قبل أن ينتقل الإنسان إلى عالمٍ لم يعد منه أحد بعد ليخبرنا بأي شيء عنه، أو يفسر لنا بعضاً من تلك النظريات التي عانينا صداعاً مريراً من كثرة سماعها: "جنة. جحيم. حياة أخرى. عالم من اللاشيء...".
وبعد أن يزورك "عزرائيل" بهيئته التي يجهل البشر ماهيتها، وقبل أن ينسدل التراب وتدخل ذلك العالم الخفي في بطن الأرض، لا بد لك من لقاء أخير فوق سطحها، مع شخص ربما لم يحالفك الحظ برؤيته طوال فترة مكوثك في عالم الأحياء.
في مبنى كبير، يقشعر بدنك حين رؤيته، وإن لم تكن تعلم ما يدور داخله... "المشرحة". كلمة كتبت باللون الأبيض على لافتة سوداء غطاها التراب. مبنى يخيم الصمت على جنباته، له من الأبواب اثنان، باب لدخول الأحياء من الموظفين، والباب الآخر مخصص لخروج الجثث بعد تجهيزها.
غرفة كبيرة، هواؤها بارد يبعث في النفس رهبة. جدرانها منقسمة بين جزء سفلي من السيراميك، الذي تغيّر لونه الأبيض حتى صار بلون السمن البلدي، وجزء علوي من الجدران التي تحولت إلى هياكل كأنما نخرها الدود من شدة الرطوبة وقلة الاهتمام.
صناديق حديدية متراصة بشكل شبه عشوائي، تشبه تلك التي نراها في مخازن البنوك، لكنها أكبر قليلاً ولا أقفال لها، تتسع لجثة آدمي من الممكن أن يمكث فيها بعض الوقت.
يوم حارق وجثث خمس
بدأ العمال يوماً حارقاً من أيام أبريل المتقلب، بتناول فطورهم المعتاد (فول - طعمية - باذنجان مقلي)، على مصطبة خشبية بالقرب من باب المشرحة، قبل البدء بالأعمال المنوطة بهم.
عدد الموتى قليلٌ نسبياً هذا الصباح، هناك خمس جثث تحتاج إلى تجهيز قبل تسليمها لعائلاتها. جميعهم موتى عاديون حتى الآن. لا توجد أي جثة متفحمة أو متناثرة الأشلاء جراء حادث سير مروع. ربما يكون لدينا واحدة أو أكثر خلال الساعات المقبلة، فاليوم لا يزال في بدايته.
هذا ما تسامروا به خلال فطورهم.
عن بداية عمله في المشرحة، يقول عم جمعة: "أنا مش فاكر بالزبط. بس تقريباً بقالي 25 سنة شغال بالمكان ده (هذا). شفت فيهم اللي مشفوش (لم يره) بني آدم، لأن التعامل مع الموتى له قدسية خاصة. الناس كلها عالخشبة دي (هذه) بتتساوى. أول ما بدأت شغل بالمكان كنت خايف من القصص اللي سمعتها من الناس اللي كانت شغالة قبلي. أي صوت كنت بسمعو جوا المشرحة كنت بفتكر إنو حد من الميتين صحي، لغاية ما أروح أطمن بنفسي إنو كل حاجة زي (مثل) ما هيا. ومع الوقت كل الحاجات دي بقت (أصبحت) عادية جداً. لدرجة إني ممكن في أيام الشتا أنام جوا غرفة المشرحة".
بماذا تبوح الجثث؟
يقول عم جمعة، الذي امتلأ رأسه شيباً وهو على أعتاب إنهاء عقده السادس، يحتفظ بعرج ظاهر في قدمه اليسرى ناتج عن خطأ طبي منذ الولادة: "أي جثة بنتعامل معاها بنكون عارفين هيا عاوزة مننا إيه (ماذا)، ونشتغل معاها إزاي (كيف)، خصوصاً الجثث اللي محتاجة تشريح واللي غالباً بتكون بسبب جريمة واضحة أو شبهة جنائية. يعني من خلال العلامات الظاهرة عالجثة ممكن نعرف طبيعة الجريمة، ونعرف مين اللي عمل الجريمة كمان. مثلاً: مرة جاءت جثة مطعونة بآلة حادة أكثر من تسع طعنات، والجروح كانت عميقة وتقريباً لها مدخل ومخرج كمان. أول ما شفت الجثة دي قلت إن القاتل بيعرف القتيل كويس ودافع الجريمة هو الانتقام. لأنو جريمة بهذا الشكل، أكيد بسبب خصومة معينة بين القاتل والقتيل وكمان تمت مع سبق الإصرار والترصد، عشان كده كل الطعنات نافذة لأن القاتل بيضرب وقصدو القتل بشكل جدي. أما لو كان الدافع السرقة زي ما كانوا يقولوا وقتها، أكيد شكل الجثة هيكون مختلف عن كده. وبالفعل ثبت بعد كده إنو كلامي هوا اللي صح".
المتعجرف
الدكتور بدر، شخصية متعجرفة. رغم أنه لم ينه دراسته، كما أنه لم يدرس في مجال الطب أيضاً، إلا أنه غضب حين نعتناه بـ"عم بدر"، فهو يحب لقب الدكتور، وتفسيره لذلك أنه يعمل في أحد مجالات الطب، فلماذا لا نطلق عليه لقب الدكتور كبقية زملائه الذين يرتدون الزي الأبيض؟
"الجثث تتكلم أيضاً ولكن بطريقة مختلفة عن الأحياء ومهمتنا محاولة فهم الإشارات التي تدلنا عليها"
زيارة إلى المشرحة... ما الذي يجري في هذا المكان الذي يستقبلنا ما بين الحياة والقبر؟
يقول الدكتور بدر: "العمل هنا محتاج أشخاص بمواصفات خاصة. عالم الأموات حياة تانية خالص والأموات كمان بيتكلموا بس أكيد مش زينا (مثلنا) إحنا الأحياء. وإحنا بخبرتنا في التعامل مع الجثث بنفهم كل الإشارات اللي الجثة بتديهالنا".
أصعب مشهد؟
يقول "أصعب حاجة ممكن تشوفها هنا القتلى بتوع حوادث الطرق. وكمان الجثث مجهولة الهوية. عندنا تلاتة منهم في التلاجة اللي بآخر المشرحة بقالهم أكتر من عشرة أيام، والإجراء الرسمي هو إن النيابة تأمر بدفنهم في مقابر الصدقة بعدما يخلص التحقيق والتشريح لمعرفة سبب الوفاة لو كان في اشتباه بجريمة".
عن أصعب المواقف التي عايشها خلال عمله، يقول الدكتور بدر: "كان في حالة شاب في آخر العشرين من العمر، وكانت نتيجة التشريح هبوطاً حاداً في الدورة الدموية بسبب جرعة مخدرات زائدة. حين جاءت أسرة الشاب لاستلامه بعد أن عرفوا المكتوب في تقرير الطبيب الشرعي أثاروا مشكلة كبيرة ورفضوا تسلم الجثة". لماذا؟ أجاب: "لأنه الشاب من وجهة نظرهم مستقيم ومستحيل يكون بيتعاطى المخدرات، وكان طلبهم إعادة فحص الجثة. كانت أم الشاب واقفة على باب المشرحة بتتكلم مع الموجودين كلهم وبتحاول تقنعهم إنو إبنها مستحيل يعمل كده لأنها محرمتوش من أي حاجة».
هل استيقظ أحد من موته؟
via GIPHY«إنو شخص يدخل المشرحة على إنو ميت ونكتشف إنو لسة عايش دي حصلت مرة وحدة، وهي حاجة نادرة جداً. الشخص ده كان داخل بغيبوبة وكل أجهزة جسمه توقفت عن العمل وتم تحويله للمشرحة بعد إعلان الوفاة، وهو استفاق قبل ما يدخل المشرحة طبعاً. يعني كانوا زملائي بيستلموا جثته وفجأة بدأ يفوق بين إيديهم قبل ما ينقلوه من السيارة. طبعاً زي ما قالوا وقتها إنو اللي كانوا حوالين الجثة ارتعبوا من المشهد. بس برضو الحالات دي من النادر إنها تحصل لأن الآن في أجهزة متطورة، والطب كمان تطور عن الأول»، كما يروي الدكتور بدر.
كيف ينظر الأحياء لكم؟
عن تعامل الأحياء معهم، على اعتبار أن لقاءهم يعتبر حظاً سيئاً لبعض الناس، يقول عم جمعة: «الأقارب بيتعاملوا معانا بشكل عادي جداً والناس الكبيرة بالسن كمان لأنهم فاهمين طبيعة شغلنا وإننا بنخدم الإنسان. أما الأطفال بالمجمل بيخافو مننا وكمان الستات بيعتبروا شوفتهم لينا حظ سيىء أو فال شؤم".
فتح باب الثلاجة
via GIPHYطلب عم جمعة مني أن أرافقه إلى داخل المشرحة، ظناً منه أن رؤيتي لبعض الجثث ربما تثري التقرير الصحفي الذي أعمل عليه، وقبل أن يتناول مقبض باب ثلاجة الموتى لفتحها، أمسكت يده طالباً منه عدم فعل ذلك. فالخوف سيطر عليّ وفكرت بخصوصية الأشخاص ولو بعد وفاتهم.
راح عم جمعة يأكد أن في الثلاجة جثثاً كاملة وليس هناك أشلاء. شارحاً أن الجثث التي تأتي بهذا الشكل لا مجال لتشريحها، لأن سبب الوفاة معروف، لكن من المهم جمع أشلاء الجثة ووضعها في كيس أسود، ويُستثنى شرط إقامة الغسل للموتى بهذا الشكل.
حوار تمنيت لو لم أجره مع عم جمعة، صاحب اليد السمراء الخشنة، التي شعرت أن غطاءها الجلدي أشبه بحراشف سمكية، والدكتور بدر، الرجل الأربعيني المتكبر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...