"إليك يا قاهرة، إلى أضوائك القاسية، التي لطالما عذبت عيني، وأنا قابع هناك في الجبل المضياف بصخوره الحانية، وكلابه العاوية، وصمته الكئيب، ثم إلى هؤلاء المترفين الكسالى، الذين ينكرون علي إيماني بالألم وعبادتي للدموع، وإخلاصي للأحزان" (على ضفاف الجحيم ــ صالح الشرنوبي)
"أحيانا أشعر بالتعب والإرهاق، وكثيراً ما أكون بحاجة إلى حياة طبيعية في بيت العائلة بين أهلي وناسي، لكن هناك دائماً شيئاً غامضاً يدفعني نحو الإقامة هنا.. في القاهرة الساحرة".
بهذا بدأت ياسمين، (اسم مستعار) حديثها عن القاهرة التي تغترب فيها منذ 6 سنوات. فهي ابنة ميت بدر حلاوة، إحدى قرى مدينة المحلة الكبرى بمحافظة الغربية، تعمل بالصحافة، وتبلغ من العمر 23 عاماً.
تضيف ياسمين، التي ترى أنها تغربت عن قريتها قبل الأوان: "أنا جيت عشان الدراسة الجامعية، كان نفسي أبقى صحفية، وأشتغل في مجال الإعلام".
هذا ما حدث، بعدما درست في كلية الإعلام جامعة القاهرة، بدأت العمل في الصحافة، واليوم توسع حلمها وتسعى للعمل في مجال الميديا الأوسع انتشاراً.
حكاية الغول المخيف
تبدو حياة القاهرة لكثير من أهل القرية غولاً مخيفاً يكسر بداخلهم الإلفة والأنس، ويثير الوحدة والحنين الدائم لدفء القرية. فبينما تتسم القاهرة بالحركة السريعة التي تلتهم في باطنها من تتأخر خطاه، تجد القرية هادئة مطمئنة غير مربكة لأهلها، ما يغير بدوره مفهوم الزمن وإيقاعه في تفكير سكان الريف والمدينة. وإذ تجد العاصمة تموج بالحركة والتفاعل اليومي في سوق العمل، وفرص الوظائف المرهقة حد الاستنزاف، تجد الريف يعمه السكون لدرجة تصل لضيق ذات اليد مقارنة بالمدينة. أخذ ورد بين الحياة هنا والحياة هناك، معادلة صعبة أن يــُوفِقَ الوافدون من الريف بين نمط الحياة بين القرية والقاهرة ما لم يـُـدفع ثمن باهظ، يتغير معه نمط التفكير والشخصية، وأحياناً تتبدل معه الروح. قليلون هم من يتمكنون من ترويض شخصيتهم، يقودونها إلى المرح حيناً والسخرية أحياناً داخل قطار واحدة من أكثر عواصم العالم صخباً، والذي يدهس بدوره من يفقد عقله ويقرر المواجهة.القاهرة غول مخيف لأهل الريف يكسر بداخلهم الإلفة والأنس، ويثير الوحدة والحنين الدائم للدفء
المركزية في القاهرة، ودولة المدينة الواحدة تجعل القاهرة حلم أهل الريف وكابوسهم
أرقام وهجرات
بلغت نسبة الهجرة الداخلية من ريف وصعيد مصر للقاهرة الكبرى 55%، وفقاً لتقدير بعض الخبراء، الذين أرجعوا السبب إلى إهمال الحكومات المتعاقبة لـ4726 قرية مصرية يتبعها 26757 كفراً ونجعاً وعزبة في المحافظات. إضافة إلى وجود 359 قرية بالظهير الصحراوي لم تتم الاستفادة منها، بعدما بلغ عدد سكان مصر 92 مليوناً في 2016. وبحسب تقرير الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، تعتبر القاهرة الصغرى، عاصمة البلاد، أكبر المحافظات من حيث عدد السكان، وقد اقترب مؤشر الساعة السكانية فيها من تسجيل حوالي 10 ملايين نسمة، وفقاً لمؤشرات 2016. تأتي بعدها محافظة الجيزة الأثرية، التي لا تنفصل عنها معمارياً، بعدد سكان بلغ 7.923 مليون نسمة، بعدما تراجعت محافظة الشرقية، من المركز الثاني سكانياً إلى الثالث، بعدد سكان بلغ 6.781 مليون نسمة. أما القاهرة الكبرى، فقد بلغ مجموع سكانها حوالي 22 مليون ونصف المليون، وتحتل المرتبة الأولى بين أكثر المحافظات من حيث الكثافة السكانية. ما أتت ياسمين بحثاً عنه، بحسب قولها، هو فكرة المركزية التي تتميز بها القاهرة، وتُحرم منها باقي المدن والأقاليم. تروي أن هناك دائماً ما يجعلها تستمر في القاهرة على رغم قهرها لها: "هنا حياة مختلفة تماماً عن هناك في مدينتي، منها الاستقلالية، وتنوع مصادر العمل، ونسبة النجاح والانتشار الأوسع". تتذكر أكثر المواقف ألماً لها في العاصمة القاهرة حينما طردها صاحب البيت هي وزميلاتها بسبب تأخر دفع بدل الإيجار. لم تجد مكاناً تبيت فيه ليلتها، ولم يكن أمامها سبيل سوى طلب إجازة من الشغل لحين ترتيب أوضاعها، تقول: "رجعت بيتنا لمدة، ولما لقيت الإيجار عموماً مبالغ فيه، قررت أرجع وأحل مشكلتي بالتراضي مع صاحب البيت، عشان أقدر أحافظ على اللي حققته في شغلي".الهجرة بحثاً عن العمل
تتصدر القاهرة المدن الجاذبة للسكان في الهجرة الداخلية بعد محافظات الإسكندرية وبورسعيد والسويس والإسماعيلية والجيزة وكفر الشيخ، لأسباب ترجع إلى توافر فرص العمل، وارتفاع الأجور قياساً على القرى والأقاليم. بالإضافة إلى تركز الصناعة والتجارة وأعمال الموانئ والملاحة، فيما تختلف أسباب الجذب في المحافظات الأخرى لأسباب أخرى تستند في مجملها إلى توافر مساحة استصلاح أو استئجار الأراضي الزراعية. قلة فرص العمل في الأقاليم والقرى، وانخفاض نسبة الأجور، وتدهور مستوى الخدمات الصحية والتعليمية، "أسباب طرد" جعلت محافظة سوهاج تلفظ علاء، ابن السابعة والعشرين عاماً، للعمل في القاهرة. لكن العاصمة لم توفر له الحل. فعلى الرغم من أنه خريج كلية الآداب، عمل في وظائف لا تمت لشهادته بصلة، فاشتغل نجار مسلح، وبواباً، ومساعد كهربائي، ثم في سوبر ماركت، وفي مغسلة. وجد نفسه أنه يدور في دوامة لا تجدي نفعاً، فقرر الرحيل خارج البلاد لعله يجد الحظ والعمل.اللي يصعب عليك يفقرك
"القاهرة صنعت مني رجلاً بلا قلب، جعلتني آلة عمل، وماكينة صرف آلي"، يقول حازم الذي رفظ ذكر اسمه الكامل ويبلغ من العمر 33 عاماً. هو خريج بكالوريوس تجارة ولا تمتلك عائلته أصولاً ثابتة من الأراضي زراعية، وإن كان لديها بيت كبير يجمع أفرادها. "كان عليّ أن أجمع الكثير من الأموال، التي تزيد معها عمليات الإيداع والسحب لأشعر بأني على قيد الحياة"، يقول شارحاً أنه شعر كأنه مستهلك كبير يسير بسيارته إلى جوار مستهلكين أكثر نهماً واستعداداً للاستهلاك. هاجر الشاب الثلاثيني من قرية تابعة لمدينة دمنهور منذ 10 سنوات، وعمل في بعض المهن التي لا علاقة لها بالمحاسبة، إلى أن وجد فرصة عمل في أحد البنوك الخاصة. وحازم، الذي يقضي وقتاً طويلاً في العمل قال عن أثر القاهرة فيه: "لن أخفيك سراً، مهنتنا قائمة على التخلي عن المشاعر". "قد يصل الأمر إلى توريط العميل كي أحصل على عمولتي التي سأجنيها منه. هنا لا أحد يعرف يعرف أحداً (واللي يصعب عليك يفقرك)"، يقول ذاكراً المثل المصري.المدينة المخنوقة
"أهل القاهرة يعانون فى ظل غلاء المعيشة، قياساً على الأسعار في القرية، أضف إلى ذلك الضغط العصبي والنفسي الناتج عن الزحمة. القاهرة مدينة مخنوقة". على هذا النحو تحدث هشام، 29 سنة، وهو طبيب من إحدى قرى الغربية، يعيش في القاهرة منذ 3 سنوات: "الوجه القبيح للضغوط والزحمة"، بل هي "المدينة الأسوأ على الإطلاق في هذا الأمر"، لكنه لم يغفل أنها العاصمة حيث العلم والتكنولوجيا. يضيف هشام: "لم أكن مقتنعا بجدل (العاصمة والأقاليم)، أو ثنائية (الريف والمدينة) إلا حينما جئت إلى القاهرة، وعملت بها". يرصد الطبيب الشاب مميزات للقاهرة فيقول: "حينما عملت في عدد من المستشفيات بالعاصمة، لاحظت فارقاً في التكنولوجيا والعلم والتقنيات المستخدمة هنا قياساً على الأجهزة الطبية الفقيرة، أو المعدمة في الأقاليم والريف". وقد استطاعت العاصمة، التي ضاقت على أهلها، وملأ تلوثها رئات الناس أن تعطيه بحسب قوله خبرات مهمة. (يا عم من أين الطريق/ أين طريق السيدة؟/ أيمن قليلاً ثم أيسر يا بني/ قال ولم ينظر إليّ؟/ والناس يمضون سراعا/ لا يحفلون/ أشباحهم تمضي تباعا/ لا ينظرون) (الطريق إلى السيدة ــ عبد المعطي حجازي) "المغامرة والرحلة وتجربة الحياة بنمط مختلف والبحث عن فرصة عمل أفضل"، هي دوافع وراء مغادرة غادة الإسكندرية. تكشف غادة عن أزمة السكن المشترك التي عانت منها مع بدء وجودها بالقاهرة: "كابوس كبير إنك تكون عايش في سكن مشترك، مفتقد فيه الخصوصية والأمان". تضيف: "كان أول ما فكرت به هو أن أتخلص من كابوس السكن المشترك، وهو ما تحقق بالفعل بمجرد استقراري مالياً ووظيفياً". تقيم غادة في القاهرة منذ 6 أعوام، وتعمل بالصحافة، حيث ترصد سلبيات القاهرة المجتمعية على مستوى التحرش والزحام والتلوث وقلة النظام، ومخاوفها من تداخل شوارعها والمواصلات والأماكن التي لم تكن تعرفها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون