شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"صباح الخير. أين القهوة؟"... لن تشربوها فأنتم في إيران

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

السبت 19 أغسطس 201708:37 ص

لا يعشق الصباح الإيراني رائحة القهوة ولا يوليها أي أهمية، بل يمكن أن ينظر إليها كثقافة غريبة مصطنعة تهجم على فنجان الشاي المقدس ذي اللون الفاتح جداً. يخطر في بالكم عند المسير الصباحي في العاصمة طهران أن تفكروا مراراً في دلالات الصباح في هذه المدينة وتبدأوا المقارنة بينها وبين تلك التي اعتدتموها في بلادكم. فإلى جانب الازدحام المروري الممل وروائح التلوث المزعجة، يمكن أن يصل إلى مشام العابر في طهران شيء من روائح الخبز الطازج وبعض الأطعمة الدسمة التي يتناولها الإيرانيون في الصباح الباكر. كما سيرى عدداً أقل من المتوقع من تلاميذ المدارس بأزياء صارمة بعض الشيء ومجموعات من المتقاعدين تمارس الرياضة في الحدائق العامة، والأهم من ذلك رجالاً والنساء بأعداد كبيرة بملابس رسمية ومساحيق تجميل بالحد الأدنى، يزحفون نحو أعمالهم. المهم هو أنك لن تشم في الحارات والشوارع رائحة القهوة. لن تفوح رائحتها من منزل ما أو من بائع متجول أو من زميل في العمل.

شرب القهوة ثقافة غربية "فرنجية"

بحسب تقرير إيكونوميست فإن معدل استهلاك الشاي في إيران هو 9 أضعاف معدل تناول القهوة. إذ يعتبر إيرانيون كثر شرب القهوة ثقافة غربية "فرنجية"، وهم يفضلون شرب الشاي اعتقاداً منهم أنه مشروب إيراني أصيل. وقد ساعدت عوامل عدة منها اقتصادي ومنها ثقافي في ترسيخ هذا الاعتقاد لدى غالبية الشعب الإيراني. لكن الحقيقة هي أن كلا المشروبين ليس إيراني، بل وقد وصلت القهوة قبل الشّاي إلى إيران. ففي القرن الخامس عشر الميلادي، ومع انتقال القهوة بوساطة القوافل التجارية من موطنها الأم إلى البلاد العربية عبر إسطنبول وأوروبا خلال القرن الرابع عشر، وصل هذا المشروب المرّ إلى أصفهان عاصمة الصفويين وجذب الشاه عباس الأول الصفوي الذي شجع عليه في بلاطه، لا سيما بعد تلقيه رسالةً من "كاشف الدين صفوي"، أحد خبراء الأعشاب في البلاط، يوضح له فوائده ومميزاته، بحسب كتاب "المقاهي في إيران" للباحث علي بلوكباشي. وقد انتشر مشروب القهوة، بحسب كتاب بلوكباشي، أيضاً بين الصوفيين في ذلك العصر، فقد كان مفعوله المنبه يساعدهم في قيام الليل وممارسة مناسكهم الخاصة.

بلاط الشاه عباس الأول الصفوي

القهوة فالمقاهي فليالي السمر التي أزعجت البعض

لم تصل ثقافة القهوة وحيدةً إلى أصفهان، بل وصلت معها ثقافة المقاهي التي واجهت اعتراضاً من قبل رجال الدين المتزمتين الرافضين كالعادة أي ثقافة جديدة. فقد حملت المقاهي الجديدة معها النرجيلة والألعاب وليالي السمر والشعر. إلا أن الشيخ بهائي المشهور في ذلك العصر بدأ ارتياد المقهى الجديد في أصفهان، ما خفف الضغوط على الشاه عباس صفوي الذي لم يكتفِ بإشاعة المقاهي فقط، بل أعاد شرب المسكرات إلى الحانات، لكن بعد صلاة المغرب.
وصلت مع القهوة إلى أصفهان ثقافة المقاهي التي واجهت اعتراض رجال الدين إذ حملت معها النرجيلة والسمر والشعر
لن تشتم في الحارات والشوارع رائحة قهوة. لن تجد رائحتها تفوح من منزل أو من بائع متجول أو من زميل في العمل
وأكمل حكام إيران في العهد الزندي والقاجاري أيضاً مسيرة إحياء القهوة وذلك عبر الإصرار والتمسك بامتياز شراء إيران القهوة من تنزانيا الذي كان مكسباً اقتصادياً مهماً في ذلك الزمن، بحسب مقال لمصطفى خلعتبري في مجلة "نجواي فرهنك". لكن انتشار القهوة بقي محصوراً بين فئات محددة من الشعب. فقيمتها المرتفعة من جهة وعدم تناسبها مع ذائقة عوام الإيرانيين المحبة الأطعمة الحلوة والحامضة، أبقيا هذا المشروب غريباً وبعيداً من الشارع الإيراني ليحل محله وبقوة مشروب الشاي الجديد في القرن العشرين.

ثقافة الشاي "الإيرانية"

اعتمد الإيرانيون على الشاي المستورد الذي كانت تجلبه القوافل التجارية من شرق آسيا حتى مطلع القرن العشرين. ويروي الجنرال حاج محمد ميرزا الذي كان يعمل في القنصلية الإيرانية بالهند كاشف السلطنة، في مذكراته أن إيران دفعت مبالغ ضخمة للحصول على الشاي المستورد، وقد طالب بادخار هذه الأموال للداخل الإيراني واستثمارها في محاربة الفقر والاضطراب، مقرراً بذلك أن يبحث عن حل للشاي.

وكان الحل... ازرعوا الشاي في إيران 

حمل ميرزا إلى بلاده زراعة الشاي بدلاً من استيراده، وذلك عبر نقل 2000 شتلة شاي كانت كفيلة ببدء زراعتها في مدينة لاهيجان شمال إيران بعد البحث ودراسة أفضل مكان لتربيتها. فلقبّه الإيرانيون بـ "شايكار" (زارع الشاي) ودفن حسب وصيته في مدينة "لاهيجان" شمال إيران في أعلى تلال الشاي، وتحول مدفنه اليوم معرضاً لتاريخ الشاي يضم مجموعةً من أدوات الشاي الأثرية ووثائق نقل زراعتها إلى إيران.

مدفن الحاج محمد ميرزا

انتشر مشروب الشاي بسرعة في إيران وأصبح جزءاً من يوميات المواطنين وثقافتهم التي تختلف من منطقة إلى أخرى، إلا أن الإيرانيين بغالبيتهم يعتمدون على منقوع الشاي المغلي على البخار وفق طريقة "السماور" الروسية، ما يجعل الشاي الإيراني فاتح اللون، يشرب على عجل بعد مكعبات السكر التي توضع في الفم بدل تذويبها في الفنجان. ويعتبر الإيرانيون الرغوة على وجه الشاي من قلة مهارة صانعها فترى مثلاً الفتيات يسعين إلى إزالة أي رغوة عن وجه الشاي لإثبات مهارتهن في تحضيرها.

 تمثال ابريق الشاي في مدينة "لاهيجان"

قراءة فنجان الشاي

وفق إحصاءات وزارة الصحة الإيرانية، فإن 10% من الإيرانيين يلجأون إلى قراءة الفنجان وكتابة الأدعية، إلا أن شبكات التواصل الاجتماعي تعكس أرقاماً أخرى فهي تغص بإعلانات قراءة الفنجان والكف وغيرها بأسعار عالية، فالمجتمع الإيراني لا يوفّر طريقة لمعرفة مستقبله، مروراً بالطرق التقليدية القديمة وصولاً إلى الحديثة. ولأن فنجان القهوة يُشرب على مَضَضٍ، ابتكرت قارئات الفنجان في إيران أساليبهن المحلية الخاصة لقراءة فنجان الشاي لمن لا يستطيع تحمل القهوة، مستعينات على ذلك بـ "تفل الشاي".

قهوة عصرية من جديد

بدأ رونق القهوة يعود تدريجاً إلى إيران اليوم بين الشباب، لا سيما في التجمعات الثقافية. فلا زال الإرث المميز حول "إفرنجية" القهوة يسود أبناء الجيل الجديد، خصوصاً مع انتشار المقاهي الحديثة التي غابت عقوداً عن المدن الإيرانية، لتحمل في غالبيتها أسماء أجنبية تقدم قوائم مشروبات ساخنة تتصدرها أنواع عدة من القهوة السريعة التحضير إلى جانب القهوة الكلاسيكية الفرنسية والتركية، غير أن مهارات غلي القهوة لم تُكتسب بشكل جيد بعد. لكن هذا الرونق لم يصل إلى المقاهي الشعبية التي تستغرب من زائرها طلب فنجان قهوة مع النرجيلة حتى الآن، وتعتبر الشاي الإيراني أمراً بدهياً لزبائنها.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image