حينما يغطس مصطفى السيد (55 عاماً) في بالوعات الصرف الصحي يخلع حذاءه حتى لا يذوب من قذارة المياه، بحسب وصفه، وينزل حافياً.
يخشى السيد دوماً على حذائه من التلف فيضطر حينها لشراء حذاء جديد يكلفه 150 جنيهاً (حوالي 8 دولارات). لكنه لا يخشى على نفسه من النزول في مياه قذرة، دون تزويده بملابس واقية، مع أنها تغمره من أطراف أصابعه حتى رقبته.
يربطه زملاؤه بحبل وينتظرونه في الأعلى لكي يسحبوه بعد أن يتم مهمته: تطهير البالوعة.
السيد هو واحد من عشرات الآلاف الذين يعملون كغواصين بالصرف الصحي في مصر، وهي مهنة يقوم بها المواطنون لأن كلفة آلات التنظيف ضخمة ولا تتحملها الدولة.
"رائحة الماء تهرب منها الحشرات"، يقول السيد لرصيف22.
دون ملابس خاصة تقيهم من جراثيم الماء، وهم مُعلقون بحبال حماية مهترئة، يعمل غواصو الصرف الصحي نحو 9 ساعات كل يوم، يغطسون خلالها في نحو 8 بالوعات، مقابل 1000 جنيه في الشهر (حوالي 55 دولار). وفي يوم يسمى "يوم التطهير"، يغطس العامل منهم في نحو 22 بالوعة.
إنهم يواجهون مخاطر تقضي عليهم أحياناً، هي ليست بالضرورة جزءاً من طبيعة عملهم، ويمكن تفاديها لو أتيحت لهم ظروف عمل مناسبة.
كل يوم ضحية جديدة
يقول وهبة جمال (58 عاماً)، أحد غواصي الصرف الصحي، إن المقابل المادي الذي يحصلون عليه ضئيل جداً، والمهنة لا يحتملها أحد. ويضيف: "عليك احتمال أن تغطس في مياه صرف صحي لتقوم بتطهير بالوعة بلا ملابس واقية ولا ملابس مخصصة لذلك". لكن ظروف العمل القاسية وقلة المردود المادي ليست أصعب ما في المهنة، بحسب إسماعيل جلال (57 عاماً)، بل موت غواص بسبب قلة التجهيزات والاستعداد. فهناك، بحسب جلال، بالوعات لم تُفتح منذ سنوات، معبئة بالغازات السامة، ونزول العامل فيها يعني وفاته خلال دقائق. لذا لا بد من إجراء اختبارات للحُفر قبل النزول فيها، وهو ما لا يحصل في الكثير من الأوقات. يقول جلال إن هناك بعض الاختبارات البدائية التي يمكن للعامل أن يقوم بها قبل الغطس، كأن يبحث عن حشرات ليتأكد أن الغازات لم تقتلها، لكنها في المحصلة لا تكفي. كما أن حبل النجاة الذي يُربط به العامل مهترئ وقديم، فلا يستطيع العمال سحب الغواص إذا فقد الوعي لأن جسده سيثقل بما يفوق قدرة الحبل على الحمل. وتتناقل الصحافة المصرية أخباراً عن شبكات الصرف الصحي بروض الفرج أدت إلى موت غواصين لوقوعهم في بالوعات بلا قاع. لا توجد إحصائية تذكر عدد العمال الذين فقدوا حياتهم في هذه المهنة وإن كان يمكن تقديرهم بالآلاف، وفقاً لمراقب في إحدى شبكات الصرف الصحي، رفض ذكر اسمه. وقد أكد أن المحافظات والأقاليم والأحياء الشعبية تشهد معظم هذه الحوادث، خاصة حالات الاختناق بالغازات السامة.مشكلة لن تنتهي
يرى المراقب، وفقاً لما يرصده من أوضاع العمل، أن البالوعات ستظل تبتلع العمال، لأن الدولة لا تتخذ أي إجراء للحفاظ على حياتهم، أو تغيير ظروف عملهم. ولفت إلى أن العمال يجب أن يخضعوا لكشف طبي دوري لضمان خلّوهم من أّي عدوى أو إصابة، كما يحتاجون إلى مرتب مجزٍ، لأّن بعضهم يضطر للعمل ساعات إضافية لزيادة دخله. "نحن لا نطالب بكل هذا، لأن أقصى أحلامنا توفير إجراءات حماية تضمن خروج العمال من البالوعة وهم على قيد الحياة بالأساس"، يقول لرصيف22.كالعملة النادرة
يجلس السيد في مقر هيئة شبكات الصرف الصحي في منطقة روض الفرج حيث يعمل، منتظراً عودة الغواصين من عملهم الميداني. يقف أمامه عامل يرفع بنطاله إلى منتصف ساقه، ويربط رأسه بقطعة قماش، ويحمل بيده أسياخ حديدية طويلة يستخدمها في عملية التطهير. يقول: "في بداية عملي كان هناك 100 عامل في المنطقة التي عُيّنت بها، أما الآن فلا يوجد في المنطقة نفسها سوى أقل من نصف هذا العدد، مطلوب منهم إنجاز كمية العمل نفسها، التي كان يُنجزها الـ100". فقد ازداد عدد المنازل منذ أن استلم عمله من 30 عاماً تقريباً. "أصبحوا كالعملة النادرة"، يقول محمد جلال، المسؤول عن تلقي الشكاوى في البلدية المصرية. في الماضي، كان عمل غواصي الصرف الصحي يندرج تحت إدارة تتبع وزارة مرافق مياه الشرب والصرف الصحي. أما اليوم، فيتبع عملهم للشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي التي تأسست سنة 2004، والتابعة للدولة. تنخرط فيها 25 شركة في 27 محافظة، ويبلغ عدد العاملين فيها نحو 126 ألفاً، من بينهم غواصو الصرف الصحي. ويُقدر عدد الغواصين اليوم بعشرات الآلاف على مستوى الجمهورية، وهو في نقصان دائم، فمن الصعب استبدال من يبلغ سن التقاعد أو من يفقد حياته خلال العمل، بسهولة، لأن المهنة لا تجذب إليها الشباب بسهولة. يرى جلال أن مهنة الغطس "تفتح بيوت آلاف الأسر"، ولا يحبذ استبدال اليد البشرية بآلات للحفاظ على صحة وأرواح العمال. "لمَ تريدون أن تستبدلوها بآلات، فكل ما يحتاجون إليه هو بعض الاحتياطات الأمنية فقط حتى لا يفقدوا حياتهم داخل البالوعات"، يقول لرصيف22.مهنة الآباء لا يتقبلها الأبناء
حينما يعود مصطفى الذي رفض ذكر اسمه كاملاً إلى أولاده في المنزل، تبدأ مشكلة جديدة. يقول إنهم يخجلون من مهنته، ولا يخبرون أصدقاءهم أو أساتذتهم بطبيعة عمله. ويطالبونه بتغييرها، والعمل في أي مجال آخر مثل كنس الشوارع وتنظيف القمامة. يواجه السيد كل هذا بالهرب إلى العمل أو إلى المقهى. فالحالة الاقتصادية المتدهورة في مصر تخيفه كثيراً، فهو لا يريد أن يضحي بدخله الشهري الوحيد، الذي يصل إلى 1000 جنيه (حوالي 48 دولاراً)، رغم أنه لا يكفي العائلة في ظل غلاء الأسعار. يقول: "هو حد لاقي شغل عشان أسيب شغلي في السن ده وقبل ما حد منهم يشتغل؟ أنا مش عاوز أتسول في آخر عمري، وهفضل في شغلانتي إلى أن أسوي معاشي".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...