استقبال الأعياد في المقابر من إحدى المظاهر الاجتماعية التي قد تبدو غريبة في أول أيام الأعياد الإسلامية (عيد الفطر وعيد الأضحى)، لما من تناقض بين أجواء العيد المرحة، وذكريات الغياب المؤلمة.
أغلب المسلمين، عند انتهائهم من أداء صلاة العيد بعد صلاة الفجر، يسارعون لزيارة المقابر حيث يرقد أحبابهم ليلقوا على رفاتهم السلام ويعايدونهم قبل الأحياء، حاملين بأيديهم القرآن الكريم، رافعين أكفّهم لتلاوة الدعاء وقراءة الأذكار. يحمل الجميع باقات من الآس (الذي يباع عند مداخل المقابر بسعر نصف دولار للباقة الواحدة / 100 ليرة سورية) مكللة ببطاقات كتب على بعض منها إهداءات مؤلمة، تتمنّى للمتوفي عيداً سعيداً والرجاء بلقاء قريب!
هنا ترقد أناس أعزاء يصعب نسيانهم، لذا تنطوي زيارة قبور الأحباء في الأعياد على جوانب نفسية عدّة وتحمل الكثير من المعاني الإنسانية للزائر، فمثل هذا النوع من الزيارات يمثل وفاء الشخص لفقيده وإحياء لذكراه، وعلاجاً نفسياً وعزاءً له على فراقه.
مع ذلك، لهذا التقليد الاجتماعي وجه غريب. كل الذين يمارسونه يعلمون أن جزءاً كبيراً من علماء المسلمين ودور الإفتاء في الدول الإسلامية يجمعون على أنّه بدعة، لا سنّة عن رسول الله. يكفي البحث عن الحكم الشرعي لزيارة المقابر أولى أيام العيد في أي محرك بحث على الأنترنت للتأكد من ذلك. في المقابل، هناك من يفتي بجوازها في العيد وغيره شرعاً لقول النبي محمد: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكرة للآخرة".
ها هي أم إيهاب تجلس بجانب قبر ابنها تنظفه، تسكب الماء فوقه وتثبت الورود. تتحدث مع فقيدها وتعتني به، وهو داخل قبره كأنه حـيّ.
تزور إيهاب ذي الـ 22 ربيعاً الذي استشهد العام الماضي على يد قناص مجهول، ودُفن في مقبرة الباب الصغير في دمشق حيث يرقد بلال بن رباح الحبشي وسكينة ابنة الحسين والوليد ابن عبد الملك من بين آخرين.
تقول أم إيهاب: "صباح يوم العيد يجتمع كل أولادي حولي بملابسهم الجديدة، فأفتقد إيهاب بينهم و أشعر بالحنين له فأحمل في جعبتي المال لتوزيعه على الفقراء وأقدم ما تيسر منه بنية الصدقة الجارية على روحه. فأنا في الحقيقة ما زلت لا أستطيع العيش في واقع لا يحتويه. ومن منّا يمكنه أن ينسىقصيدة الشاعر الكبير نزار قباني في رثاء ابنه توفيق: "لو كان للموت طفلٌ لأدرك ما هو موت البنين، ولو كان للموت قلبٌ تردّد في ذبح أولادنا الطيبين، أتوفيق... إني جبان أمام رثائك، فارحم أباك".
أما أبو وائل فيقول متذكراً والده: "أشعر أنني قريب من والدي عند زيارتي لقبره، فأحب أن أمر وأعايده وأدعو له، سواء كانت هذه الزيارة بدعة أم لا! المهم إنها غير محرمة"، ثم يضيف بشيءٍ من الحنين: "عوّدني أبي منذ طفولتنا على زيارة المقابر، فهي برأيه صلة للرحم ومن الواجب علينا معايدتهم في اللحد شأنهم شأن الأحياء. لذا أنا وزوجتي هنا لمعايدة والدي ووالديها وأخي وابنه اللذين استشهدا أثناء انفجار المرجة. حتى أن أبي كان يوصيني أثناء مرضه بزيارة قبر جدي نيابة عنه، وتوضيح سبب غيابه عن زيارته في العيد".
فاطمة، التي جاءت لتزور قبور زوجها وأقاربها مصطحبة أبناءها وأحفادها الخمسة عشر (بملابس العيد) تبدو حاسمة عندما تقول "ليس هناك من عيد إذا لم نزر المقابر".
كل من قابلناهم في هذه المقبرة صباح عيد الأضحى، تنبض قلوبهم وتنادي بحياة أحبائهم. غالباً ما يعبرون عن أحزانهم العميقة بالبكاء وبالدموع، يحاولون جمع انكساراتهم ولا يعلمون كم من الوقت يحتاجون ليتخلصوا من شدة الألم الذي يسكن قلوبهم، معزين أنفسهم بأن أحبتهم انتقلوا إلى مكان أنقى وأطهر وأصدق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...