ساد اعتقاد أن الليل صديق العشاق، لكن مع اختلاف الأزمان، أصبح صديق الحيارى والبؤساء.
وهل هناك حيرة أصعب من تلك التي يعيشها رجال محبوسون في مدينة لها جدران، كغزة؟
رجال ضاق الأفق في عيونهم وأصيبت أحلامهم بالخيبات فوجدوا في المقاهي ملاذهم الآمن.
حول كل طاولة زبون ولكل زبون قصة مختلفة، يعكسها سلوكه وانفعاله ومزاجيته. يخوضون في النقاشات السياسية تارةً، وتارة أخرى يسافرون مع مقطوعة طربية، وأحياناً يلوذون بالعزلة.
يجمع بينهم شيء واحد: فنجان القهوة
لعل هذا الاستنتاج النابع من المعاينة، يتقاطع مع ما أوردته إحصاءات محلية تفيد بأن قيمة استهلاك البن لدى أهالي قطاع غزة تبلغ خمسة أطنان يومياً.
ولأن القهوة باعثة على السهر، فإن رواد المقاهي يفضلونها على غيرها من السوائل والمشروبات، فالتوقيت الصيفي قصير جداً على نحو لا يكفي ليغني كل منهم على ليلاه.
هدوء الربيع بعيداً عن الشاطئ
بعيداً عن المقاهي الشاطئية التي ينشغل معظم زبائنها بلعب النرد، يخيم الهدوء على المقاهي داخل المدينة، كمقهى الربيع المطل على شارع الجلاء وسط غزة. يصدح منه صوت أم كلثوم ويتصاعد راقصاً على الأنغام ضبابُ دخان النرجيلة. يعد رواد هذا المقهى أكثر وقاراً وأكبر سناً. رجال في سن التقاعد يحاولون محاربة الضجر اليومي. ينغمسون في مطالعة الصحف والأخبار حتى آخر رشفة في فناجين القهوة الشفافة أو حتى أكواب الأعشاب التي يحافظون على تناولها كمزيل للبلغم.الغاضب والواعظ في مقهى السلام
الجو مختلف في مقهى السلام المطل على البحر غرب غزة. القاسم المشترك بين رواده الشباب هو محاولة الهروب من الواقع المأسوي، حيث لا فرص للعمل ولا للسفر ولا حتى جدوى من تنفيذ مشاريع صغيرة في ضوء تدهور الوضع الاقتصادي. يخوض مهند عبد الله (25 عاماً) جدلاً عميقاً حول مستقبل قطاع غزة بعد حصول أزمة رواتب الموظفين الحكوميين، مع شريكه الحاج أبو خالد (65 عاماً)، وقد جمعتهما الصدفة حول طاولة واحدة. يقول مهند وهو خريج كلية إعلام: "من غير المقبول أن نبقى صامتين إزاء الوضع الراهن، ولأن لا أحد يسمع صوتنا من السياسيين فنحن نجد في المقهى متنفساً للنقاش حول الواقع، دون الخوض في المحظور"، في إشارة إلى الامتناع عن طرح القضايا الأمنية خشية من الملاحقة. أما الحاج أبو خالد، الذي تقاعد قبل خمس سنوات عن العمل في سلك التعليم، يستثمر مهنته في إسداء النصائح للشباب المحبطين."حينما يكون المجتمع ظالماً يصبح السجن أكثر راحة، ها أنا أقضى وقتي في المقهى وحيداً" قصص من مقاهي غزة
يستهلك أهل غزة 5 أطنان من البن كل يوم، تعينهم على السهر الطويل. فما الأحاديث التي تدور في المساء؟يشعل سيجارته التي انتهى لتوه من لفها ويقول كالواعظ: "لا لوم على الشباب الذين تعطلت أحلامهم وطموحاتهم، ولجأوا للمقهى للترفيه عن أنفسهم، فهم مصابون بالاحباط"، يقول هذا ويحث الشباب على الهجرة. يقاطعه النادل تامر وهو خريج كلية تجارة ويعمل بمقابل مادي (250$ شهرياً) مستنكراً النصيحة بانفعال ومتسائلاً: "عن أي هجرة تتحدث عم أبو خالد، هل هناك معبر مفتوح أصلاً حتى نهاجر؟". سؤال أصاب الحاج بالصمت. كان تامر، ابن الرابعة والعشرين، قد استنزف نحو 1700$ لاستخراج فيزا للسفر، لكن تأخر فتح معبر رفح حال دون ذلك. وهو يتجه الآن للبحث عن فرصة عمل آخرى تعينه للإنفاق على زوجته وطفلهما. أكمل جمع الأكواب الفارغة عن الطاولات، ثم قال متهكماً على أحد الزبائن الذي ارتشف فنجان قهوته المتخثر "أشرب لعلك تنسى".
عن السجن والوحدة وكرة القدم
إلى إحدى طاولات مقهى الشراع، المطل على شاطئ بحر غزة، عشية مباراة فريقي ريال مدريد وبايرن ميونيخ، سيطرت نوبة ضحك على خمسة رفاق تراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين. كانو يسخرون من ظروف الموظفين الذين استقطعت الحكومة 30% من رواتبهم. فعلق أحدهم: "حتى تعلموا قيمة البطالة، ها أنتم تنعمون بالحياة، والموظفون يصابون بالجلطات القلبية على أثر استقطاع جزء من رواتبهم". يبدي صاحب المقهى، ماهر سليم، أنزعاجه من تراكم الديون على زبائنه العاطلين عن العمل. فقد فاق بعضها الألف دولار. يعلم معظمهم تسعيرة المقهى عن ظهر قلب، لكنهم لا يتوقفون عن المساومة لتخفيض قيمة الفاتورة نظراً لظروفهم المالية. تعالت بجوار مكتبه أصوات أربعة شبان يلعبون النرد. يقول إنه يغلق مقهاه بعد منتصف الليل في التوقيت الشتوي، بينما يستمر بالعمل حتى ساعات الفجر الأولى في الصيف. حالما بدأت أحداث الشوط الأول من المباراة التي تعرض على لوحة كبيرة مضيئة، أنهمك الشبان بالتشجيع والتصفيق الحار لفريق ريال مدري. بعيداً عنهم، جلس الشاب الثلاثيني محمود عبد الله (اسم مستعار). مد ساقيه أمامه على كرسي اسنفجي وعلق نظره في سقف المقهى ملاحقاً الدخان المتصاعد من أنفه. باتت العزلة حاله بعدما خرج من السجن الذي قضى فيه عامين كاملين على خلفية سرقة مبلغ من المال من أحد أقاربه. محمود، الذي احاطت عينيه هالات داكنة، يرى أن العودة للسجن أكثر راحة من المكوث خارجه. فالحياة خارج الأسوار، برأيه، تعني الاصطدام بوحش البؤس الذي تعانيه البلد. عدا فقدانه القدرة على العمل بعدما ذاع صيته بأنه "لص". "لا أحد يقبل تشغيلي حتى في تنظيف دورات المياه. حينما يكون المجتمع ظالماً يصبح السجن أكثر راحة، ها أنا أقضى وقتي في المقهى وحيداً"، يقول محمود ثم يعيد سماعة هاتفه إلى أذنيه متصفحاً موقع فيسبوك، وناهياً الحديث.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...