في أحد شوارع وسط القاهرة، أسير بخطوات سريعة بعد أن دقت عقارب الساعة معلنةً دخول يوم جديد. بضع دقائق مرت قبل أن أنعطف يساراً في ممر ضيق لأدلف من باب صغير يقف بجواره «عم جمال». الرجل الخمسيني المفتول العضلات هو الحارس الأمين للمكان على مدار العقدين الماضيين.
رائحة عطور رخيصة. أضواء حمراء وصفراء خافتة متقطعة. فتيات أصبن من الجمال أوسطه، يتمايلن على أغنية «آه لو لعبت يا زهر»، التي صارت رمزاً أساسياً للكباريهات الشعبية الرخيصة، وتلك التي يرتادها أبناء الذوات.
تلقفني شاب عشريني مرحّباً بي وكأنني أهم زبون في المكان هذه الليلة. أجلسني إلى طاولة حولها من الكراسي أربعة مغطاة بقماشة حمراء فاقعة، قبل أن يفتح لي النادل زجاجة «آي دي» بطعم البطيخ.
تتبختر أمامي امرأة فارعة الطول في نصف عقدها الخامس. ملامحها توحي بجمال بائد، نالت أجيال سابقة نصيبها منه. عجيزتها العريضة تهتز في ربوع المكان، ومن حولها بعض الفتيات أبصارهن زائغة في الأرجاء، بحثاً عن زبون معجب بما يظهر الظلام من أجسادهن.
جُلتُ بنظري في زوايا المكان لأستطلع أمراً فطنته، فبعد ولوجي أكثر من كباريه من المستوى نفسه أدركت أن الزبائن في الكباريهات الشعبية غالباً ما تكون من فئة العمال وأصحاب السوابق، إلى جانب بعض زوار القاهرة الذين أتوا من الأقاليم لقضاء مصلحة ما... بخلاف النوادي الليلية التي يرتادها أبناء علية القوم، والتي تتوزع في مناطق معينة كحي المهندسين الراقي ومنطقة التجمع.
هذا النوع من النوادي الليلية له زبائن من نوع آخر، وغالباً ما يكون الزوار أنفسهم كل يوم. وفي تلك الأماكن يحظر استقبال الغرباء، إلا إن كانوا من الأجانب أصحاب العيار الثقيل، كما يحظر استقبال أولئك الذين يثيرون الشغب أيضاً.
"ريكلامي" لهذه الليلة
يدٌ تبدو رقيقة حطت على كتفي. امرأة خصال شعرها نافرة بللها رذاذ قرع الكؤوس. أنفاسها التي تفوح منها رائحة الخمر المغشوش تعصف بوجهي. بضع كلمات أظهرت خلالها بعضاً من الود والترحاب. تسألني إن كنت بحاجة إلى المساعدة... لكن... ترى ما هي المساعدة التي يمكن أن تقدمها سناء (كما عرّفت عن نفسها لاحقاً)، لشخص مثلي؟ بدأت السهرة برفقة «سناء»، المرأة الثلاثينية التي تخفي ملامحها بألوان قوس قزح لطخت وجهها. سناء تعمل في هذا المكان بوظيفة «ريكلام». تلك الكلمة التي يتم تداولها على نطاق واسع في عالم الليل الذي تحكمه قوانين خاصة، لا يستطيع رواده مخالفتها. «ريكلام»، هي كلمة تركية تعني «الدعاية الفموية»، وتطور هذا المصطلح في عالم الكباريهات ليطلق على فتيات دورهن إغواء الزبون واستدراجه والعمل على تهيئة جو من السعادة، وهذا بدوره يعود بالنفع على المكان، لأن «الريكلام»، تساهم برفع قيمة الفاتورة. وقد جسدت السينما المصرية نموذج فتاة «الريكلام» من خلال عدد من الأفلام، أهمها فيلم اسمه «ريكلام»، تدور أحداثه حول أربع فتيات تعرضن لظروف قاسية أجبرتهن على السير في طريق البغاء... بالعودة إلى سناء التي تنظر إلي بغرابة ملفتة، قائلة: «إنتا إيه نظامك؟». لأرمقها بنظرة استغراب قائلاً: «المفروض أنا اللي أسألك السؤال ده... إنتي إيه نظامك؟». سناء: «أنا ممكن أتحرك معاك بأي وقت يناسبك... بس الليلة هتكلفك ألف جنيه (45 دولاراً)». أسعار الخدمات الجنسية هنا يتم تحديدها بناءً على الزبون نفسه، فالزبائن الأجانب، وخصوصاً أولئك الذين ينحدرون من دول الخليج، هم من يدفعون أعلى الأسعار، ويختارون أجمل الفتيات أيضاً. وقد تصل كلفة الليلة الواحدة لزبون من هذا النوع إلى نحو 300 دولار. يكون نصيب الفتاة نحو 25% من المبلغ المدفوع، والباقي يتوزع بين إدارة الكباريه الذي تعمل فيه، و«القواد» المسؤول عن تشغيلها وحمايتها. أما الزبائن المحليون فيتم التعامل معهم بطريقة بسيطة، وغالبيتهم يطلب خدمات سريعة في المكان كقبلة سريعة أو لمسة عابرة تطال أي مكان قد تصل إليه يد الزبون، مقابل بعض الأوراق النقدية ذات قيمة منخفضة، بحسب ما قالت سناء خلال حديثنا. مددت يدي التي تحمل مائة جنيه (5 دولارات) من تحت الطاولة لتتناولها سناء وتخفيها في زوايا جسدها الذي يمتاز بتضاريسه المتقلبة بين مرتفع ومنخفض. بابتسامة ودٍ انصرفت لتفعل ما فعلته معي على طاولة أخرى ومع زبون آخر... لم تكد الزجاجة أمامي تنتهي حتى ناولني النادل أخرى. صاحبة العجيزة العريضة تجول حول طاولتي، فمها يتحرك بطريقة غريبة كأنما يجري وراء قطعة لَدِنَة فقدت نكهتها منذ ساعات طويلة. اقتربت بصدرها العامر مستندة على كتفي قبل أن تأخذ الزجاجة من يدي وتحتفظ بها لنفسها، ثم قالت للنادل أن يفتح لي أخرى وهي تتحسس يدي قائلة: «إيه العسل ده يا خواتي»... مضى بعض الوقت قبل أن أشير إلى سناء حين جاءت تتعمد الالتصاق بي طمعاً بورقة نقدية أخرى. يقال إن الإنسان يفقد قدرته على الكذب والمراوغة حين يكون غائباً في سكره... لا علم لي بمدى صدق هذا القول أو كذبه. «أنا أعمل منذ 3 سنوات بعد أن تخلى عني كل من حولي، بعد طلاقي، وإخوتي اعتبروني عبئاً عليهم. لدي طفلان يجب أن أطعمهما وأؤمن لهما الملابس ومصاريف المدرسة، خصوصاً بعد أن تخلى عنا والدهما. تعتقد في هذا الوضع ما الذي يمكنني أن أشتغله؟ أكيد يجب أن أعمل في "أقدم شغلانة" في التاريخ كما قالت ليلى علوي في فيلم المساطيل». قبل أن تقطع سناء حديثها لتتناول الزجاجة أمامي، ويفتح النادل أخرى تضاف إلى الفاتورة التي يبدو أنها ستنهي على ما تبقى من المرتب.المرغوبة
نجاة فتاة قصيرة القد، تنتشر في الكباريه وكأنها مجموعة من الأشخاص، تراها تتنقل بين طاولة وأخرى طمعاً في الحصول على بعض المال المقابل لخدماتها، التي تتمثل بالقبل واللمس أحياناً. حكايتها تدور في رواية أخرى، هي الهاربة من عائلتها التي تتمسك بالعادات والتقاليد القديمة القائمة على أن المرأة مكانها الطبيعي هو المنزل ليس أكثر. حين قررت التمرد على تلك القوانين تعرضت لأبشع تعذيب من جانب عائلتها، ما دفعها إلى الهرب والمجيء إلى القاهرة أملاً في مستقبل مبهر، قبل أن ينتهي بها الأمر كـ«ريكلام» في كباريهات وسط البلد. أشرت بيدي إلى فتاة أظن أنها لم تتجاوز بعد عقدها الثاني. فملامح الطفولة تبدو في محياها وحمرة الخجل تكسو وجهها، قبل أن تطلق سناء ضحكة عالية أيقظت السكارى من حولنا... «دي جي جي... إسمها جيهان... أتت منذ شهرين تقريباً، بنت "لهلوبة" (كلمة تستخدم للدلالة على النشاط في العمل). هربت من أهلها، ونحن لا نعرف حكايتها، لكن صاحب المكان يعرف بالتأكيد لأنه هو من أتى بها إلى هنا... إنتا عاوزها؟ دي الليلة معاها تكلفك جامد، يعني ممكن تخلص على أربعة (220 دولاراً)». أما تلك الفتاة النحيفة، دندن كما تحب أن تنادى، فكانت تعمل في المراكب النيلية كراقصة بخمسة جنيهات للرحلة الواحدة، التي تكون مدتها عادة نحو 20 دقيقة، وخلال عملها تعرفت إلى سامح، الذي وصفته بأنه يعيش على «عرق الستات»، أي أنه يقوم بتشغيل النساء في الدعارة والكباريهات، مقابل نسبة من المبالغ التي يتم تحصيلها. وخلال عملها مع هذا الشخص وصلت إلى المكان الذي تعمل فيه الآن، وتحاول بحسب ما قالت، توفير بعض المال لنفسها حتى تبدأ حياة «نظيفة». تناولت سناء الزجاجة التي أمامي ثانية وسألتني إن كنت بحاجة إلى خدماتها بعد أن أنهي ليلتي، فأومأت برأسي أن «لا». وقبل أن يفتح النادل زجاجته الخامسة طلبت منه الفاتورة، التي كانت تتعارض تماماً مع ما قرأته في لائحة المكان من أسعار. لم أحاول أن أناقش في الأمر كثيراً... ولم أنس قبل الخروج أن أدفع «البقشيش» للنادل الذي أنهكني بزجاجاته التي لم تسكرني... وقبل أن أخرج من الباب وجدت «عم جمال» الحارس يقف عن كرسيه فمددت يدي في جيوب ملابسي باحثاً عن جنيهات عشرة أدفعها لقاء ابتسامة رضا وبعض الأدعية وكلمات الشكر التي لم يتوقف الرجل عن إطلاقها حتى غبت عن عينيه.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 41 دقيقةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...