"هذه الكنيسة بمثابة المعجزة، هي أقدم كنائس مصر وقد شيدت فوق حصن بابليون الروماني على ارتفاع 13 متراً فوق سطح الأرض". التفتّ إلى مصدر الصوت فرأيت شابة أربعينية تقف خلفي، تبتسم، ثم تكمل كلامها عارضة، بما يشبه الإلحاح، أن تخبرني قصة الكنيسة المعلقة، وهي أبرز معالم مجمع الأديان الواقع في مصر القديمة.
لم تكن تلك المرة الأولى في المجمع، ولا البحث الأول في قصص ذلك المكان الساحر الذي يجمع بين مسجد عمر بن العاص ومعبد بن عزرا اليهودي، وبين مصر القبطية وفيها كنيسة القديسة بربارة وماري جرجس والمعلقة وأبو سرجة والمتحف القبطي.
لكن لم يكن ثمة مجال لرفض عرض الشابة، فالزيارة تأتي بعد تفجيري الكنيستين الدمويين يوم أحد السعف، وما تبعهما من اعتداء على دير سانت كاترين الأثري، ما يجعل للكلام عن المكان وقصصه التاريخية طعماً آخر.
طعم تعكسه عيون سكان المكان ورواده، وتنطق به ألسنتهم. لدى هؤلاء قلق فاضح دهمهم بعد الاعتداءات الأخيرة يحاولون تهدئته بطمأنينة التواجد في مكان مسالم كالمجمع، بينما ينشدون سلاماً داخلياً وتسامحاً أوصاهم به السيد المسيح من أجل تهدئة كل ما يعتمل في نفوسهم من غضب وعتب.
يكثر في المكان المصلون والمتباركون، ويغيب بشكل شبه تام السياح الذين كانوا ينعشون المنطقة منذ فترات ليست ببعيدة. لم تشتك الشابة، بل استحضرت كل قصص القوة التي "أنصف بها الله ذلك المكان".
تحدثت عن استضافة العائلة المقدسة هرباً من بطش ملك اليهود هيرودوس، وغاصت طويلاً في قصة القديس/الإسكافي سمعان الخراز الذي وهبه الله بالصلاة وحدها قدرة نقل الجبل (جبل المقطم) تلبية لطلب الخليفة الفاطمي المعز لدين الله.
"الصلاة وحدها ستنقذنا كما أنقذت المسيحيين قبلنا"، تجزم الشابة، رافضة السؤال عما إذا كانت تلك النزعة استسلامية بعض الشيء، لا سيما في وجه الهجمة المتطرفة التي تهدد أقباط مصر. رددت الآية نفسها من الإنجيل التي سمعتها من آخرين مراراً في اليوم نفسه وفيها "من كان له إيمان مثل حبة خردل، فإنه يقول للجبل انتقل واسقط في البحر".
وكغيرها، كانت قد سمعت بزيارة البابا فرنسيس القريبة إلى مصر، بدأت بالكلام عن سعادتها وعن دعوتها الله بحفظه، قبل أن تلمح عائلة تدخل المكان فتسرع ناحيتهم لتخبرهم قصص الإيمان والقوة.
البابا يصرّ على الزيارة
"يا شعب مصر الحبيب، السلام عليكم، بقلب فرح سأزور بعد أيام قلائل وطنكم العزيز، مهد الحضارة وهبة النيل وأرض الشمس والضيافة، حيث عاش الآباء البطاركة والأنبياء وحيث أسمع الله صوته لموسى". بهذه الكلمات قطع البابا فرنسيس شك التزامه بزيارة مصر بعد الاعتداءات الأخيرة، بيقين الإصرار على "شرف زيارة الأرض التي زارتها العائلة المقدسة"، وذلك يومي الجمعة والسبت المقبلين، كما جاء في كلمته المصورة. وكانت أصوات عدة ارتفعت مطالبة بإلغاء الزيارة، التي أتت بدعوة من الرئيس عبد الفتاح السيسي، مراعاة للجانب الأمني، لكن البابا بدا مصراً، حتى أنه أكد عدم استخدامه سيارة مصفحة للتجول في الشوارع مواصلاً نهج الباباوات الآخرين في البقاء على مقربة من الناس. وبحسب ما نقلت صحيفة "لا ستامبا" الإيطالية عن الفاتيكان، لا وجود لمخاوف أمنية بالغة، ولا إجراءات أمنية غير اعتيادية عن زيارات البابا الرسمية. كما كان المحافظون الكاثوليك قد طالبوا بإلغاء الزيارة، لإيمانهم بعدم وجوب قيام حوار مع المسلمين في هذه الظروف، غير أن كلمة البابا حملت الجواب القاطع حول وجوده في مصر الذي "يشكل إسهاماً مفيداً في حوار الأديان مع العالم الإسلامي وفي الحوار المسكوني مع الكنيسة الأرثوذكسية العريقة والحبيبة"، في "عالم ممزق... يحتاج لمد جسور للسلام والحوار والأخوة والعدل والإنسانية".رفض البابا التجول بسيارة مصفحة رغم الخطر الأمني، بينما دعاه محافظون كاثولكيون إلى عدم الحوار مع المسلمين
لقاء البابا بشيخ الأزهر على رأس جدول الزيارة لتعزيز الحوار الديني، بعد قطيعة 7 سنوات انتهت العام الماضي
رعوية ومسكونية... وإسلامية
لزيارة البابا "حامل السلام" ثلاث محاور أساسية، حددها مدير المكتب الإعلامي في الفاتيكان غريغ بورك، فهي زيارة رعوية لكاثوليك مصر ومسكونية لأقباطها كما هي زيارة انفتاح وحوار مع مسلميها، وتحديداً مع الأزهر. وفي جدول الزيارة، التي قال مسؤولو الفاتيكان أنه نُظم سريعاً، يلتقي البابا بالسيسي، ومن ثم يحضر اجتماعاً مغلقاً مع شيخ الأزهر أحمد الطيب وينتقل وإياه إلى حضور مؤتمر السلام العالمي الذي افتتحه الأزهر اليوم. بعد ذلك، يلقي كلمة أمام دبلوماسيين وأكاديميين ومسؤولين في جامعة الأزهر. كما يلتقي البابا تواضرس الثاني وأسقف الأقصر الكاثوليكي إيمانويل بيشاي. ويقيم قداساً، كما يتجول في سيارته لتحية المصريين ومن أتوا من الخارج لمشاركته الزيارة. في المقابل، استبعد المسؤولون أن يطرح البابا مع السيسي قضية الطالب جوليو ريجيني وحقوق الإنسان باعتبارها قضية بين دولتين، إيطاليا ومصر، في وقت علق بورك قائلاً "لا يمكن أن نجعل الجميع سعيداً... كما هو الحال في كل زيارات البابا". ويعوّل هؤلاء على رسالة السلام التي سيحملها البابا إلى مسيحيي مصر "في مجابهة ظاهرة العنف والتطرف والتعصب باسم الدين"، في وقت يرى كثر في مصر أنها إشارة إيجابية، تشجع الناس على العودة إلى مصر لزيارتها وتخفف من حدة الاحتقان في النفوس.… وسياحية
أما السياحة المسيحية المصرية، التي تتخبط بين ضعف الترويج والاضطرابات الأمنية، فترجو خيراً من الزيارة، علماً أن السياحة الدينية المسيحية الوافدة إلى مصر، والتي تتركز في دير سانت كاترين في سيناء تحديداً، تشكل نحو 3% من إجمالي حركة السياحة. وبحسب عضو لجنة العائلة المقدسة في وزارة السياحة المصرية دينا تادروس، فإن "زيارة البابا تأتي في توقيت هام للغاية، لتبعث رسالة طمأنينة وسلام للعالم، وتدعو للثبات وعدم الوقوع تحت تأثير الخوف من الهجمات الإرهابية". وكان قد تراجع إجمالي عدد السياح الوافدين إلى مصر بنسبة 42% خلال العام 2016.لقاء بعد قطيعة
يصل البابا فرنسيس في الذكرى السبعين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والفاتيكان. في العام 1947، رفض بابا الفاتيكان الضغوط التي كان يمارسها عليه اليهود أثناء نقاش الجمعية العامة للأمم المتحدة موضوع إقامة دولة يهودية في فلسطين. حينها أرسل أول أمين عام لجامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام باشا مذكرة للملك فاروق الذي أمر ببدء لإقامة علاقات دبلوماسية مع الفاتيكان. منذ ذلك الوقت، مرت العلاقة بالعديد من المراحل كان بينها زيارة البابا يوحنا الثاني إلى القاهرة في العام 2000 بدعوة من الرئيس المخلوع حسني مبارك، إلى أن انقطعت في العام 2010، بعد تصريحات للبابا بنديكتوس إثر استهداف كنيسة القديسين، اتُهم فيها بأنه ربط بين الإسلام والعنف. وقرر الأزهر عقبها تجميد الحوار مع الفاتيكان، كما استدعت مصر سفيرتها هناك احتجاجاً على تصريحات البابا. في العام 2014، زار السيسي للمرة الأولى الفاتيكان أثناء جولة له في أوروبا بينما استمرت القطيعة مع الأزهر إلى العام الماضي. ذاب الجليد، في مايو العام 2016، عندما زار الطيب الفاتيكان مطلقاً دعوة سلام بين الأديان، ومنهياً قطيعة بين ثقلين دينيين كبيرين أرخت بثقلها على العالم أجمع. هكذا يستعد الأزهر اليوم، لاستقبال البابا في مصر، التي يشكل المسيحيون 10% من سكانها، بعدما أعاد الفاتيكان الأمور إلى نصابها ورفض مساواة الإسلام بالعنف، معتبراً أن ما يحصل جريمة بحق البشرية جمعاء. قد تكون زيارة البابا حققت مرادها قبل أن تحدث، لجهة الرسائل العديدة التي بثتها، لا سيما التزامها بالموعد المحدد بعد أقل من شهر على الاعتداءات الدامية. عدا ذلك، يبقى السؤال عن قوة "حبة الخردل" في وجه التطرف المتزايد والاستهتار الأمني المتكرر، والغبن الذي يواجهه أقباط مصر، ليس من المتطرفين فحسب، بل من شرائح واسعة في المجتمع، و"الحوادث الفردية" خير دليل.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.