كأنهم خارجون للتو من لوحة فنيّة. أطفال ممددون بأجساد مخملية أضاف اللون الأحمر عليها مسحة درامية. يد صغيرة ترتاح على جسد آخر صغير مجاور لها، ويد أخرى مرفوعة، جزعة متشنجة، باتجاه السماء على شكل سؤال.
هم أطفال قرية خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي، الذين انتشرت صورهم وفيديوهاتهم اليوم، وهم مطروحون أرضاً بعد تعرض قريتهم لغارات جوية، رجحت المصادر الطبية الميدانية أنها تحتوي على غاز السارين السام.
تتسارع الأرقام من هناك مخبرة عن عشرات قضوا في الغارات، وعن مئات من المصابين يصارعون حالات التسمم والاختناق، وعن لائحة ضحايا ترتفع بشكل متسارع.
والطفل يرفع يديه باتجاه السماء.
تبدو الأرقام عدة أساسية في تغطية هذه المجازر المتكررة، لكن الصور أكثر تعبيراً عن ضحايا يستحيل تحويلهم أرقاماً، فما تقوله عيونهم الشاخصة وتعابير أجسادهم أكبر من أن يُحتسب بعدد. في صورة كل واحد منهم، مجزرة بذاتها.
هكذا تتزاحم الصور في "ألبوم المجازر"، بينما ينفي الجيش السوري استخدامه للسلاح الكيميائي، وفي الغالب ينفي امتلاكه لها.
في مجزرة إدلب، كما في المجازر التي سبقتها من هذا النوع، أكدت الكوادر الطبية الميدانية بعد معاينة الضحايا إصابتهم بغازات سامة، من عوارض الانتفاخ إلى خروج الرغوة البيضاء من الفم إلى لون العيون والرائحة التي تفوح من الأجساد في المكان وحالات الصداع والتسمم.
والطفل يرفع يديه باتجاه السماء.
بحسب ما نقلت "بي بي سي" عن "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، فإن الغارات ألقتها طائرات تابعة للنظام السوري أو طائرات روسية، ما يذكّر بمجازر عدة حصلت على هذا الشكل، كان أبرزها مجزرة الغوطة المروعة، التي سقط ضحيتها المئات، قبل أربع سنوات، نتيجة استخدام الغازات الكيميائية السامة.
بعد الاعتداء على الغوطة، والذي أتى بعد أيام قليلة من بدء زيارة البعثة الدولية إلى سوريا، أعلنت سوريا أنها انضمت إلى معاهدة حظر استخدام الأسلحة الكيميائية، مؤكدة أن ترسانتها رادع في وجه إسرائيل وأعداء الخارج ولم ولن تستخدمها في الداخل السوري.
لكن بحسب تقارير للأمم المتحدة وتقارير ميدانية، استخدم النظام غاز السارين السام في العديد من الضربات التي نفذها لاحقاً بين عامي 2014 و2016، كما حصل في تلمنس وسرمين في إدلب. كما أشارت منظمة "هيومن رايتس ووتش" إلى استخدام النظام للغازات السامة في العام 2015 في حلب.
وبحسب الخبراء، فإن هذه الاعتداءات تحصل على نطاق مصغر، ويعتمد فيها النظام غاز الكلورين الذي لم تشمله المعاهدة باعتباره يستخدم لأغراض صناعية.
يأتي هذا الاعتداء بينما تستضيف العاصمة الأوروبية بروكسل مؤتمراً دولياً يناقش مستقبل سوريا ويراجع المساعدات الذي وعد المجتمع الدولي سابقاً بتقديمها لسوريا. في وقت دعت فرنسا إلى اجتماع لمجلس الأمن على خلفية الاعتداء، واكتفى الجانبان الروسي والسوري بنفي المسؤولية عن الهجوم.
دليل المجزرة
في ما يشبه الدليل المعد سلفاً حول خيارات التعامل مع المجزرة، يعيد كل طرف تكرار دوره مع كل اعتداء، من دون أن تكسر فجاجة الصور وقسوتها أي رتابة في المشهد الدموي. هكذا، تذوب صور المجازر شيئاً وشيئاً وتتحول إلى مشاهد بعيدة، كما صور فيلم هوليوودي قديم، أو أغنية وطنية فيها جرعة كبيرة من الأسى والحنين، أو غضب دفين تغلفه تفاصيل الحياة اليومية. شيئاً فشيئاً، وبعد وقت قصير جداً، تملأ السياسة المشهد. يخرج من يحلل أبعاد قصف إدلب سياسياً، ثم يعلق آخر على تأثير استخدام الكيميائي على مفاوضات آستانة. بعدها، يأخذ كل طرف موقعه السياسي في مقاربة المجزرة، حيث أبعاد خان شيخون الاستراتيجية/ العسكرية، ومسؤولية النظام في الجريمة المرعبة. ولا ينسى آخرون التذكير باعتداءات "داعش" الكيميائية كما حصل في خان العسل، والتركيز على تلك الصور المركبة التي تمت المبالغة في استخدامها من قبل المعارضة السورية. بعد أيام تبدأ صور المجزرة بالتلاشي. تلاشٍ لا يكون بالضرورة في غيابها عن وسائل الإعلام بل على العكس، هو تلاش في وطأتها الوجدانية على من يراها وفي قدرة وجوه ضحاياها، وتحديداً أطفالها، في التفوق على كل محاولة تبرير في السياسة أو في استراتيجيات المعارك. ثمة بند آخر في دليل ما بعد المجزرة لم يحسم الجدل بشأنه بعد. ماذا عن هؤلاء الأطفال، "المكدسين" فوق بعضهم البعض، بينما في إحدى التسجيلات تمتد يد باردة لتقلب وجه أحدهم "عنوة" صوب الكاميرا، لتضع عيونه المفتوحة على الفراغ في مقابل العدسة. الوجه المائل لا يجذب التعاطف، بينما الوجه المحدق في العدسة يفعل، ربما هذا ما كان يعتقده حامل الكاميرا في تلك اللحظة."حرب سوريا... كأنها لم تقع"
يفيد هنا التذكير بـكتاب سوزان سانتاغ الصادر قبل سنوات تحت عنوان "الالتفات إلى ألم الآخرين"، التي تناقش فيه علاقة الصورة بالحقيقة، وما يتركه تصوير مشهد الألم من تأثير على الشخص المتألم، كما الأثر الذي تحدثه الصورة في الناظر إليها.في المرحلة الأولى، تفسر سونتاغ أن الصور التي تنقل بعد المجزرة بقليل أو أثناء وقوعها هي طرق توفرها الحياة الحديثة لـ"الالتفات إلى ألم الأشخاص الآخرين"، شارحة أنها تثير استجابات مختلفة من الغضب والكره عند الطرف المعارض وادعاءات بالفبركة عند الطرف الآخر، تليها دعوة للسلام وصرخات للانتقام ووعي مربك بأن أشياء مريعة تحدث حولنا. في مرحلة لاحقة، تقول سونتاغ إن "الشهية" لرؤية الصور التي تظهر ألم الأشخاص بأجسادهم الضعيفة تشبه رغبة الناس برؤية صور أجساد عارية، يقابلها شعور بالعار وشعور آخر بالصدمة والرعب. في مكان ما، تخلص الكاتبة الأمريكية إلى أن الصور المألوفة، والمحتفى بها على صعيد واسع عند عرض عذاب أو دمار، تأخذ منحى استهلاكياً، وتصبح أكثر تأثيراً عندما يتم توليفها بعناية وتصويرها بشكل احترافي. هكذا برأيها، يحق فقط لمن يمكن تقديم المساعدة المباشرة كأطباء ومسعفين، ولمن يمكن أن يتعلم شيئاً من تلك الصور، أن يشاهدها، عدا ذلك فالجميع يتلصص لا أكثر، سواء اعترف بذلك أم لم يعترف. ومثل سونتاغ كثر من الباحثين انقسموا بين نظريتين، أو بالأحرى سؤالين: هل يثير تكرار صور قاسية وعنيفة إلى مراكمة المطالب وبالتالي وقف الحرب كما حصل في فييتنام، أما أن عرضها المستمر يؤدي إلى تبلّد الإحساس وتلاشي السخط والتنصل الأخلاقي اللاواعي من تلك المشاهد، على قاعدة "التعاطف حين يشتد إلى أقصاه، يتراخى"؟"الشهية لرؤية الصور التي تظهر ألم الأشخاص تشبه رغبة الناس برؤية صور أجساد عارية... يقابلها شعور بالعار"
وعلى ما قاله الفيلسوف جان بودريار في إحدى مقالاته ضمن مجموعة حول "حرب الخليج" في "ليبراسون" و"غارديان" تحولت لاحقاً إلى كتاب، فإن الصور تشبه ألعاب الفيديو، فلا دم حقيقي فيها ولا معاناة ملموسة لدى من يشاهدها، وبالتالي فإن البعيد جسداً عن ساحة الحرب، يبدو في مكان ما وكأن الحرب لم تقع بالنسبة إليه. لا جواب محدد حول أخلاقيات التعامل مع صور الضحايا في الحروب، وأصول نشرها من حجبها، غير أنها تبقى في أضعف الأحوال لفت انتباه لآلام الآخرين ودعوة للتأمل والتعلم، كما تقول سونتاغ. عدا ذلك، فالحرب مرعبة، كذلك صورها، ولا يمكن أن تصبح شيئاً عادياً. كل ما في الأمر، أن عقل الإنسان لا يمكنه عند حد معين استيعاب كل هذه الوحشية، لا يمكنه أن يفهم ولا أن يتخيل، فيفضل كرد فعل لا واع التعامل معها كفيلم فيديو، كأنها لم تكن. يرى الصورة، يعتصره الألم، ثم يمضي متابعاً تفاصيل حياته اليومية. وطفل إدلب لا زال رافعاً يديه صوب السماء.عقل الإنسان لا يمكنه استيعاب كل هذه الوحشية، فيتعامل معها كمشهد في فيلم، يعتصره الألم ثم يتابع تفاصيل حياته اليومية
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين