حين كنتُ صغيراً، كانت عائلتي تعيش في مدينة القامشلي البعيدة عن كلّ شيء في سوريا، والتي كانت تُشبه بلاداً أخرى.
في ذلك الزمان، قبل أن تعود عائلتي للعيش في دمشق، كان بيت جدي يقع في منطقة ركن الدين في قلب العاصمة. كنّا حينها نزورهم كلّ سنة مرة أو اثنتين. رحلتنا الأولى تكون في الصيف وتمتَد لشهر أو أكثر. والثانية، إن حصلت، في الشتاء أثناء عطلة منتصف السنة الدراسيّة، وكنّا نسميها عطلة الربيع على الرغم من وقوعها في أواخر شهر كانون الثاني أو أوائل شهر شباط.
في تلك السنوات، كانت الباصات هي وسيلة المواصلات الرئيسيّة، بين المدن وداخلها. كانت رحلتنا التي تقطع حوالي ثمانمئة كيلومتر في الذهاب ومثلها في الإياب تمتد لأكثر من تسع ساعات متواصلة جالسين فيها على كراسٍ ضيقة لا يستطيع الإنسان البالغ فيها مدّ قدميه بارتياح.
حينذاك، كانت شركة النقل الوحيدة هي شركة الكرنك. لا أعرف إذا كان أصل الكلمة عائداً إلى معبد الكرنك أو غير ذلك. لم نكن نعرف معنى الإسم. لا أعرف أحداً كان يعرف معنى الاسم. رغم ذلك، كان هذا الاسم هو الأهم في رحلتنا تلك.
كانت باصات شركة الكرنك، ذات الشكل الغريب المضحك، ملوّنة بألوان بيضاء برتقاليّة، لا باب خلفي لها. فقط بابان في الأمام، واحدٌ للسائق وآخر على الطرف المقابل للركاب، ومثلها مثل كلّ باصات السفر كان للكرنك مكان لتخزين الأمتعة.
نصل إلى محطة انطلاق الباصات في الصباح. تستقبلنا صورة كبيرة لحافظ الأسد عند مدخل المحطة. نضع أغراضنا وحقائِبنا في أماكنها المخصصة داخل الباص ونحمل ما نحتاج إليه خلال الرحلة إلى أماكن جلوسنا. أثناء دخولنا الباص يتأكد موظف شركة النقل من أسمائنا وهوياتنا. نجلس في مقاعدنا المرقمة وننتظر الانطلاق.
ينطلق الباص من محطة الباصات في مدينة القامشلي إلى محطة باصات "كراجات" مدينة دمشق. بعد حوالي خمس أو عشر دقائق من الانطلاق يقدّم لنا مساعد السائق، وهو الموظف الذي يجلس بجانب السائق، ومهمته الاعتناء بالركاب، بعض السكاكر الرخيصة الثمن من باب الترحيب.
يسير الباص، بعد أن توّدعنا صورة حافظ الأسد، خارج القامشلي ماراً بالقُرى والأراضي الزراعيّة الممتدة على جانبي الطريق. أذكر حين كنت صغيراً، قبل موجات الجفاف، كانت هنالك مساحات شاسعة من اللون الأخضر للمزروعات المختلفة ومساحات شاسعة من اللون الأصفر، لون سنابل القمح. ب
عد ساعة من الزمن يصل الباص لمحطة توقفه الأولى، محطة باصات مدينة الحسكة. تستقبلنا صورة كبيرة لحافظ الأسد عند مدخل المحطة. يعلن السائق، أو معاونه، استراحة قصيرة لا تتجاوز العشر دقائق تكفي لتدخين سيجارة واحدة. هذه الدقائق مخصصة أيضاً لصعود ركّاب جدد إلى الباص المتجه إلى العاصمة البعيدة.حينها كنّا صغاراً. حينها لم نكن نعرف شيئاً عن العالم. لم نكن نعرف أنّ دمشق، أيضًا، مدينة خراب..حارات الحسكة وشوارعها فقيرة، لا شيء فيها مثير. لا أبنية، لا صروح، لا شوارع جيدة، لا شيء يمكن أن تراه من نافذة الباص في هذه المدينة سوى الفقر الذي يقفز من ثياب الناس وبيوتهم. يُكمل الباص مسيره بين القرى الفقيرة والأراضي الزراعيّة. أتذكر لهفتنا، لهفة الأطفال الصغار، حين كنّا نمرّ بجانبِ قطعان الغنم والبقر. بعد ساعتين تقريباً يصل الباص إلى مدينة دير الزور. تستقبلنا صورة كبيرة لحافظ الأسد عند مدخل المدينة. كان نهر الفرات مبهراً. حينها كان أكبر مسطح مائي أراه. أنا الذي عشت طفولتي بين حارات السكن العشوائي في دمشق وبين شبه الصحراء في القامشلي. يا له من منظر بديع، مياه غزيرة لا تنضب تتدفق أمامي. كنّا نرى الجسر المعلّق، والذي تهدّم بفعل قصف قوات نظام الأسد سنة 2013، واقفاً يشهد على ما يدور في المدينة من أحداث يوميّة. كانت شوارع المدينة، خاصة تلك المحيطة بمحطة الباصات، عريضة مقارنة بشوارع القامشلي والحسكة، لكن كراجات دير الزور كانت فارغة، وسيئة الخدمة مثل كلّ مؤسسات سوريا الأسد. كانت استراحة الباص والركاب تستغرق خمس عشرة دقيقة، أو عشرين دقيقة، حسب مزاج السائق. أتذكر دير الزور، من نافذة الباص وبعيني ذلك الطفل، مدينة جميلة. ينطلق الباص عابراً الباديّة السوريّة، أو الصحراء كما كنّا نسميها، من أطرافها في دير الزور إلى طرفها الآخر بالقرب من دمشق، ماراً بقلب هذه البادية، مدينة تدمر. كان الطريق القديم يمّر بجانب المعابد والأعمدة الأثريّة. كان المشهد من ذلك الشباك ساحراً. الجميع ينظر إلى تلك الآثار. أتذكر أخي الصغير، حينها كان يبلغ الثانية من عمره، وكان مسلسل العبابيد، الذي تدور أحداثه في مملكة تدمر، قد بدأ عرضه. كان الصمت طاغياً في الباص والعيون شاخصة نحو الأعمدة الحجر حين صرخ أخي: ماماااا... وينها زنوبيا؟ وانفجر الركاب ضاحكين. نصل إلى استراحة تدمر، هي الاستراحة الرئيسيّة على طريق القامشلي-دمشق. تستقبلنا صورة كبيرة لحافظ الأسد عند مدخلها. وهي، أيّ الاستراحة، مؤلفة من مطعم وبعض محال تجاريّة تبيع بضاعة رخيصة وطعاماً للمسافرين. لا يحيط بهذه المحطة شيء سوى الصحراء. كنّا نتناول طعامنا هناك. ومثل كلّ استراحة سابقة كنّا ندخل إلى الحمامات الوسِخة لإفراغ أحشائنا مما بقي فيها من بقايا الطعام والشراب. بعض الركاب كان يشتري الطعام من هناك وغالبيتهم، مثل أفراد عائلتنا، كانوا يجلبون طعامهم من المنزل. نعود إلى الباص بعد حوالي نصف ساعة من التوقف. روائح الطعام تخنق الأنفاس. يرّشُ معاون السائق معطرات في الجو. يعود البعض إلى النوم، ويعود صوت الشخير إلى سابق عهده. يكمل الباص طريقه قاطعاً بادية الشام، دون أن يقول أحد شيئاً عن سجن تدمر الرهيب الذي كنّا نمر بجانبه. بعد ثلاث ساعات نصل إلى محطة أبو الشامات. تستقبلنا صورة كبيرة لحافظ الأسد عند مدخل الاستراحة. استراحة خمس دقائق لدخول المرحاض وللتدخين. كان يقال سراً إن هناك مقبرة جماعيّة لمعتقلين، قضوا تحت التعذيب في السجون القريبة، في منطقة أبو الشامات. وكان يقال كذلك إن هناك نفايات نوويّة دفنت في هذه المنطقة. لا أعرف صحة هذه المعلومات. يعود الباص إلى سيره. الشمس قد غرُبتْ. نصل إلى دمشق داخلين من شرقها. تستقبلنا صورة كبيرة لحافظ الأسد. ننبهر بأضواء الجبل، أضواء مناطق العشوائيات حيث بيت جدي الذي نقصد. ندخل دمشق الشام، مدينة عظيمة مقارنة بالمدن الخراب التي أتينا منها. حينها كنّا صغاراً. حينها لم نكن نعرف شيئاً عن العالم. لم نكن نعرف أنّ دمشق، أيضًا، مدينة خراب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين