عندما دخلتُ مطعم "كنتاكي" في الفلبين قُدِّمت لي قِطعَة مُكوَّرة ملفوفة بورقة، كنتُ أتوقَّع أن تكون قِطعة دجاج، أو سَلطَات غريبة، ولكنّي اندهشتُ أكثر عندما اكتشفتُ أنَّها حبَّات أرز عادية، مَطبوخة على البُخار، بالنسبة لي كان طعمها "عادياً"، ولكن بالنسبة لصديقتي الفلبينية فهي الطعام كُلُّه، إن لم تأكل أرزاً فهي لم تأكل على الإطلاق.
وإن قُلتم "لا"، فلا تستغربون إن كرَّر أصدقاؤكم الفلبينيون بأنفسهم نفس السؤال: هل أنتم مُتأكّدون أنَّكم لا ترغبون في الحصول على الأرز؟
"أعجوبة العالم الثامنة"
تُعدُّ زراعة الأرز شائعة في المجتمع الفلبّيني، وتُشارِكُهم شعوبٌ أُخرى في ذلك، ولكن حقول الأرز المنحوتة على طول المُنحدرات الجبليَّة الحادَّة في مُقاطَعَة "إيوغاو" بجزيرة "لوزون" هي "أعجوبة العالم الثامنة"، كما يُطلِق عليها الفلبينيون بفَخر قَومي، ويعود إنشاؤها إلى ما قبل 2000 عام على يد شعب الـ"إيوغاو".
يحكي التاريخ هناك، عندما وجد الإنسان الفلبيني القديم نفسَهُ مُحاطًا بجبال لا يستطيع العيش فيها، فكّر في زراعتها بالأرز، مُستغلّاً الطبيعة والمُناخ لصالح ضَرورات بَقَائِه.
لقد كانت فِكرة زِراعة هذه المُدرَّجات مُهمّة جدًا لبقاء شعب الـ"إيوغاو"، وأصبحَت الفِكرة مُتجذّرة بِقُوَّة في ثقافتهم حتى أنَّهم نقلوا المعرفة من جيل إلى جيل للحفاظ على هذه الحقول.
ويقول المُؤرِّخون أنّ تلك المُدرَّجات بناها قدماء الفلبينين بأدوات بسيطة، وربَّما بأيديهم، وتقع تلك المُدرَّجات على ارتفاع 1500 متر (4900 قدم) فوق سطح البحر، وتُروى بنظام للريّ يستقبل مياه الأمطار الساقطة فوق المُدرَّجات.
بالنسبة لمعظم الفلبينين فإنّ وجبة بدون الأرز ليست وجبة إطلاقًا، والحياة بدون الأرز أمر لا يمكن تصوّره
يستغلّ الفلبينيون هذه المُدرّجات الآن كمنطقة جذب سياحي في الوقت الحاضر، ويمكن للسائح زيارة مُدرَّجات الأرز في أوقات مُختلفة من السنة، حَسَب ما تودُّ رُؤيتَه، فإن أَرَدتَ أن تراها خضراء؛ فيمكنك زيارتها من شهر إبريل إلى شهر مايو، أو من أكتوبر حتى نوفمبر، وإذا أردت أن تحضرَ موسم الحصاد؛ فبإمكانك أن تأتي في يونيو وديسمبر، أمّا الفترة من يناير إلى مارس فهي موسم الزراعة، وتكون المُدرّجات فيها، عارية، وأقلّ إثارة، أمّا يوليو وأغسطس فلا يُحبذ القدوم فيهما؛ لأنهما مواسم تَساقط الأمطار، ولذلك فإنّ أفضل وقت للزيارة من سبتمبر وحتى يونيو، حيث الطقس الربيعي المُنعش، ومُدرَّجات الأرز في أبهى حُلّة.
أُسطُورَة الأَرُز: جِنِّيَّات وسُكر ورَقص
حكايات ساحرة، يتعامل مع وقائعها السكان الأصليون باعتبارها حقائق تاريخية، أو بالأحرى مُعتقدات قَومية لا تقبل الشك، تدور حول بدايات زراعة الأرز عند أجدادهم، الفلبينيين القُدامَى.
تقول الحكاية، كما تدور هَمسًا من شفاه العجائز لآذان الأطفال والشباب، أنّ الحياة في قديم الزمان، كانت حُلوة، وبَسيطَة، والناس سُعداء جداً، حتَّى جاء الوقت الذي ساءت فيه الأمور؛ فالأرض فقدَت خصوبتها على الثمار، والحيوانات فرّت من الغابات، ولم يَعُد بإمكان الرجال الاعتماد على الصيد، وحزنت النساء، وخافت الأمهات على مستقبل أطفالهن، ودخل الهمّ والغمّ على شعب المدينة.
أفضل وقت لزيارة الفلبين من سبتمبر/أيلول وحتى يونيو، حيث الطقس الربيعي الُمنعش، وُمدرجات الأرز في أبهى حُلّة.
عندما دخلتُ مطعم "كنتاكي" في الفلبين قُدِّم لي قِطعَة مُكوَّرة ملفوفة بورقة، كنتُ أتوقَّع أن تكون قِطعة دجاج، أو سَلطَات غريبة، ولكنّي اكتشفتُ أنَّها حبَّات أرز عادية.
قرّر الرجال الصعود إلى الجبال لتجربة حظّهم في الصيد هناك، فربّما يستطيعون الحصول على شيء لإطعام عائلاتهم، وبعد أن غربت الشمس، وأشرقت النجوم، كانوا مُتعبين من تَسلُّق الجبال ببطون جائعة، وأجواء شديدة الحرارة، فقرَّروا التوقّف لأخذ قسط من الراحة لبضع دقائق في ظلال القمر، الأشجار الضخمة والطويلة، وبينما كانوا جالسين على الأرض المعشوشبة الطّريَّة، مرّت عليهم بنات عذراوات، لم يروا في جمالهنّ وحسنهنّ أحدً، وتقول الحكاية أنّ أولئك النسوة جِنِّيَّات، جِنِّيَّات قويِّة وخَجُولة...
دعت الجِنِّيَّات الصَّيَّادين أن يتبعوهنَّ حتَّى الكهوف القريبة من الجَبَل، ولمَّا دخلوا الكهف، شاهدوا المزيد من الجِنِّيَّات، كنّ في استقبالهم، بدا الأمر كما لو كانوا في عالم آخر، عالم سحري حيث توجد الجِنِّيَّات الجَميلات، وفي غَمرة دهشتهم وتوجسِّهم، ظَهَرَت فجأة أمامهم الجِنِّيَّة المَلِكة، فازدادوا دهشةً وحيرة.
فهل هذا كان مُجرَّد حُلم؟، إذا سألتم أحد الفلبينيين عن ذلك، فسيدافع عن واقعية الحلم، وصدق الأسطورة بمُبرّرات كثيرة، ويطرح أمامكم هذا التساؤل: كيف يكون لهم جميعاً نفس الحُلم؟، هذا لا يمكن أن يكون حلماً، هذا حقيقي.وبعد ظهور الجِنِّيَّة الملكة، بدؤوا يَستَمتِعُون، ويُغَنُّون، ويَرقُصون، لقد كان احتفالاً كبيراً، وكان أوَّل شيء خَطَف أبصارُهم هو الحَجم الكبير للكؤوس المُترَعَة بالأطعمة البيضاء التي لم يروها من قبل، ولم يستطيعوا أن يغضُّوا أبصارَهُم عَنهَا، لأنهم لم يروا أيَّ شيء مثله من قبل، لقد كانت الآلآف من تلك الحبوب البيضاء تَملأ كؤوسَهم.
وفي النهاية، عندما انتهى الاحتفال، أكلوا الحبوب البيضاء التي كانت في الكؤوس، وتحوّلَ الرجالُ إلى أطفال، عادوا أطفالاً مرَّة أخرى ولكن بقُوَّة الكِبار، وطَلَبَت منهم الجِنِّيَّات الجميلات شُربَ الخمور البيضاء، ومَنَحَهُم هذا "المعرفة".
وبينما كان الأطفال الرجال على وشك مُغَادَرة الكَهف، تَحَدَّثَت إليهم مَلِكَة الجِنِّيَّات قَائِلَة: "سَوفَ أُعطِي كُلَّ واحدٍ مِنكُم بعضَ الحُبوب، ازرَعُوهَا في المَواسِم المَطيرة، أعلم أنَّ لديكم جميعاً قلوباً طَيِّبَة، لِهَذا السبب أَنَا أَعلَمُ أنَّ هَذِهِ الحُبوب ستُنبَتُ، النباتات سوف تحمل الحبوب، احصُدُوهَا، ثمّ قُومُوا بقَصف الحبوب المَحصُودة وتَنظِيفِهَا، سوفَ يُطلَقُ على هذه الحُبوب اسم "الأرز"، اطُهوه، وهذا سيكون مصدر طعامكم، وهذه هي هَديَّتي إلى البَشَر، اذهبوا الآن، وعودوا إلى منازلكم.
دعت الجِنِّيَّات الصَّيَّادين أن يتبعوهنَّ حتَّى الكهوف القريبة من الجَبَل، ولمَّا دخلوا الكهف، ظَهَرَت أمامهم الجِنِّيَّة المَلِكة، فازدادوا دهشةً وحيرة.
لقد اتبع الصيادون تعليمات الملكة بالحرف، وأصابت الدهشة عائلاتهم، فقد كان طعم الحُبوب لذيذاً، لقد كانَت أوَّل مَرَّة يتناولُ فيها النَّاس الأرز، ومنذ ذلك الحين تعلَّموا زراعة الحبوب في كل موسم مُمطر، وكانت هذه هي بداية زراعة الأرز؛ لذلك يُعتبر الأرز أكثر من مُجرَّد غذاء في الفلبين، فاللُّغة الفلبينية تحتوي على عِدّة كلمات مختلفة للأرز، فهو معروف مَحلِّيَّا باسم “palay” (الأرز غير المطحون)، و”bigas” (الأرز المطحون)، و”kanin" (الأرز المطبوخ).
الأرز في الفلبّين مثل الخُبز في مِصر
(إذا أهدر أيّ شخص أرز أو ألقى به، فستُشوَّه يدُه، ولن يَعرِف أبداً وَفرةً أو رخاء)، هكذا يتحدث الفلبينيون عن الأرز، فهو الغذاء الرئيسي في الفلبين، ولا يُستخدَم أيّ طعام آخر علي نطاق واسع هناك مثل الأرز؛ فيتناولونه ثلاث مرات يومياً في وجبات الإفطار والغذاء والعشاء، ذَكَّرني ذلك بعلاقتنا نحن المصريين بالخبز، لا نقبل أيّ طعام في أيّ وجبة بدون أرغفة الخبز، ذَكَّرني ذلك بعلاقتنا نحن المصريين بالخبز، لا نقبل أيّ طعام في أيّ وجبة بدون أرغفة الخبز.وكانت الفلبين في السابق من أكبر الدول المُصدِّرة للأرز في العالم، ولكن بحلول القرن الواحد والعشرين ازداد عدد سكانها، وبالتالي زادت احتياجاتها، وتقلّص إنتاجها من الأرز إلى الحدِّ الذي لم تكن فيه الجمهورية تُوفِّر ما يكفي لحاجة سكّانها، وكانوا مضطرين إلى الاستيراد من الصين، وجنوب شرق آسيا لتلبية الطلب.
وتُعدّ الفلبين ثاني أكبر مستورد للأرز في العالم، ومنذ ذلك الحين تحاول الحكومة الفلبينية زيادة نسبة إنتاج الأرز المحلِّي لِتُغطِّي احتياجات سُكَّانِها.
والمأكولات البحرية متوفّرة بكثرة في الفلبين، وهي المصدر الرئيسي للبروتين في النظام الغذائي هناك؛ حيث تتكوّن البلاد من أكثر من 7 آلاف جزيرة، ولكن في النهاية لا طعام يدنو من مكانة الأرز في قلوب وبطون الفلبينيين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...