في سوق "الشيخ سعد" التقليدي بمنطقة المِزّة غرب العاصمة السورية دمشق، يقف أبو حسّان إلى جانب عربته التي يبيع عليها "الفول النابت"، واحدة من أكثر الأكلات شعبية في سوريا خلال فصل الشتاء، ولا يشعر بأيّ رغبة في المناداة على بضاعته، أو حتى الحديث مع الزبائن.
يدنو شاب عشريني من العربة، ويتجاذب أطراف الحديث مع أبو حسان طالباً صحناً من الفول، وسائلاً إياه عن السعر اليوم، وإن كان قد ارتفع عن الأسبوع السابق بسبب أزمة الغاز.
"كالعادة، 250 ليرة (نصف دولار أمريكي)، وكيف لي أن أرفع السعر ومعظم زبائني من الفقراء والبسطاء؟"، يقول الرجل الخمسيني وفي صوته غصّة.
"والله فكرت أنك ممكن ترفع السعر علينا، على كل الأحوال يعطيك العافية"، يُجيب الشاب ضاحكاً، ويُكمل باستمتاع صحنه الدافئ المكوّن من الفول المسلوق مع البهارات والكمون، ويذهب.
لا يجد أبو حسان مناصاً من التنهّد، وعندما نقترب لنسأله عن أحواله خلال أزمة الغاز والمحروقات التي تعصف بسوريا منذ شهرين تقريباً، يبدأ بالحديث عن معاناة مستمرة، ولا يبدو بأنها ستنتهي خلال فترة قريبة.
"أحتاج جرّة غاز كل ثلاثة أيام إن كنت أريد الاستمرار بالوتيرة المعتادة، ويعني ذلك أحد أمرين بالنسبة لي: إما أن أعطّل عملي يوماً كاملاً كلما أردت الحصول على جرّة جديدة كي أقف في طوابير الانتظار التي تمتد لساعات طويلة، وإما أن أحصل عليها بسعر مضاعف في السوق السوداء، وبالتالي أُخفض بشكل كبير من أرباحي، وهي متواضعة أساساً"، يقول الرجل شارحاً جزءاً من تلك المعاناة لرصيف22.
"أحتاج جرّة غاز كل ثلاثة أيام إن كنت أريد الاستمرار بالوتيرة المعتادة، ويعني ذلك أحد أمرين بالنسبة لي: إما أن أعطّل عملي، وإما أن أحصل عليها بسعر مضاعف في السوق السوداء".يرفض أبو حسان حتى اليوم رفع سعر صحن الفول ليرة واحدة، ويرى أنّ معاناته هي جزء مما يعيشه السوريون اليوم، وحتى منذ بداية سنوات الحرب. "لم أعد أجني أية أرباح، لكن على مين بدي أرفع السعر؟ على النجار أو عامل البناء أو الحداد؟ إذا ببيعهم بدون مصاري ما بيقولوا لا لأنهم فقراء متلي. الله بيعين".
لكنه يخشى من أنّ القادم أسوأ، فهو اليوم بالكاد يتدبر قوت عائلته المكونة من ستة أفراد، وإن استمر الوضع على حاله، يعتقد بأنه سيتوقف عن الخروج، وفتح العربة، والبيع إلى حين تمكنه من تأمين الغاز بسعر معقول ودون الاضطرار للانتظار، يقول أبو حسان: "أحاول جاهداً ألّا أصل لتلك المرحلة، لكن ما باليد حيلة"، يضيف الرجل بحزن.
الحكومة تبرّر أزمة أسعار المحروقات
بدأت الأزمة تقريباً مطلع ديسمبر الماضي مع نقص تدريجي في مادة الغاز، والتي تعتمد عليها معظم العائلات السورية لأغراض الطبخ، وكذلك الكثير من المطاعم، والفنادق، والمحال الخدمية، وأيضاً أصحاب المهن الصغيرة كعربات الفول النابت، والذرة المسلوقة، والبطاطا المشوية.وتزامن ذلك مع انخفاض درجات الحرارة بشكل كبير، حيث تعيش البلاد فصل شتاء بارد لم تشهد له مثيلاً منذ سنوات طويلة، ودفع ذلك بكثير من العائلات للاعتماد مجدداً على مدافئ الغاز المنزلية لسببين أساسيين: الأول زيادة ساعات تقنين التيار الكهربائي لتبلغ في بعض المناطق أكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً، وبالتالي عدم إمكانية الاعتماد على الكهرباء للتدفئة. والثاني ارتفاع سعر مادة المازوت، التي كانت مصدر الدفء لكثيرين، إذ لا يكاد يخلو منزل سوري من مدفأة تعمل على المازوت مهما صغر حجمها. يمكن اليوم لكل عائلة الحصول على 400 ليتر من المازوت سنوياً بسعر مدعوم حكومياً، ويبلغ 200 ليرة سورية (40 سنتاً أمريكياً) لليتر الواحد، وعليها شراء أي كميات إضافية بسعر قد يصل حتى 400 ليرة لليتر. وهي أسعار مرتفعة بشكل عام لمعظم الأسر السورية التي لا يزيد متوسط دخلها شهرياً عن 150 دولاراً أمريكياً، والتي يعيش حوالي 80 بالمئة منها تحت خط الفقر، وفق إحصائيات الأمم المتحدة.
بذلك ارتفع الطلب بشكل كبير على أسطوانات الغاز خلال الأسابيع الفائتة، ولم يعد من السهل الحصول عليها كما في السابق. اليوم يضطر الكثير للانتظار منذ ساعات الصباح الباكر على طوابير توزيع الغاز في المراكز المخصصة؛ أملاً بالحصول على أسطوانة بالسعر النظامي (حوالي 5 دولارات)، في حين يدفع آخرون مبالغ أكبر تصل حتى عشرين دولاراً لتجنب الانتظار، ويعني ذلك حركة نشطة للسوق السوداء التي تزدهر مع كل أزمة تعيشها البلاد.
وتعزو التصريحات الحكومية استمرار وتفاقم هذه الأزمة لعدة أسباب، فسوريا تحتاج لاستيراد 70-80 بالمئة من حاجتها من مادة الغاز الخام، التي يزيد الطلب عليها في فصل الشتاء بشكل خاص، ويعيق الحصار العقوبات المفروضة على البلاد والتي ازدادت وطأتها في الأشهر وصول ناقلات الغاز، ويُرفض السماح لها بدخول المياه الإقليمية السورية، ويصعّب ذلك أيضاً من تنفيذ بعض عقود توريد مادة الغاز المنزلي السائل وأسطوانات الغاز الصالحة للتعبئة والاستخدام والتي تعاني البلاد كذلك من نقص كبير فيها، كما أن بعض حقول الغاز المحلية وسط وشرق البلاد لا زالت قيد التأهيل قبل أن تعود صالحة للعمل والإنتاج المحلي.
أما الزيادة في ساعات تقنين التيار الكهربائي فلها عدة أسباب أيضاً حسب التصريحات الرسمية، منها ارتفاع الطلب على الطاقة في فصل الشتاء، وازدياد أعداد السوريين المستفيدين منها خلال العام الأخير، بالإضافة إلى استعادة الحكومة السورية السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد، وأيضاً عودة أعداد من اللاجئين من البلدان المجاورة، علاوة على استمرار العمل على صيانة محطات توليد الكهرباء المتضررة بسبب الحرب والمعارك.
التصريحات الرسمية في الحالتين لا تستثني حدوث "ممارسات سيئة" تزيد من وطأة الأزمة، ومنها حالات احتكار لأسطوانات الغاز وعدم عدالة في توزيعها، وحالات سرقة واستجرار غير مشروع للكهرباء.
"لن أغلق المحل، واعتدنا على الأزمات"
إلى جوار عربة أبو حسان للفول النابت، يعمل محمود في محل صغير لبيع الحمص والفول والفتّات، وهي كذلك من الأطعمة الشعبية الرخيصة في سوريا، والتي تعتمد أيضاً على مادة الغاز لتحضيرها.يجلس محمود في محله بانتظار دخول بعض الزبائن، ويتحدث عن حركة بيع قليلة بسبب الأوضاع المادية المتردية لمعظم السوريين.
"إضافة للمأكولات، كنت أعتمد بشكل كبير على بيع أكياس الفول التي تُسلق في المنزل لتحضير الفول النابت، وكنت يومياً أبيع ما يقارب عشرين كيساً، لكن مع فقدان الغاز من المنازل لا تتجاوز مبيعاتي اليوم كيسين أو ثلاثة"، يشرح الرجل الأربعيني ويضيف: "لن أرفع الأسعار، ولن أغلق، اعتدنا الأزمات في هذا البلد، وصارت حياتنا عبارة عن سلسلة من الأزمات والانتظار، ثم الانفراجات".
وفي حي الزهراء بمدينة حمص وسط البلاد، يجد غدير مشكلة كبيرة في تأمين حاجة محله من أسطوانات الغاز، والتي تعتبر ضرورية لتشغيل أفران صنع المعجنات.
مع تفاقم أزمة الغاز في المدينة، اضطر غدير ووالده لإغلاق المحل لمدة أسبوع تقريباً، ثم قررا تغيير خطة العمل، فأوقفا إنتاج أرغفة خبز التنور على اعتبار أنها تستهلك كميات كبيرة من الغاز، وفضّلا تصنيع "المناقيش" على فرن الصاج. "هكذا لا نضطر لتغيير أسطوانة الغاز كل يومين"، يشرح الشاب العشريني.
"كي نستمر بالعمل أمامنا حلّان لا ثالث لهما، إمّا إلغاء الخبز أو رفع الأسعار، والأخير حلّ مرفوض تماماً بالنسبة لنا".
ورغم أن هذا التغيير لم يصب في مصلحة أصحاب المحل، حيث تسبّب في خسارة عدد كبير من الزبائن الذين كانوا يقصدونه لشراء الخبز بالذات، لكنه كان الحل الوحيد كي لا يتوقف العمل بشكل نهائي، "فكي نستمر بالعمل أمامنا حلّان لا ثالث لهما، إمّا إلغاء الخبز أو رفع الأسعار، والأخير حلّ مرفوض تماماً بالنسبة لنا"، يقول غدير ويضيف ضاحكاً: "فكّرنا في أحد الأيام باللجوء للحل الثاني وكتابة لافتة تقول ‘رفعنا الأسعار بسبب المؤامرة الكونية’، لكنه للأسف حل غير قابل للتطبيق وسيؤدي لخسارة ما تبقى من روّاد محلنا".
آلة الاسبرسو لتسخين المياه في المقاهي
أزمة الغاز لم تستثنِ حتى المشروبات الشعبية في سوريا، وأكثرها شهرة في المدن الساحلية السورية مشروب "المتّة"، الذي يتطلب تحضيره مياهاً ساخنة حتى درجة الغليان لتوضع فيها أوراق نبات المتّة.دخلت نغم أحد المقاهي وسط مدينة طرطوس الساحلية، وجلست مع أصدقائها ليطلبوا مشروبهم المفضل والمعتاد، المتّة؛ ففوجئت باعتذار النادل عن تقديمه بسبب عدم توافر الغاز الكافي لتسخين المياه.
"المتّة هي المشروب الأساسي في مدينتنا وخاصة خلال فصل الشتاء، وتعتبر تقليداً ثابتاً لدينا يرتبط بالجلسات الأكثر حميمية"، تشرح الفتاة الثلاثينية وتضيف: "كان من المفاجئ بالنسبة لنا اعتذار المقهى عن تحضير المتّة، فلا يمكن أن نتخيل دخولنا لمقهى في طرطوس دون وجودها على قائمة المشروبات المتوافرة".
دخلت نغم أحد المقاهي وسط مدينة طرطوس الساحلية، وطلبت مشروب "المتّة"، اعتذر النادل بسبب عدم توافر الغاز الكافي لتسخين المياه.
ولدى سؤال نغم لمدير المقهى، أفاد بأنه يجد صعوبة كبيرة في الحصول على كميات كافية من أسطوانات الغاز، مما اضطره للاعتذار عن تقديم المشروبات الساخنة إلا لبعض الزبائن الدائمين، وحينها يعمد لتسخين المياه بواسطة آلات الاسبرسو، وأضاف مع ابتسامة عريضة: "لو يعلم الإيطاليون بأننا نستخدم ماكيناتهم لتحضير المتّة لرفعوا بحقنا دعاوى قضائية وطالبوا بسحبها بشكل كامل من سوريا".
وتعتبر نغم أن توقف مقهى وسط طرطوس عن تقديم مشروب المتّة مؤشراً على حدة أزمة الغاز في المدينة، "فذلك سيجبره على خسارة العديد من الزبائن، واليوم بتنا نتأكد من وجود غاز لدى أي مقهى قبل أن نقرر الجلوس فيه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...