خرجتُ من المنزل في عينكاوا بأربيل صباحاً كالعادة للمشي في الشوارع المؤدية إلى طريق ترابي وسط حقل تقطنه العصافير والقبرات والنمال وكافة أنواع الحشرات الطائرة والزاحفة، من دودة الربيع بردائها المخملي إلى الأفاعي التي حظيت بلقاء مع إحداها. كانت أفعى صغيرة، ورائعة الجمال بلونها الأخضر الفاتح. هربت مني متلوية ودخلت بين أدغال الحقل التي هي عبارة عن سيقان عشبية خضراء تعج في داخلها زهور برية أخَّاذة، لم أستطع تحديد إسم لأي منها.
لكن العصفور الصغير المتدرب لم يفلت مني كما فعلت الأفعى. كان قد خرج من حديقة المنزل القريب من بيتنا على الأرجح من تحت الباب الحديدي. ذلك أنه لم يكن ليقوى على الطيران بعد، فقد كان يقفز وسط الشارع باتجاه الباب الحديدي للعودة إلى حديقة المنزل حيث أصدقاؤه وأهله على الشجرة داخل السور. كان قد فضَّل اكتشاف العالم الخارجي سيراً على الأقدام عوضاً عن الانتظار ريثما يتعلم الطيران. اقتربتُ منه فبدأ يسرع بخطاه القافزة باتجاه الباب الحديدي. اقتربتُ أكثر فشعر بالخطر الداهم، وبغريزته المحبّة للطيران رفرف، لكنه لم يرتفع أكثر من شبر عن إسفلت الشارع. بدأت قفزاته تأخذ طابعاً متوتراً، وكان على الأرجح يفكر بندم كيف أن دراسة الطيران، كما قالت له والدته العصفورة، ضرورية قبل التعرف على العالم الخارجي الواسع: لا يمكنك أن تذهب إلى مطعم الكباب القريب قبل أن تتعلم الطيران. كان أصدقاؤه يمضون إلى رصيف المطعم ويأكلون هناك بقايا الكباب المرمية، كباب؟! نعم كباب..
العصافير هنا، أيضاً، تأكل الكباب. تذكَّر العصفور كيف كان يشاهد أصدقاءه من سريره على الشجرة يتقافزون على الرصيف بسلام وهم ينقرون ما رماه عمال المطعم من بقايا. كما أنه علم منهم أن الزيارة إلى هناك ليست خطرة بسبب انعدام وجود القطط ولا مبالاة المارة بالعصافير. لا قطط تُذكَر هنا في أربيل. هنا بلاد العصافير، وهكذا جاءته الفكرة اللعينة، فما إن خرج الوالد صباحاً كي يجلب له ولوالدته الغذاء من مطعم أبعد قليلاً يقدم "الباجة" (أو "السجقات" باللهجة السورية) حتى انتظر انصراف والدته في مشوار شخصي غامض ورمى بنفسه من على الشجرة مرفرفاً كي يهبط بسلام. ومشى بطريقة القفز العصافيري باتجاه الباب الحديد وانسل من تحته بسهولة إلى الخارج. أووووه، يا للهول، هناك سيارات كبيرة تمر مسرعة. لا بد من الحذر. سأجتاز هذا الشارع وأتجه إلى المطعم، لكن هذه السيارات لا تنتهي، إنها قاتلة، هكذا قال لي أبي. يا إلهي، هذا الشخص يلاحقني أيضاً، يريد أن يمسك بي، سيضعونني في السجن، لا شك بأنه مخطئ، فأنا لست مطلوباً، لم أرتكب أي خطأ، لم أسرق ولو حبة قمح، ولم أنتسب إلى أي سرب حتى الآن، أصلاً لم أتعلم الطيران بعد! هل ارتكب والدي خطأً ما؟ هل سيقبض علي كي يضغط عليه ويسلِّم نفسه؟ هيا إلى الطيران، هيا... رف رف رف رف رف دج.. آاااخ. مددت يدي بسرعة وأمسكت بالعصفور المتدرب. ولأنني أحسست بشعوره فلقد أفلتّه فوراً كي لا يعيش حالة من القلق. وبدفعة خفيفة من يدي أضحى صديقنا عصفوراً طياراً يرفرف بقوة وتسارع كي لا يسقط من جديد. ونجح بالوصول إلى شجرة العائلة غير مصدِّقٍ أنه طار.
لاشك بأنها يد السماء. لقد أنقذتني معجزة من الموت. يد غريبة ظننتها لوهلة ستخطفني إلى ظلام السجون أو الموت. لكن الوهلة انتهت لأجد نفسي طائراً حراً في الفضاء، إلا أنَّ الأصدقاء لا يصدقون للأسف، بل وإنهم يسخرون من المعجزة التي حصلت لي. أما أبي فلم يتوقف عند المعجزة بل بهدلني بسبب خروجي قبل تعلم الطيران أيَّما بهدلة يا شباب، إضافة إلى "كم كفّ" اعتيادي من كفوفه الأبوية ورفسة دفعت بي إلى الفراش. لم يبق لي سواك يا أمي الحنون... لكن أمي أسبلت لي عينيَّ وقالت: "نم يا صغيري نم". ثم التفتت إلى أبي وقالت: "الولد سخنان".
تم نشر هذا المقال على الموقع بتاريخ 01.08.2013
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامحلو نعرف ان كان اسلوب البرنامج ينجح في خلق نقاش حقيقي حول قضايا حقوق المرأة...
Chrystine Mhanna -
منذ 5 أيامصعب يا شربل.. معظم الناس لا يتحدثون صراحة عن تجاربهم الجنسية/الطبيّة وهذا ما يجعل من هذا الملف ضروري
Ahmed Gamal -
منذ أسبوعتقديم جميل للكتابين، متحمس اقرأهم جداً بسبب المقال :"))
Kareem Sakka -
منذ أسبوعما وصلت جمانة لهون الا بعد سنين من المحاولة بلغة ألطف..
Charbel Khoury -
منذ أسبوعموضوع مهم، وغير مسلط الضوء عليه كثراً في المواقع المستقلة.
يا ليت استطعنا قراءة تجارب أكثر.
Farah Alsa'di -
منذ أسبوعبحب كتابات جمانة حداد بالعادة، بس مرات بحس أنه اعتمادها الأسلوب الاستفزازي ما بحقق الهدف اللي هي بتكتب عشانه