"في مصر محدش بيبات من غير عشا". حتى وقت قريب، كان يمكن أن تعتمد هذه المقولة كرد على تفشي حالات الفقر والعوز. لكن، بعد تعويم سعر الجنيه، وما أعقبه من طفرة في أسعار المواد الغذائية، يمكننا أن نتردد قليلاً في استخدامها.
وبينما يأتي الفرج من حيث لا تدري، فوجىء الشارع المصري بمبادرات شبابية، أصحابها أطفال في مرحلة التعليم الأساسي، لسد جوع المحتاجين والفقراء، مع مراعاة مشاعرهم والحفاظ على كرامتهم.
"شطيرة ع الحيطة"
بشغف طفولي وبسمة لا تنقطع عن وجهه القمحي اللون، يبدأ محمد مجدي، الطالب في الصف الأول الثانوي، حكاية مبادرته "شطيرة ع الحيط". فيحكي أن محركه الأول هو موقف أثار مشاعره عندما كان يتناول غداءه مع صديقه محمد عصام في أحد المطاعم، ولمح شاباً تشير ملابسه إلى وضعه المادي الصعب، يطلب من البائع شطيرة واحدة فقط، ويرجوه أن يقسم هذه الشطيرة إلى نصفين، ليقتسمها مع صديقه. وهذا ما أدهش البائع الذي عرض عليه أن يعطيه شطيرة أخرى بلا مقابل، فرفض الشاب وشكر له عرضه الكريم وبقي متمسكاً بطلبه. كان في انتظاره صديقه، الذي يراقب في حسرة وجبات الطعام التي يتناولها زبائن المطعم بنهم. تسلّم الشاب طلبه واقتسمه مع صديقه المنتظر في لهفة. أمام هذا الموقف، شعر مجدي بغصة، لم يستطع بعدها إكمال طعامه، إلا بعد أن فكر هو وزميله أن يشتري بما تبقى من نقودهما شطائر، تاركين الفاتورة على حائط المطعم، ظاهرة للعيان. هكذا يمكن للشخص غير القادر على شراء الطعام، أن يأخذ الفاتورة، يقدمها للبائع من دون أي شعور بالذل. أقنع مجدي وصديقه صاحب المطعم بفكرتهما، التي يمكن من خلالها أن يحصل الفقير على طعام من دون الشعور بالإهانة. قال مجدي: "مصروفي خمسة جنيهات في اليوم، وكل يوم أثناء عودتي من المدرسة، أشتري بونات شطائر، استكمالاً للمبادرة الأولى".ردة فعل مفاجئة
يصف محمد عصام شريكه في الفكرة وزميل دراسته، سعادتهما عندما اكتشفا انتشار المبادرة خلال أسبوعين فقط من إطلاقها. وعرض الكثيرون الدعم والمساندة. يقول: "كنا نطبع يافطات وملصقات الدعاية من مصروفنا الشخصي، ومن دون علم والدينا ومعارفنا خشية أن يقفوا في وجه مبادرتنا بحجة الانتباه إلى الدراسة". عرضت عليهما إحدى شركات الدعاية والإعلان طباعة كل ما له علاقة بالمبادرة مجاناً، كما عرض آخرون مساعدات مالية. يقول محمد: "لا يمكن وصف سعادتنا عندما وجدنا أن البونات قفزت من اثنين أو ثلاثة فقط في اليوم، إلى نحو 35، ولا تشتمل شطائر فقط، إنما وجبات كاملة مكونة من لحوم أو دواجن". ويضيف: "ردود أفعال الناس هي حقاً ما دفعنا للاستمرار، رغم مسؤولية الدراسة، فتلقينا على صفحة المبادرة على مواقع التواصل الاجتماعي رسائل تفيد إعجاب آخرين من محافظات أخرى بالفكرة ورغبتهم في تطبيقها".مراقبة الفكرة تكبر
حالما ظهرت المبادرة للنور، انهالت على مؤسسيها الاقتراحات التي تهدف إلى تنظيمها أكثر، وتطويرها. فاقترح أحدهم أن يتم تجميع بقايا الطعام من الفنادق الكبرى، التي تلقي الفائض منها بعد المناسبات الاجتماعية، وبقايا الطعام من المحالّ والمطاعم الفاخرة، ليعاد تقديمها بشكل مناسب. لكن الفكرة لم ترق لهم، إذ هم ينشدون طعاماً معداً خصيصاً لصاحبه، يكفل له عزة النفس والكرامة، بعيداً عن فكرة بقايا الطعام. أول من اجتذبته فكرة المبادرة كان صديقهم الثالث عبدالحميد أحمد، الذي يهوى التصوير، فقرر استغلال موهبته في إعلاء قيمة المبادرة وتوثيق كل اللحظات الهامة بكاميرته بالصور أو بالفيديو". يقول عبدالحميد: "بعد أن ننتهي من دروسنا ومدرستنا، نجول على المطاعم في "العبور" مدينتنا، ونحاول أن نقنعهم بفكرتنا". هكذا وصف عبدالحميد يومه مع أصدقائه، ويسرد كيف كانت سعادتهم وهم يراقبون المطاعم التي وافقت على فكرتهم وطبقت المبادرة. ويضيف: "رأيت كيف دخل أحد المحتاجين، الذي دله أحدهم على المطاعم التي توفر طعاماً مجانياً، وشرح له كيفية الحصول عليه، فدخل باطمئنان إلى لوحة الحائط وانتزع "البون"، وذهب للبائع من دون أي حرج، ومن دون أن يلحظ الزبائن ذلك"."خذ ما يكفيك من الطعام"
صندوق من الخشب مبطن بعازل حراري كتب عليه، "خذ ما يكفيك من الطعام". شعار رفعه صاحب محل في محافظة الإسماعيلية، لسد حاجة الفقراء إلى الطعام. فكرة ابتكرها أحمد بدران أحد المنفذين، وصاحب المحل الذي حرص على نظافة الطعام، وتغليفه، ومراعاة تنوعه، ليناسب كل الأذواق. وهذا ما دفع العديد من المحالّ المجاورة للمشاركة في الفكرة، ثم انتشرت في بعض ضواحي ومدن محافظة الإسماعيلية. يقول بدران: "نكتفي بما لدينا من مواد غذائية، ولا نقبل تبرعات مالية. نضع نحو عشرين وجبة يومياً، من عصائر وجبن ومربيات وخبز، ونتمنى أن تنتشر هذه المبادرة في كل المحافظات، خصوصاً في المدن والشوارع المكتظة بمحالّ مختلفة، يمكن أن تدعم الصندوق بشتى أنواع الطعام".ساعة للأكل مجاناً كل يوم
ينظم مطعم "كبدة وشاورما" في منطقة الدقي ساعة يومية من الخامسة حتى السادسة مساءً، لتقديم الطعام لكل محتاج. يوضح خالد الشيمي، مدير المطعم، أن المطعم يوزع على المحتاجين يومياً، شطائر من الشاورما والكبدة وغيرها. ويضيف: "نحرص على صنع كل شيء في المطعم، كالسجق والسلطات وحتى الخبز، لنوفر في السعر ونخفضه على المستهلك، ولا نحدد كمية معينة توزع في هذه الساعة، وإن نفدت فلا نمتنع عن التوزيع، بل نحرص على إرضاء كل المحتاجين آملين أن نسهم في سد جوع أكبر عدد منهم". المميز في ذلك المطعم أن كل العاملين فيه هم شركاء في رأس ماله، إذ قرروا الاستثمار فيه ليوزعوا الأرباح في ما بينهم، بدلاً من كسب الرواتب نهاية الشهر. مبادرات فردية وجماعية تعيد النظر في ثقافة التكافل الاجتماعي التي كادت تندثر وتصبح من التراث، وتحاول رأب الصدع الذي تسبب به الغلاء الفاحش وزاد من أعداد الفقراء في مصر. ورغم كل الآمال التي نعقدها على القائمين بها، فهل تكفي مبادراتهم من دون دعم جميع شرائح المجتمع المؤمنة بصون الكرامة الإنسانية للطبقة المعدمة والمحتاجة؟رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...