذه نقطة جميلة... الغلاف يمكن أن يعكس نمطاً في الحياة، وفي نظرة المرء للحياة. أحب أن نتوسع أكثر هنا، كي أفهم منك بدقة ما تقصدين. وأرغب أيضاً بمعرفة ما هو مفهومك للفن؟
سُئل شخص: ما هي الحرية؟ فأجاب: الحرية هي أن يكون لديك خيارات، لا خياراً واحداً فقط، وأن تختار واحداً من هذه الخيارات.
وإذا كنت شخصاً تؤمن بالحرية، وتؤمن أنها واحدة من القيم التي تدافع عنها، فيجب أن تقدّم في عملك دائماً خيارات للآخرين. في الغلاف أحرص أن أفتح كل الاحتمالات للمتلقي. أن لا أضع كرسياً على غلاف كتاب اسمه "الكرسي". الحياة مليئة بالأشياء المتناقضة والمتعددة، والفن كذلك أيضاً، الفن يفتح للإنسان باب التساؤل، باب التفكير، ولا يجب أن يمنعه من التفكير. لذلك أرى أنه يجب أن أفتح باب الاحتمالات لأني أؤمن بأنك حر، وأنا مؤمنة بحريتك، وعليّ احتراماً لذلك أن أمنحك حرية أن ترى الغلاف بطرق مختلفة، أن تفسره على عدة طبقات، بإمكانك أن تراه غلافاً برسمٍ جميل مثلاً فقط، وبإمكانك أن ترى فيه ما هو أبعد مما هو ظاهر.
أما عن مفهومي للفن، فلا أملك إجابة عن هذا، ولكني أعتقد أنه يحمل موقف الفنان من الحياة، ونظرته لها، وأنه حيرة، بحث، لعب، تساؤل، احتمالات... سؤال وليس جواباً. لأن الفن حين يدّعي أنه يحمل إجابات يكون فناً فاشياً، سلطوياً، شمولياً. الجواب هو نقطة في آخر السطر. هو نهاية. هو موت. أما السؤال فهو حياة.
كيف تعملين تقنياً على غلاف الكتاب؟ وما هي بنظرك العلاقة بين النص المكتوب والصورة المرئية التي ستعبّر عنه؟
لا يوجد طريقة واحدة للعمل، أقرأ الكتاب أولاً، ثم بحسب جوّ الكتاب أفكر كيف سأعمل عليه. ليس لدي أي قرارات مسبقة. يمكن أن أستعمل أي نوع من الألوان، يمكن أن أرسم بالفحم، بالماء، بالرصاص، بالباستيل، يمكن أ أستعمل عدة أنواع من الورق، يمكن أن أستعمل الصور، يمكن أن أستعين بمحرك البحث (Google)، يمكن أن أستخدم الجرافيتي....
مقتربي لصناعة الغلاف أن كل شيء مفتوح على الاحتمالات، وكل غلاف أصممه كأنه أول غلاف، متعتي بتصميم الغلاف هو في المغامرة التي يحملها، هل سأوفق في العثور على مفرداته أم لا، هل سأجد حلولاً لما سيواجهني أم لا...
النص المكتوب هو لغة، والصورة المرئية لغة ثانية. ولأنتقل من هذه اللغة إلى الأخرى أعمل على التأويل لا على الترجمة، أنا أقدم صورة موازية للنص، لا ترجمةً حرفية له. وبالتأكيد فإن هذا التأويل هو تأويلي الشخصي بعد قراءة النص، وأحرص في كل غلاف أن يكون تأويلي هذا مفتوحاً، أن يكون تساؤلاً عن النص. وهنا يمكن أن أضيف أن كل غلاف ليس مغامرة فحسب، بل هو أيضاً محاولة. محاولة في فهم النص وتأويله. أحب أن أجرّب وأبحث دائماً، لذلك هناك أغلفة صممتها وهي مفاجئة، وهناك أغلفة غير مكتملة. هذه ضريبة التجريب والمغامرة. أعتقد أنني حين أفقد هذه المتعة في المغامرة والمحاولة سأتوقف عن تصميم الأغلفة.
أيضاً، المتابع للروايات التي تكون أغلفتها من تصميمك يلاحظ مباشرة أن المكان حاضر بقوة فيها.
صحيح، يهمني من أين أتى هذا النص، من أي بلد، ومن أي بيئة، ومن أي لسان. بعد قراءة النص أجري بحثاً عن المكان الذي يدور فيه، كي يكون عندي تصوّر ما عنه، ما هي الفنون الشعبية الموجودة في هذه البيئة: التطريز، الخزف، الصناعات اليدوية مثلاً، وحتى الفنون الأخرى كالرسم والنحت. أبحث عن صور للشوارع وللناس. أحاول العودة إلى الزمان الذي تجري فيه الأحداث، فأحاول رؤية صور تعود لهذا الزمن، وأجرّب أن أقوم بتأويلي الخاص، الذي ينجح مرات ويفشل مرات كما سبق أن قلت.
أجرّب أن أحيط بالمناخ العام للكتاب، ومن هنا تأتي الألوان التي استعملها، والمواد التي أقرر الاستفادة منها.
هل ترين أن أغلفتك تشكّل قطيعة مع الطريقة التي كان يُنظر إلى تصميم الغلاف من خلالها سابقاً في العالم العربي؟ وهل أنت مع الموجات التي تحاول تقليد الغرب في طريقة صنع الغلاف؟
أنا لست مع البتر مع الماضي، ولا أخجل منه. عملي مهم في سياقه. كل شيء متصل بطريقة أو بأخرى مع بعضه، سواء سلباً أم إيجاباً. وهذا له علاقة بالمرجعية التي بدأنا حديثنا بها. أين مرجعية كل مصمم أغلفة؟ هل مرجعيته جمال قطب مثلاً، ومحيي الدين اللباد الذي أدخل نوعاً جديداً على صناعة الغلاف في العالم العربي، أم أن مرجعيته هي أغلفة دار غاليمار الفرنسية التي تعتمد الغلاف البسيط ذا اللون الواحد، أم أن مرجعيته هي أغلفة "روايات الفلس" التي فيها نظرة استهلاكية.
"لست من المؤمنين بالقطيعة مع الماضي، فالإنسان يحمل ذاكرته الفردية، والجماعية أيضاً. وذاكرتنا الجماعية تختزن علاقتنا بالألوان، بالشمس، بالأزياء، بالفنون الحرفية: السجاد والأواني... وخصوصيتها" من حوار مع نجاح طاهر
مرجعيتي هي المكان الذي كوّنني، أحاول أن أطلع على المرجعيات الأخرى، وكل شخص هو مزيج من ماضيه وحاضره، لست من المؤمنين بالقطيعة مع الماضي، فالإنسان يحمل ذاكرته الفردية، والجماعية أيضاً كما قال "كارل يونغ". وذاكرتنا الجماعية تختزن علاقتنا بالألوان، بالشمس، بالأزياء، بالفنون الحرفية: السجاد والأواني... وخصوصيتها. انظر مثلاً إلى ثياب الفلاحات في بلاد الشمس ومقابلها ثياب الفلاحات في البلاد الملبدة بالغيم معظم أيام السنة.
هذا سؤال فضّلت أن أتركه للنهاية، وهو عن بصمة الفنان الخاصة. حين يرى القارئ غلافاً لك يدرك مباشرة أنه من تصميم "نجاح طاهر"، دون أن يكون مضطراً للبحث عن ذلك في صفحة معلومات الكتاب. ما هي بصمة الفنان؟ كيف يمكن أن يكون للفنان بصمته الخاصة؟ وهل هذا ممكن أم أننا نتاج تداخل بصمات عديدة؟
هذا سؤال مهم، ولكنه يحتاج بحثاً قبل الإجابة عنه. ولكن، دعني أسأل: متى يصبح لدى الفنان أسلوبه الخاص؟ ليس حين يبدأ العمل، ولكن حين تزداد تجاربه في الفن. حين يهضم المنجز الذي أتى قبله ويستطيع الإضافة عليه. بيكاسو مثلاً كان ملمّاً بالرسم الكلاسيكي وبتاريخ الرسم، ثم بالحداثية. وهو استوعب كل ذلك، ثم خلق منه أسلوبه الخاص، وقد جرّب كثيراً قبل أن يصل. قيل له ذات مرة: "هناك كثرٌ يزوّرون شغلك"، فأجابه: "هناك كثيرٌ من شغلي مزوّر".
أعتقد أن بيكاسو نجح لأن لشغله منطق خاص به، فأنت ترى لوحة فيها امرأة بثلاث عيون، فتقبلها ولا تحسها غير مفهومة، كما تقتنع مثلاً حين تقرأ في الواقعية السحرية أن هناك فتاة طارت. السبب ليس أن ما يرسمه هذا ويكتبه ذاك مقنع بحد ذاته، ولكن لأنه مقنع ضمن منطق العمل نفسه.
أسلوب الفنان، قدرته على استيعاب وهضم ما قبله، وما حوله، والإضافة عليه من خصوصيته. ثمة شيء آخر، يمكن إضافته في الحديث عن البصمة، وهو أني فنانة،
ولست تقنية، لذلك فإنه في كل غلاف ومهما حاولت المراوغة لا بدّ أن تظهر خصوصيتي سواء أوعيت ذلك أم لا. ربما تنعكس المرحلة التي أعيشها على تصميمي، ربما تفلت مني أشياء دون أن أدرك وتظهر، لست متلقية أقرأ النص وأخرج منه تصميماً دون أن يتفاعل في داخلي. أنا حتماً موجودة في كل ما أصممه وأرسمه.
صديقة لي، وهي فنانة، قالت لي إن في رسمي للأميرة في كتاب أندرسن "الأميرة وحبة البازلاء" قد جعلت من هذه الأميرة تبدو وكأنها "فيفي عبده". لم أجب لكني ابتسمت بسعادة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا