«كتابة على وجه الريح» هو كتاب للشاعر صلاح عبد الصبور، يضم مجموعة مقالات، يتناول أحدها سيرة الشاعر الأمريكي ت.س. إليوت، بعنوان «شاعر وثلاث نساء»، اعتمد فيه عبد الصبور على كتاب «توم العظيم.. ملاحظات نحو تعريف ت. س. إليوت» الذي وضعه توماس ستيرنز ماتيوز، في إشارة لاسم كتاب إليوت «ملاحظات نحو تعريف الثقافة».
أضاء «عبد الصبور» على علاقة إليوت بثلاث نساء ظهرن في حياته، هن زوجتاه، وصديقته الأمريكية إميلي هيل التي كانت تصغره بثلاث سنوات، والتي جمعته بها صداقة وثيقة دامت قرابة 40 عاماً، تبادلا خلالها الكثير من الرسائل التي وضعتها "هيل" في خزنة مكتبة جامعة برينستون مع وصيتها ألا تفض أو تقرأ إلا بعد خمسين عاماً من وفاتها التي كانت بعد وفاة إليوت بخمس سنوات، وبالتحديد في آخر يوم من عام 1969.
لم يمهلنا «عبد الصبور» إلى أن نجري حسبة بسيطة لمعرفة تاريخ الكشف عن تلك الرسائل، بل راح يتابع: " فلننتظر إذن حتى العام العشرين من القرن الحادي والعشرين لنقرأ هذه الرسائل؛ لا نحن، بل أبناؤنا".
توفي صلاح عبد الصبور في 14 أغسطس 1981، فلم ينتظر حتى العام العشرين من القرن الواحد والعشرين، والذي يفصلنا عنه بضعة شهور، كما لم يعرض تفاصيل أخرى عن قصة إليوت وحبيبته، إلا أن إشارته إلى رسائل إميلي هيل، المودعة لدى مكتبة جامعة برنستون، كانت المحرض لنا على استكمال الحكاية والبحث عن موعد الكشف عن تلك الرسائل وتفاصيله.
"عرض أكروبات" يجمعهما وللحرب رأي آخر
يحكي الكاتب الروائي ستيفن كارول بداية القصة، قائلاً" إنه في 17 فبراير 1913، حضر طالب الفلسفة في جامعة هارفارد، توم إليوت، وكان عمره 24 عاماً "عرض أكروبات" في منزل ابن عمه في كامبريدج، وقد شاركت في العرض، إميلي هيل صاحبة الـ21 عاماً، والتي غنت ست أغنيات في تلك الليلة، تدخّل فيهما جمهورها وكان معظمهم من العائلة والأصدقاء.
وأثناء ذلك التجمع المرح من السينمائيين الهواة، وقع توم إليوت في حب إميلي هيل، في ليلة يصفها كارول بأنها كانت واحدة من تلك الليالي التي تدور فيها الحياة، حيث كان إليوت وقتها ذكيًا ومثقفاً وأكثر رومانسية، بينما هيل ممثلة ذات صوت غنائي جميل، وجمال كلاسيكي جديد في إنجلترا.
أثناء ذلك التجمع المرح من السينمائيين الهواة، وقع توم إليوت في حب إميلي هيل، في ليلة يصفها كارول بأنها كانت واحدة من تلك الليالي التي تدور فيها الحياة
لم تأخذ قصة الحب بينهما مجراها إلى الكمال، حيث توجه إليوت في عام 1914 إلى أوكسفورد في منحة دراسية، ثم قامت الحرب العالمية الأولى؛ لتجبره على المكوث هناك، وسرعان ما التقى إليوت بفيفيان هاي- وود في أكسفورد، في أبريل 1915، وكانت وقتها تبلغ من العمر 26 عاماً، فتزوجا على عجل، واستقرا في لندن، ما جعل العلاقة بينه وبين حبيبته "هيل" مستحيلة.
يضيف صاحب رواية "الحياة المفقودة" الصادرة عام 2008، والذي قدم فيها صورة لعلاقة الحب بين ت. إس. إليوت وإيميلي هيل، أنهما لم يجتمعا مرة أخرى لمدة 12 سنة على الأقل، ذلك حتى العام 1927، إذ كتبت هيل إلى إليوت في لندن تطلب نصيحته في تجميع قائمة القراءة لطلابها، ولم تكن بحاجة لنصيحته، بل كان ذلك ذريعة لمراسلته، وكتب إليوت إليها، على الفور، وكان وقتها في بداية شهرته.
يشير "كارول" إلى أنهما عندما تقابلا في النهاية، كانا شخصين مختلفين، ولولا كونه متزوجًا لكان من الممكن أن يتزوجها في هذا الوقت، ولاختلفت قصتهما تماماً، وعلى الرغم من أن ترحيبه بخطاب هيل كان دليلاً على ترحيبه بوجودها في حياته مرة أخرى، فإنهما لم يفعلا، لتنشأ بينهما نتيجة ذلك علاقة أفلاطونية بقيت على هذا النحو.
وصلت الحياة ما بين إليوت وزوجته فيفان إلى نقطة النهاية بعد إصابتها بمرض نفسي، ما جعل الحياة معها شبه مستحيلة، فرحل عنها، في وقت سافر إلى الولايات المتحدة لإلقاء سلسلة محاضرات في جامعة هارفارد، وأثناء ذلك زارته هيل في الجامعة في مناسبات عديدة، لكن فكرة الزواج لم تكن مطروحة بينهما، إذ كانت زوجته «فيفيان» ما زالت على قيد الحياة، على الرغم من أن محامي إليوت أرسلوا إلى فيفيان رسالة تعلن رغبته في الانفصال، وعندما عاد إليوت إلى المملكة المتحدة لم يعد إلى منزلهما، ولم يخبر فيفيان عن مكان معيشته.
في مقاله المنشور بموقع «صنداي مورنينج هيرالد»، يشير «كارول» إلى أنه في أوائل الثلاثينيات حتى 1939، اعتادت هيل أن تسافر من الولايات المتحدة لقضاء الصيف في جنوب غرب إنجلترا، في بلدة كوتسوولد، وأثناء ذلك كان إليوت يهرع في كل عام من لندن لمقابلتها، وذات مرة أعطاها خاتماً، ووعدا بأنهما سيتزوجان متى أصبح حراً.
في اللقاء الثاني.. للحرب دائما كلمة الفصل
يحكي ستيفن كارول أنه طوال تلك الفترة بقيت علاقة إليوت بـ"هيل" سرية تماماً مخافة الفضيحة، كونها على علاقة برجل متزوج، مشيراً إلى أنها في الوقت نفسه قرأت على طلابها، في العديد من الكليات عبر أقسام الولايات المتحدة، من خطابات إليوت، كما أوضحت أنها هي نفسها "بك" في بيرنت نورتن، والسيدة الصامتة في " الرماد"، والشابة في La Figlia che Piange التي تهب الأزهار إلى الأرض. ويرى "كارول" أنه ربما كانت تلك طريقتها في الاعتراف بعلاقتهما، والخروج بها إلى العلنية.
وقّعت هيل على سند هبة ينص على أن يتم الاحتفاظ بالرسائل "مغلقة تماماً لجميع القراء حتى مرور خمسين سنة بعد وفاة السيد إليوت أو نفسي".
اقترب الحبيبان ثانية إلا أن الحرب فرقت بينهما مرة أخرى في العام 1939، إذ كان إليوت في إنجلترا، وهيل في الولايات المتحدة، ما يعني ضياع فرصتيهما في أن يكونا معًا، حتى التقيا مرة أخرى في العام 1946، حينها أصبح عمر إليوت 58 عاماً، وصارت هيل في الـ55 من عمرها.
توفيت زوجة إليوت «فيفيان» في العام 1947، حينها عزمت «هيل» على الزواج منه، وقد أصبح الآن حراً، لكن «فيفيان» الذي كان حضورها خافتاً في حياته، عادت لتملأ حياة إليوت بعد وفاتها، ذلك من خلال شعوره بالذنب تجاهها لبعض الوقت، لكن ذلك لم يجعل "هيل" تذهب إلى فكرة أن يتخلى عنها حبيبها، لكن إليوت كان له رأي آخر، فذات صباح، بينما يتلقى درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة هارفارد، وبعد تناوله وجبة الإفطار في منزل عائلته الصيفي في غلوستر، نيو إنغلاند، أعلن أنه سيزور الآنسة هيل لتحله من الالتزام بوعده لها بالزواج بعد مضي قرابة 33عاماً على علاقة نزفت خلالها "هيل" عمرها، بينما صاغه "إليوت" في قصائد.
كل ذلك لم يؤكد لـ«هيل» نهاية علاقتهما، حتى فوجئت ذات صباح من العام 1957 بخبر زواج إليوت من سكرتيرته فاليري فليتشر التي تصغره بـ40 سنة، حينها انهارت «هيل»، ونقلت على إثرها إلى مستشفى ماساتشوستس؛ وكانت سنها وقتها جاوزت الـ 66 عاماً، لتقضي سنواتها الباقية بائسة، بينما انشغل إليوت في قصائده بزوجته الشابة، واصفاً نفسه وإياها بـ "عاشقين يفوح جسداهما برائحة بعضهما البعض".
وعندما انقطعت العلاقة بين إليوت وهيل، أسرع حينها إلى حرق جميع رسائلها إليه، بينما لم يبق لـ«هيل» من عشيقها سوى رسائله، والتي وصل عددهم إلى 1131، وهي تلك الرسائل المحفوظة الآن في جامعة برينستون، في انتظار 1 يناير 2020؛ ليتم الكشف عن ذلك الكنز الأدبي الهام.
كيف وصلت الرسائل إلى الجامعة؟
يذكر دون سكيمر أمين المخطوطات في قسم الكتب النادرة والمجموعات الخاصة التابعة لمكتبة جامعة برنستون، أن اهتمام «هيل» بوضع رسائلها في مكتبة جامعة برينستون بدأ من خلال محادثاتها مع صديقها البروفيسور ويلارد ثورب وزوجته مارجريت ثورب، حتى ظهرت الجامعة كفاعل في حادث رسائل إليوت في 7 يوليو 1942، عندما كتب جوليان بويد، مدير مكتبة جامعة برينستون إلى «هيل» قائلاً: "أفهم أنك ترغبين في حماية رسائل إليوت بوضعها في مستودع آمن، حتى يمكن نقلها بأمان إلى منزله الدائم، وهو ما أفترض أنه سيكون" وبرغم استعداد هيل لإرسال الرسائل إلى برينستون، إلا أنها غيرت رأيها حول المنزل الدائم للحروف.
يضيف دون سكيمر، في مقاله المعنون" الكنز المختوم" المنشور بموقع تابع لجامعة برينستون، أن ذلك استمر حتى 24 يوليو 1956، حينها كتبت «هيل» إلى ثورب ووعدت بإرسال الخطابات إلى برينستون؛ ولكن بمعرفة إليوت على الأقل، ومن ثم كتبت إلى إليوت تسأله إن كان لديه أي تفضيل لإيداع المراسلات به، وأجاب إليوت بدوره نافياً.
حددت هيل أن يكون "ثورب" هو المسؤول عن تنفيذ رغبتها حيال تلك الرسائل، تقديراً لسنوات الصداقة بينهما، ومن ثم ناقش ثورب الهدية مع وليام إس. ديكس، أمين مكتبة الجامعة آنذاك؛ وألكساندر ب. كلارك، أمينة المخطوطات، مؤكداً رغبة هيل في ألا يتم النظر إلى تلك الرسائل أو نشرها حتى بعد مرور 25 سنة على وفاتها.
يشير «سكيمر» في مقاله إلى أنه وبحلول 17 نوفمبر 1956، أعادت «هيل» النظر في طول التقييد، ووقعت على سند هبة؛ ينص على أن يتم الاحتفاظ بالرسائل "مغلقة تماماً لجميع القراء حتى مرور خمسين سنة بعد وفاة السيد إليوت أو نفسي. في ذلك الوقت، يمكن إتاحة الملفات للدراسة من قبل علماء مؤهلين تأهيلاً مناسبًا وفقًا للأنظمة المعمول بها في المكتبة لاستخدام مواد المخطوطات. لتنفيذ هذه النية، ستحتفظ المكتبة بالمجموعة في حاويات مختومة في خزائن مخطوطاتها".
كيف تعاملت «برينستون» مع رسائل "إليوت"
انتقلت حيازة رسائل إليوت إلى جامعة برينستون في نوفمبر 1956، لتبدأ مرحلة أخرى في التعامل مع رسائل إليوت، وعددها 1131 رسالة ، إذ قام ألكساندر كلارك، أمين المخطوطات بالجامعة، بتنظيمها وترتيبها زمنياً في مجلدات «مانيلا» المعدة لاحتواء الوثائق، وأيضاً في عشرات من صناديق الوثائق الزرقاء من نوع فيبرديكس، ومن ثم تغطيتها بورق تغليف ثقيل، وألواح خشبية، وشرائط فولاذية لمزيد من الأمان، وتم إدراجها، ضمن وثائق ومخطوطات الجامعة رسميا في 12 ديسمبر1956.
لم تنقطع هدايا «هيل» لجامعة برينستون لـ10 سنوات تالية، كما يؤكد «سكيمر»، فكان من بين هداياها الإضافية نسَخ إليوت المحفورة من كتب معينة، والتي تم فهرستها في كتالوج المكتبة على الإنترنت؛ واثنان من رسائل إليوت المطبوعة عام 1930، تبرعت بها هيل في عام 1967، والتي هي الآن في مجموعة إيميلي هيل (C1294). وهما كتابتان أدبيتان تماماً في المحتوى؛ ولهذا السبب لم يتم اعتبارهما رسالتين شخصيتين، بما يكفي لتأكيد إغلاق معظم الرسائل الواردة في عام 1956.
توفي ت. س. إليوت في 4 يناير 1965، وتوفيت إيميلي هيل في 12 أكتوبر 1969، بينما يجب أن تنتهي فترة التقييد في 12 أكتوبر 2019، وقد صرح وليام س. ديكس، الذي عمل باحثًا وأمينًا للمكتبة، في عام 1971 أن خطابات إليوت لن تكون متاحة للدراسة قبل يناير2020.
إلا أن دون سكيمر، أشار في مقاله إلى أن المكتبة ستنتج بدائل رقمية؛ لتسهيل قيام الباحثين بدراسة الرسائل، في غرفة القراءة، في نفس الوقت خلال ساعات الزيارة المنتظمة، على أن تظل رسائل إليوت تحت حقوق الطبع والنشر حتى العام 2036.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون