في تمام الساعة 10:40 من يوم 11/10/2013، عند مدجنة مهجورة في شواطئ منطقة الدخيلة بالإسكندرية، في ذات المكان الذي دخل منه نابليون إلى مصر، أعلن "أبو جنّات" ساعة الصفر. لم يكن ذلك الرجل المصري إلا قائداً ميدانياً، يعمل على تنفيذ أوامر قادته الكبار، السريّين، الذين يرسلون تعليماتهم من غرفة عمليات مجهولة عبر جهاز لاسكلي.
"أبو جنات" حوّل الأمر لرجاله المسلحين، فقاموا، بمساعدة كلابهم المدربة، بتنظيم إخراج الرجال والنساء والأطفال، بعد ثلاثة أيام بلياليها قضوها محتجزين في تلك المدجنة البعيدة والنائية عن أعين السلطات المصرية.
لم يكن الـ150 شخصاً إلا سوريين ينتظرون ركوب البحر للعبور إلى "فردوس" القارة الأوروبية، غير مدركين بعد أنّهم سيتصدرون وسائل الإعلام بعد أن يغرق القارب الذي يقلّهم مخلفاً 12 قتيلاً.
تم حمل الجميع في 6 مراكب صغيرة إلى المركب الكبير، الذي كان متوقفاً على مسافة بعيدة. يروي لنا "ناهل. خ" كيف تم سحب السكاكين وإشهارها في وجوه الركاب، بعد صعودهم إلى المراكب الصغيرة، لتبدأ عملية السطو على المال الذي في حوزتهم. يقول ناهل، وهو أب لثلاثة أطفال تركهم في سوريا على أمل أن يجتمع بهم لاحقاً في السويد: "قام أحد أفراد هذه المافيا بالإمساك ببنت صغيرة وهدد أنه سيلقيها في البحر إن لم ندفع، فدفعنا راضخين إنقاذاً للفتاة”.
كانت سماح تبلغ 12 عاماً وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة. “ماتت غرقاً بعد أقل من ربع ساعة"، يقول ناهل. عند الوصول إلى المركب الأساسي، وهو عبارة عن «بوت» قديم لا يتسع لأكثر من 50 شخصاً في أحسن الأحوال، "تم السطو على الحقائب التي تحمل أغراضنا وحاجياتنا، وتمت إعادتها بالمراكب الصغيرة مع عصابة التهريب".
"سندس. ع"، وهي أم لطفلين كانا معها على متن القارب، استطاعت النجاة بهم بمساعدة أخيها "يحيى. ع" بعدما تشبثوا بحقيبة سقطت من السماء لا من المركب (كما تصفها) لتكون بمثابة طوق نجاة.
تكمل سندس جانباً آخر من الحكاية: "ما إن صار الجميع في المركب، وبعد أن سار قليلاً، حتى بدأ الماء يتسرب إليه، اتصل قائده فوراً بأسياده ليخبرهم إنهم معرضون للغرق، فأمروه بأن يكمل سيره. بدا ذلك واضحاً من المكالمة ومن حديث الرجل وصراخه العالي”. قبل انتهاء المكالمة، بدأ المركب بالانكسار من منتصفه، فتتالى الناس في إلقاء أنفسهم إلى الماء. “صار بعضهم يُغرق البعض الآخر” تقول سندس.
تتحدّث سندس بمعنويات عالية. رغم أن الحديث معها يتم عبر التلفون، من سجنها في "كرموس". تعلل سعادتها بعبارة واحدة فقط: "لم أصبح أماً ثكلى".
إبراهيم أسعد الذي لم يبدُ مبالياً بذكر اسمه الصحيح لأنه لن يعود إلى سوريا يوماً، وسيظل يحاول التسلل إلى أوروبا “براً أو بحراً أو جواً” يقول أن: "إنقاذ من تمّ إنقاذه تم بفضل صيادي الأسماك الذين وصلوا إلى من هم أحياء في الساعة الثالثة صباحاً. خفر السواحل لم يقترب على الإطلاق إلا صباحاً، وكان عملهم يقتصر على تدوين ما جرى!".
تتفق شهادات الناجين جميعاً على وصف ما جرى في «قاعدة الاسكندرية البحرية»: "تم تجميع الناجين، وإحصاء الناجين والغرقى، وعوملوا معاملة غايةً في السوء، صحيح أنه في هذه القاعدة قُدم إفطار للجميع، لكن الصحيح أكثر أن هذا الافطار كان يتم تصويره لصالح الإعلام الرسمي".
تم تسليم الجميع لوزارة الداخلية، العائلات بقيت في سجن "كرموس"، أما الأفراد فأُخذوا إلى سجن "الدخيلة يقول إبراهيم الذي غادر مصر مؤخراً بعد سجن طويل بسبب تلف جواز سفره في الماء: "في سجن "الدخيلة" شعرت أنني محتجز لدى عصابة وليس لدى جهاز دولة، فقد وضعت مع موقوفين بتهمٍ عدة، وكان يسمح للموقوفين المصريين بالاعتداءَ علينا، دون أي رادع. لم يفتح عناصر أمن السجن الباب لدخول الهواء إلى المكان الذي احتجزنا فيه إلا مقابل 150$، وصار هذا عرفاً يومياً. كانوا كذلك يقبضون أثمان خرافية مقابل اتصالنا بأهالينا".".
ناهل وسندس وإبراهيم وآخرون، يروون ممارسات عدة كانو ضحيتها فترة احتجازهم، بدأً بسرقة طعامهم الذي كانت تجلبه لهم "مفوضية اللاجئين"، ومقتنياتهم. جثة الغريق محمود عيد التي كانت تحمل في الثياب الداخلية مبلغ 7000$، أُعيدت من المشرحة من دون المال، كما استبدال هواتفهم بهواتف من نوع آخر، أقل جودة وأرخص ثمناً، عند الإفراج عنهم.
تم ترحيل القسم الذي لم تتلف جوازات سفره إلى لبنان فوراً، بينما بقي من فقد أوراقه في الحجز، كي تجري عملية استصدار الجوازات من السفارة السورية. الناجون الفلسطينيون يُجمعون على أن مدير العلاقات العامة في السفارة الفلسطينية في مصر، قام بعملية ابتزاز كبيرة لهم، إذ تقاضى منهم مبلغ 300$ عن كل تذكرة سفر لكل شخص، تبين لهم فيما بعد أن ثمنها الفعلي هو 230 $.
فضلاً عن ذلك، عاشو مشقة العراقيل المختلفة، لا سيما الطفلة "إسراء محمود عيد"، ابنة الغريق المذكور سابقاً. إسراء ذات السبع سنوات ظلت محتجزة حتى تاريخ 7/ 11 لعدم توفر أوراق ثبوتية لها، وكانت مطالبةً بتقديم شهادة ميلاد أو وثيقة تعريف أو قيد نفوس للسلطات المصرية قبل البت بوضعها، رغم ظروفها الصعبة.
ما حدث لمن كانوا على متن هذا المركب، يشبه ما حدث لقوارب أخرى. في نظرهم، يبدو الموت أكثر رأفة أمام الممارسات التي يتلقونها، والمشاكل التي تترتب عليهم، لكون معظمهم قد جمع مال الرحلة التي فشلت إما ديناً، أو عبر بيع بيع بيوتهم وأغراضهم.
نشر الموضوع على الموقع في تاريخ 03.12.2013
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...