لا تحتاج ليلى، اسم مستعار لشابة لبنانية في نهاية عقدها الثاني، إلى أكثر من ربع ساعة حتى تستعد لسهرة نهاية الأسبوع في مزيان.
الإيتيكيت في نهاية سلم الأولويات
مزيان، مطعم وبار يتوسط شارع الحمراء في بيروت. على طاولات مصنوعة من الخشب المعالج تنعقد المجالس وتتنوع الأحاديث، فنسمع تنظيراً عن الحب ونقاشاً في معنى الحرية وأخذاً ورداً عن جدوى الحروب ومفهوم الانتماء. في زاوية أقل صخباً يجلس عاشقان يحتفلان بذكرى المواعدة الأولى على وقع أغنيات تنتمي إلى تسعينات القرن الماضي. قياساً إلى مطاعم وسط بيروت، يعتبر مزيان مكاناً رخيصاً نسبياً. هذا التفصيل يشكل عنصر جذب يساهم، بالشراكة مع عوامل أخرى، في جعل البار شبه ممتلئ على الدوام. من اعتاد أن يزور مزيان في سهرات نهاية الأسبوع، ربما يستغرب الحديث عن هدوء المكان وطراوة مزاجه، فالبار في الـ"ويك إند" يبدو أقرب إلى صندوق واسع فقد ملامحه لمصلحة الصخب والرقص والأغنيات. "أغلب الشباب الذين يرتادون مزيان يفضلون الجينز والتي شيرت، كما أن الفتيات لسن مضطرات للذهاب إلى مصفّف الشعر وشراء فستان رسمي قبل السهرة، فالمكان شعبي بما يكفي لجعلِ الإيتيكيت في نهاية سلم الأولويات". تقول ليلى.بياع الورد، خالد
ما إن تصل إلى مدخل البار حتى يستقبلك خالد، طفل سوري يعمل رفقة شقيقته وابن خالته ببيع الورد، تراه يصطاد العاشقين، ويحفز الشباب على شراء وردة للحبيبات. يوشك الصبي أن يصير جزءاً من مكونات مزيان، فالعلاقة بينه وبين رواد المكان تجاوزت ثنائية البياع والزبون، وتعدتها إلى مساحة من الإلفة جعلت الجميع يحزن مرة، إثر تعرض خالد لحادث سيارة، ويفرح غير مرة، حين عاد بياع الورد الصغير إلى سابق صحته ونشاطه.المختبر البشري
يبدو مزيان، في سهرات نهاية الأسبوع، أقرب إلى مختبر بشري واسع يضم خليطاً غير متجانس من الأنماط. هناك من يقصد المكان بحثاً عن تعارف سريع ينتج علاقة عابرة، وهناك من يجد نشوته في الرقص حتى ساعات الفجر الأولى. للسكارى حضورهم الذي لا يمكن تجاهله، فتراهم يرفعون النخب تارة، ويواسون صديقاً لم يبتسم له الحب تارةً أخرى. المثليون يحضرون علانية في مزيان، يشربون ويرقصون ويتحدثون. هنا، لا أحد يسيء لهم، والأصح أن لا أحد ينتبه لوجودهم، والأصح أكثر أنه في "مزيان" لا أحد ينتبه لوجود أحد."مزيان متل التخت.. ما إلو دين"
استثنائية بيروت. ليس في العالم العربي مدينة تشبهها، فهي تستوعب الأضداد والخصوم. هؤلاء قد يشتبكون سياسياً، وقد يتحزبون دينياً، وفي بعض الأحيان تراهم يصدرون خلافهم إلى الشارع. هذا كله يتلاشى حين تصير في البار. "قبل أن تدخل إلى مزيان يجب عليك أن تترك انتماءك السياسي ومعتقدك الديني وخصوماتك الفكرية خارجاً" تقول ليلى. يستطرد صديقها، عمار، وهو مخرج سينمائي شاب: "بفيلم بيروت الغربية بتقول أم وليد (قوادة لعبت دورها ليلى كرم) التخت ما إلو دين، ومزيان متل التخت ما بيسأل لا عن دينك ولا عن فكرك ولا لأي حزب بتنتمي"."مزيان متل التخت ما بيسأل لا عن دينك ولا عن فكرك ولا لأي حزب بتنتمي"
لا فرق بين لبناني وغير لبناني، فالكل في حسابات المكان سكارى أو صعاليك أو عشاق... عن مقهى في بيروت
سكارى أو صعاليك أو عشاق أو مثقفون
"مزيان نموذج ممتاز لمناهضة العنصرية"، يقول آرام، شاب سوري استقر أخيراً في بيروت. يؤمن آرام بالعقيدة السورية القومية الاجتماعية، ويعتبر سوريا ولبنان وفلسطين والعراق جزءاً من المكون الجغرافي للأمة السورية. "عانيت في بعضِ مناطق بيروت من مضايقات عنصرية جعلتني أفكر ملياً في هوية الأمكنة التي يجب أن أزورها، وحين جئت إلى مزيان أول مرة، شاهدت خليطاً من الجنسيات" يقول آرام. "قابلت، صدفةً، أصدقاء دمشقيين قالوا لي إنهم يقصدون المكان بصورة أسبوعية، ولم يتطلب الأمر أكثر من زيارتين حتى فهمت أن مزيان لا يفرق بين لبناني وغير لبناني، فالكل في حسابات المكان سكارى أو صعاليك أو عشاق أو مثقفون"، يضيف لرصيف22. على سبيل الكوميديا يحاول آرام أن يترجم أغنية "يا بتاع النعناع يا منعنع" للغة الإنجليزية، محاولاً تفسير الكلمات لفتاةٍ بريطانية تراقص صديقه. وحين يشعر بصعوبة المهمة يعلق ساخراً "حتى الذين يفهمون العربية لن يستطيعوا تفسير مؤدى الأغنية"، ويضيف "بالإضافة إلى الأجانب، فإن هذا المكان يجمع السوري والعراقي والفلسطيني واللبناني، الأمة السورية كلها بمزيان".من "ورني ورني" إلى "علّي الكوفية"
يلعب الـ"دي جي" بعض الأغنيات الأجنبية، إرضاءً للذوق العام، ثم يقدم خليطاً من الأغنيات التي تناسب الأذواق كلها، بدءاً من "ورني ورني" لعمر سليمان، مروراً بالكلاسيكيات التسعينية ومختارات من الأغنية الموازية، وصولاً إلى "أنا وحبيبي في جنينة" ووصلة قدود حلبية. ما إن تبدأ أغنية "علّي الكوفية" حتى ينضم الفلسطينيون إلى حلقات الدبكة، على الأرض وفوق الطاولات. يقول بسام، شاب فلسطيني يرتاد المكان بصورة دورية: "يخطر في بالي أن هذا الصنف من الأغنيات صنع لبث العزيمة في نفوس الجماهير، لكنه في هذا المكان يشعرنا، نحن الفلسطينيين، بأننا جزء من المكون الشعبي، فنتفاعل معه رقصاً". يتحايل بسام على وجهة النظر التي تعتبر الرقص على وقع الأغنيات الوطنية تسخيفاً من معناها ومؤداها، إذ يقول، بلهجة فلسطينية ساخرة: "أنو يلتقى عالم بيحمى خصرها على غنية علّي الكوفية، هاد أشي منيح، في ناس بس تجي سيرة الكوفية بتعمل حالها مش سمعانة أشي"."ما حدا عرفان على أي ثورة عم يرقص"
قبل عام 2011، كانت أغنيات المطربة اللبنانية جوليا بطرس أحادية المعنى. فالـ"مقاوم" هو الواقف في صفّ خصوم إسرائيل، والـ"ثائر" هو الفلسطيني المناهض للاحتلال، والـ"ثورة" تعني حلماً بتغيير يقود انتفاضة ضد الكيان الصهيوني. على خلفية الحراكات الشعبية في العالم العربي عامةً، وفي سوريا على وجه الخصوص، انقسم الناس، سياسياً وفكرياً، إلى تيارات، وصار كل تيار يفسر المفردة وفق أدبياته وفهمه. فالشارع المؤيد للدولة السورية وحلفائها يستعمل مصطلح "محور المقاومة" للحديث عن ثلاثية (دمشق، طهران، حزب الله)، أما المعارضون فيرون المقاومة في مكان آخر. حين تعلو أغنية "نحنا الثورة والغضب"، تشاهد المكان ويتفاعل عن بكرة أبيه. يبدو الأمر سوريالياً بدرجة ما، فالـ"ثورة" التي جعلت الشعوب تنقسم بين مناصرٍ لها وحاقد على نتائجها، استطاعت، في مزيان، أن توحّد الجميع رقصاً ودبكة. وتعليقاً على الفكرة تقول ليلى: "كل الناس اللي بيتفاعلو مع الغنية بيعتبرو أنها بتمجد الطرف اللي بيعجبهن". وتستطرد شارحة: "المعارض بيقنع حاله أنو الثورة بغنية جوليا هي الثورة السورية ضد النظام، والموالي بيرقص بحماس على أساس أنو الغنية بتحكي عن الثورة الفلسطينية اللي بدها تحرر القدس، وبالمحصلة: ما حدا عرفان على أي ثورة عم يرقص".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...